كان المنصور بن أبي عامر يومًا فى قصره بمدينة الزاهرة، فتأمل محاسنه، ونظر إلى مياهه المطّردة، وأنصت لطيوره المغرّدة، وملأ عينه من الذى حواه من حسن وجمال، والتفت للزاهرة من اليمين واليسار، فإنحدرت دموعه، وتجهَّم قائلًا:
"الويل لك يا زاهرة، فليت شعرى من الخائن الذى يكون خرابك على يديه عن قريب؟". فقال له بعض خاصته: "ما هذا الكلام الذى ما سمعناه من مولانا قط !"، فقال: "والله لترون ما قلت، وكأنى بمحاسن الزاهرة قد محيت، وبرسومها قد غُيرت، وبمبانيها قد هُدمت، وبخزائنها قد نُهبت، وبساحاتها قد أُضرمت بنار الفتنة وأُلهبت".
وقال الحاكى: فلم يكن إلا أن توفى المنصور وتولى المظفر ولم تطل مدته، فقام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن الملقّب بشنجول، فقام عليه ابن عبد الجبار الملقّب بالمهدى والعامة، وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامّة، وانقرضت دولة آل عامر ولم يبقى منهم آمر.
كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصفّا *** أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامرُ
بلــــــى نـــحنُ كنّا أهلهــــــــا فأبـــــادَنا *** صروفُ الليالى والجدودُ العواثِرُ
وخربت الزاهرة، وذهبت كأمس الدابر، وخلت منها الدسوت الملوكية، والمنابر، واستولى على ما فيها من العدة والذخائر، والسلاح، وتلاشى أمرها فلم يُرج لفسادها صلاح، وصارت قاعًا صفصفًا.
وذلك أنه لما انصب غضب العامة على العامريين، توجهوا إلى مدينة الزاهرة التى أسسها المنصور بن أبى عامر فى سنة 368هـ وانتقل إليها ونزلها فى سنة 370هـ، فقصدتها العامة فى حشود هائلة من أخلاط الناس بأمر من محمد بن عبد الجبار الملقّب بالمهدى -والذى أعلن نفسه خليفة وخلع عبد الرحمن شنجول- لأنها حصن العامرية المنيع، ومعقلها الأعظم، وحاول الثوار اقتحام المدينة، ولكن رجال حاميتها ردوهم عن أسوارها.
وفى صباح اليوم التالى أرسل ابن عبد الجبار ابن عمه مع فرقة من رجاله لمخاطبة أهل الزاهرة فى الإستسلام، وانضم إليه من العامة النهّابة حشود لا حصر لها ولا عدد، تدفقت على المدينة كالسيل الجارف واجتاحوا سورها، فنقبوا فيه ثغرات من جانب باب السباع وباب الجنان، وانتشرو فى قصورها ينهبون ما يقع بأيديهم فى قاعتها من مال وتحف وروائع وعدة وسلاح وذخائر وفرش وآنية وعدد سلطانية، حتى اقتلعوا الأبواب الوثيقة الخشب الضخمة.
ثم أصدر ابن عبد الجبار أمرًا بهدم المدينة وحط أسوارها وقلع أبوابها وطمس آثارها، فبلغوا من تدمير تلك المدينة الجليلة ما لا يبلغه الدهور المتعاقبة فأصبحت كأن لم تغن بالأمس.
ولقد كانت الزاهرة على حد قول الأستاذ ليفى بروفنسال أكثر المنشآت الخلافية زوالاً، إذ لم يكن فد مضى على بنائها أكثر من ثلاثين عامًا، وكان زوالها شاملًا، لدرجة أنه لم يترك له آثر.
ويروى أن بعض أولياء ذلك الزمان مر بها، ونظر إلى مصانعها السامية الفائقة، ومبانيها العالية الرائقة، فقال: "يا دار فيك من كل دار، فجعل الله منك فى كل دار". قال الحاكى: فلم تكن بعد دعوة ذلك الرجل الصالح إلا أيام يسيرة حتى نُهبت ذخائرها، وعم الخراب سائرها، فلم تبق دار فى الأندلس إلا ودخلها من فيئها حصة كثيرة أو قليلة، وحقق الله تعالى دعاء ذلك الرجل الذى همته مع ربه جليلة. ولقد حكى أن بعض ما نهب منها بيع ببغداد وغيرها من البلاد المشرقية.
فسبحان من لا يزول سلطانه، ولا ينقضى ملكه، لا إله إلا هو.
المصدر والمرجع:
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر- بيروت، ط1، 1900م.
- السيد عبد العزيز سالم: قرطبة حاضرة الخلافة فى الأندلس، الجزء الأول.
- داليا راشد: نبوءة المنصور، موقع أندلسي.
قصة الاسلام