بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
هناك ايام تبقى تتألق في احشاء التأريخ المظلمة فيما تتلاشى سائر الأيام ، فما هو سر تألق تلك الأيام التي هي من أيام اللـه التي لايمكن ان ينطفئ توهجها ؟ فلقد مضت عشرات القرون وذكرى البعثة النبوية الشريفة لنبي الرحمة ، وخاتم الانبياء والمرسلين محمد ( صلى اللـه عليه وآله ) ماتزال جديدة طرية تستقطب اهتمام كل مؤمن في كل مكان ، فيما تشهد المعمورة وقوع حوادث شتى سرعان ما تضمحل ، وتتلاشى من ذاكرة التأريخ ، فما سر بقاء هذه الذكرى وغيرها من الذكريات الالهية ؟
ان السر في تجددها وخلودها وخصوصا ذكرى البعثة النبوية الشريفة هو ما لهذه الذكريات من علاقة وثيقة ، واتصال متين بالسنن الالهية الثابتة ، ولكون البشرية بحاجة ماسة الى تجديدها لما لها من دور في تحقيق الضرورات التي يحياها الانسان المؤمن في حياته .
وهكذا الحال بالنسبة الى كافة الذكريات الاسلامية الاخرى كذكرى عاشوراء التي تتجدد كل عام وكأنها وقعت في ذلك العام، فهذه الذكريات ومنها ذكرى البعثة النبوية الشريفة انما تتجدد ، وتظل خالدة بسبب مالها من علاقة واتصال بحاجات الانسان في الحياة
فالبعثة النبوية لم تكن واقعة تأريخية مرت مرور الكرام فمضت وانتهت ، ولم تكن الحاجة البشرية اليها حاجة وقتية انتهت واستغني عنها ، بل هي حاجة متجددة ، وحقيقة مستمرة ، ولقد ابدت البشرية تجاوبها مع نداءات الوحي التي انطلق صداها الى الدنيا من غار حراء أن : { قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } (العلق /1) ، وظل هذا الدوي يمخر عباب التأريخ الطويل ، وانتشر في ارجاء الدنيا رغم كل العوارض ، والعوائق ، والمحاولات القاسية التي ارادت ان تحول دون وصوله إلينا .
ومنذ ذلك اليوم المجيد وحاجة الناس الى البعثة النبوية ماتزال مستمرة ، ونحن بالطبع من هؤلاء الناس ، فنحن مازلنا بأمس الحاجة الى هذا الانبعاث الالهي الذي من شأنه ان يوقظ هذه البشرية السادرة في غفلتها ، والمنطوية على ذاتها المتأطرة في حدودها الضيقة ، فنحن نلمس اليوم مدى الحرمان والبؤس الروحي الذي يعم ارجاءها ، فلابد لها في كل آن من بعثة وانبعاث .
ان مهمة النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) لم تقتصر على اهل مكة والمدينة وحدهما ، وهو ( صلى اللـه عليه وآله ) لم يكن رسولا لأهل الجزيرة العربية فحسب ، ولا للأمم التي عاصرته ، وعايشته فقط ، بل كان رسولا لكل الاجيال والأمم على مدى التأريