تقنية التقاط الحركة وما حملته معها من تأثير على عالم المؤثرات البصريّة
“هل استعملوا ديناصوراتٍ حقيقية؟”
كانت هذه الجملة تعليق أحد المُعجبين بفيلم Jurassic World على صفحة الفيلم على “فيسبوك”، حيث أراد مازحاً أن يعبّر عن مدى إعجابه ودهشته من روعة تصميم الديناصورات وبنائها الرقمي لتبدو وكأنّها حقيقية بالفعل، لدرجة تجعلك تفكّر ولو للحظات، “هل هذه ديناصورات حقيقية!!”، قبل أن تتذكّر انقراض هذه الحيوانات منذ زمنٍ بعيد.
في الحقيقة لم يكن Jurassic World المثال الوحيد عن روعة المؤثرات البصرية المُستخدمة في الفترة الأخيرة، بل يمكن اعتباره مثالاً من بين عشرات الأعمال التي صدرت في العقد الأخير وحملت معها تجارب لا تُنسى في مجال الصورة والإبهار البصريّ.
لنصبح اليوم نرى وحوشاً ومخلوقاتٍ غريبة في أفلام هوليوود قادرة من خلال احترافيّة صنعها وتحريكها أن تربط مشاعرك بالفيلم في كل لحظة وفي كل مشهد، تتعاطف معها، تخاف منها، أو تحزن عليها.



بالتأكيد هنالك عدة عوامل ساعدت بالوصول إلى هذه الدرجة من الإبداع البصريّ، أجهزة الحاسوب والمحاكاة الحديثة، ومجموعة واسعة من برامج الرسم والتحريك بميزاتها الخيالية، إلى جانب عدد هائل من الفنيين والرسّامين والمسؤولين عن الخدع البصرية، إلا أن التقنية التي نريد الحديث عنها هنا يمكن اعتبارها السرّ الأكثر أهمية الذي ساعد أفلام اليوم لأن تُحدث ثورة حقيقة في مجال الصورة.
تقنية التقاط الحركة أو الـ Motion Capture والتي ربما سمعت عنها وعن مبدئها أو لم تسمع، ولكن من المؤكد أنها استطاعت أن تجذب انتباهك وتثير إعجابك في أحد الأفلام التي شاهدتها يوماً ما، كديناصورات Jurassic World أو شخصية Hulk في فيلم Avengers: Age of Ultron أو العديد من الأمثلة التي رأيناها في عالم الشاشة الكبيرة.
أما إذا كنت من المهتمين بألعاب الحاسب الحديثة وأذكر على سبيل المثال ألعاب كرة القدم الشهيرة فلا أشك بأنك راقبت مراراً وتكراراً حركات اللاعبين وقفزاتهم التي أصبحت أشبه بحركات الإنسان الطبيعي في محاكاةٍ تكنولوجية رائعة.



باختصار، تعتمد تقنية التقاط الحركة (أتحدث هنا عن مجال استخدامها في صناعة السينما) على التقاط وتسجيل حركة أشخاص أو مجسّمات محددة، ومن ثم نقل هذه الحركة إلى أجهزة الكمبيوتر لمعالجتها وتحليلها والتعديل عليها.
بعد ذلك يتمّ وضعها على المخلوقات المبنيّة رقمياً خصيصاً للفيلم لمنحها “الحركة” التي تم التقاطها، فعلى سبيل المثال فإن شخصية Hulk المشهورة في أفلام “المنتقمون” Avengers اعتمدت كلياً على هذه التقنية، فكان المطلوب في المرحلة الأولى تصميم الشخصية بواسطة الحاسب وبناء شكلها النهائي وإعطائها المظهر ثلاثي الأبعاد.
ثم يأتي الجزء الأكثر صعوبة وهو كيفية تحريك هذه الشخصية ومنحها حركة انسيابية مثالية لا تستطيع أي تقنية أخرى أن توفّرها بشكل أفضل من أداء تقنيتنا هذه، حيث يتم استخدام مجسّات خاصة يجري وضعها بأماكن محددة ومدروسة على وجه وجسم النجم مارك روفالو الذي تكفّل بأداء كل حركات شخصية Hulk التي رأيناها في الفيلم.
بعد ذلك يتمّ التقاط وتسجيل تلك الحركات وتخزينها على أجهزة الحاسب حتى يتم استخدامها لاحقاً لتحريك الشخصية، فنحصل بالنتيجة على واقعية ومنطقية في الحركة تساعد عين المشاهد على تقبّل المشهد بشكلٍ أكبر، فتندمج تماماً معه، وتنسى أن Hulk مجرد شخصية خيالية لا تمت للواقع بصلة!



الأمر ليس بهذه البساطة أيضاً، ففي الفترة الأخيرة بدأت الأفلام بالتنافس فيما بينها على تقديم أفضل ما يمكن في مجال المؤثرات البصريّة، وكما نعلم أن هنالك العديد من الجوائز السينمائية التي تهتم بهذا المجال وأهمّها جائزة الأوسكار لأفضل إنجاز في المؤثرات البصرية والتي يتم منحها سنوياً.
بالتالي لم يعد تحريك الشخصيات أو المخلوقات التي جرى بناؤها هو الهدف الأساسي للمسؤولين عن هذه التقنية، وأصبح التوجه الأساسي للحصول على شخصيات ومخلوقات يمكن أن نصنّفها بالخيالية، لكنّها تحاكي الحركة الواقعية في أدق التفاصيل وأصغرها، ولا أقصد بالـ “حركة” معنى حركات القفز والجري فقط، فالمطلوب من تلك الشخصيات أن توصل انفعالاتها ومشاعرها مثلها مثل بقية الممثلين في الفيلم.
فبدأ العمل على حركة كل عضلة من عضلات الوجه، وكل تفصيل مهما بلغت دقته للخروج بمشهدٍ مثالي يليق بضخامة وأهمية العمل وجودة إنتاجه، فمَنْ شاهد الانفعالات التي تظهر على وجه شخصية Hulk في فيلم هذا العام لا بد أنه لاحظ تعقيداً خيالياً في كل التفاصيل، وتمثيلاً أقرب ما يمكن لحركات وجه الإنسان الطبيعي بكل انفعالاته وحركاته.
حيث تم استخدام نظام Muse الذي جرى تطويره من قبل الممثل “آندي سيركس” بالتعاون مع فريق المؤثرات البصرية ودمجه مع تقنية التقاط الحركة للحصول على تجسيد رائع للشخصية يكاد لا يختلف بشيء عن حركات الشخصيات البشرية المرافقة كـ “ايرون مان” أو “كابتن أميركا”.



بالعودة إلى فيلم Jurassic World والذي أصبح منذ عدة أسابيع صاحب أضخم إيرادات في تاريخ هوليوود بعد روائع المخرج “جيمس كاميرون” Titanic و Avatar، حيث قدّم الفيلم إنجازاً لا يمكن وصفه في مجال المؤثرات البصرية والذي سيمنحه على الأغلب مكاناً بين ترشيحات الجوائز المهتمة بهذا المجال في نهاية العام.
فعند مشاهدتك للفيلم سيكون باستطاعتك رؤية كل حرشفة وكل نتوء وكل تفصيل مهما بلغت دقته على أجساد الديناصورات، خاصةً إن سمحت لك الفرصة بمشاهدة العمل على شاشات الدقة العالية، فلست بحاجة إلا لقليل من التدقيق لتتخيل المجهود الهائل الذي احتاجه الفيلم، وللأسابيع الطويلة من العمل الشاق بهدف خلق هذه الحيوانات المُرعبة من الصفر.



إلا أنّ هذه التفاصيل الدقيقة في البناء لم تكن الشيء الأكثر تميزاً في الفيلم، بل حركة الديناصورات التي جرى تنفيذها بطريقة أكثر من احترافية هي التي وضعتنا أمام لوحة سينمائية خالدة، ومنحت الفيلم وساماً في الإبهار البصري الذي استطاع تقديمه هذا العام.
ومرة أخرى الفضل لتقنية التقاط الحركة حيث سجّل Jurassic World أوّل استخدام لهذه التقنية على أجساد ديناصورات، ممّا أعطى حركة هذه الحيوانات سلاسة وانسيابية رائعة، ووزن حقيقي على الشاشة قادر على إقناعك في كل لحظة كما لو أنها ديناصورات حقيقية خُلقت من جديد بعد انقراضها.
تنبع هذه الواقعية من مبدأ أن الحركة ملتقطة أساساً من حركة ممثل حقيقي، يتعامل مع وزن حقيقي وجاذبية حقيقية، وبعد التقاط هذه الحركات بمجسّات متعددة تم توزيعها بطريقة مدروسة على جسد الممثل، يتم وضعها من جديد على الحيوان المبني في الحاسب لينفّذها كما هي مع بعض التعديلات.
هذا ما ميّز الفيلم عن الأجزاء السابقة التي كانت تستخدم تقنية Key Frame ، هذه التقنية التي تعتمد على تصميم وتنفيذ الحركة على الحاسب دون سحبها من حركة واقعية، الأمر الذي سيلاحظه بسهولة أي متابع لأجزاء السلسلة، وسيرى أن حركة الديناصورات في فيلم هذا العام كانت قفزة في تكنولوجيا المؤثرات البصرية.



يمكن القول بأن فكرة تقنية التقاط الحركة ليست فكرة جديدة كلياً، حيث قامت استديوهات “ديزني” منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي بالبحث المستمر عن أفضل الطرق لصنع أفلام الرسوم المتحركة وأكثرها ابتكاراً وذكاءً بهدف التفوّق في هذا المجال والسيطرة عليه، وتوصّلت منذ ذلك الوقت إلى ما يمكن أن نسميه بالانطلاقة الفعلية لفكرة التقاط الحركة.
حيث كانت تعتمد على تصوير كل مشهد بمفرده، ليتم عرضه على لوح من الزجاج حتى يتم رسمه، وتطلّبت هذه الطريقة العمل بشكل مستقل على كل مشهد من مشاهد الفيلم، وعلى الرغم من صعوبة هذا العمل ومقدار الوقت الكبير الذي تطلّبه، إلا أنّ نتائجه المميزة والتي حققت نجاحاً باهراً في ذلك الوقت بيّنت أهمية تصميم وتحريك الشخصية الكرتونية – الخيالية انطلاقاً من الواقع، وهي الفكرة العامة التي يستند عليها مبدأ تقنية التقاط الحركة في صناعة السينما اليوم.
تأخّر العمل على التقنية، فلم تكن التكنولوجيا المستخدمة قديماً متاحة بشكل كبير ولم تكن متطورة بما فيه الكفاية، لكن ظهور الكاميرات الحديثة وأجهزة الحاسب ذات القدرة الهائلة في المعالجة والتخزين وتوافر العديد من التقنيات المتطورة ساعدها على أن تصبح واحدة من أعظم الإنجازات في عالم المؤثرات البصرية.



ليبدأ استخدامها يبرز في مختلف المجالات مثل البرامج الرياضيّة أو الأمور العسكرية أو حتى تصميم الألعاب، لكنّ نمو قطاع السينما وزيادة التنافس بين شركات الإنتاج لتقديم أفضل الأعمال السينمائية وأكثرها إبهاراً أوجد حاجةً ملحة لتطوير هذه التقنية والاستفادة منها، خاصةً مع اتساع شعبية أفلام السوبرهيروز والخيال العلمي وتعلّق الجمهور بشخصياتٍ خيالية قادرة على درّ ملايين الدولارات فيما لو تمت صناعة أفلامها بالطريقة المثالية.
اليوم، وصل التطوّر في استخدام تقنية التقاط الحركة إلى ذروته، حيث بدأ استخدام مجموعة من الكرات الخاصة التي يتم توزيعها على جسم الممثل في المناطق التي ترصد حركته بأفضل شكل، ويتم التمثيل وتصوير المشاهد ضمن غرف خاصة مجهزة بعشرات الكاميرات التي يختلف عددها حسب نوع المشهد وجودة الإنتاج.
تُسلّط أشعة تحت الحمراء على كرات الممثل فترتد لمصادرها مما يسمح بحساب زمن الارتداد وزوايا الانعكاس لتُحدد الحركة وتُخزّن ضمن أجهزة الحاسب المتصلة بعملية تصوير المشهد.



اعتمد النجم آندي سيركيس على الطريقة السابقة أثناء قيامه بأداء شخصية “Gollum” في ثلاثية The Lord of the Rings الشهيرة، لكنّه طوّر في الفكرة واستخدم كرات قادرة على الإضاءة بنفسها وكأنها بطاريات LED ولم يستخدم مفهوم الانعكاس للأشعة.
استمر العمل والتطوير على التقنية حتى شهدنا أداءً لا يمكن وصفه إلا بالرائع في فيلم Dawn of the Planet of the Apes عندما قام آندي سيركيس بإمتاعنا مجدداً بأداءٍ لا يُعلى عليه بتمثيل دور القرد Caesar”” وبتقنية عالية الجودة نقلت كل حركات وانفعالات النجم إلى وجه الحيوان، وترشّح الفيلم وقتها لأوسكار أفضل إنجاز في مجال المؤثرات البصرية الخاصة.



تحضيراً لإنتاج الأجزاء الثلاثة القادمة المرتقبة من فيلم Avatar والتي ستشكّل واحدة من أضخم الإنتاجات في التاريخ السينمائي بدءاً من عام 2017 ، قام المخرج “جيمس كاميرون” مؤخراً بشراء تطوير تقنية التقاط الحركة من شركة Giant التي كانت مسؤولة عن تطوير التقنية والعمل عليها في عدة أفلام سابقة.
لتصبح الآن شركة “جيمس كاميرون” المسمّاة Lightstorm Entertainment هي المسؤولة عن تطوير التقنية لاستخدامها لاحقاً، مما يعني أننا سنشهد عام 2017 لوحة سينمائية ستشكّل نقطة تحوّل في عالم المؤثرات البصرية، أو على الأقل هكذا نتوقع من “كاميرون”!
لا مجال لتعداد كل الأفلام التي استخدمت هذه التقنية، ولا يمكن عرض كل المخلوقات والوحوش والشخصيات التي رأيناها وأحببناها على الشاشة الكبيرة دون أن نعلم فضل هذه الطريقة الجديدة في التصوير، ولكن أردت استعراض أهميتها في بعض الأعمال السينمائية الخالدة دائماً في ذاكرتنا، ولكي تستمتعوا أثناء مشاهدتها بهذا التطور التكنولوجي الرائع والذي أصبح اليوم من ضروريات الفيلم الناجح، مثله مثل السيناريو والتمثيل!

بعد الفيديوهات المثيرة للاهتمام حول تقنية التقاط الحركة

يوضّح الفيديو التالي طريقة تصوير فيلم Dawn of the Planet of the Apes واستخدام تقنية التقاط الحركة فيه



يوضّح الفيديو التالي طريقة أداء دور التنين Smaug من قبل النجم بيندكت كامبرباتش في فيلم The Hobbit



المصدر
www.arageek.com/art/2015/08/19/motion-capture-technology.html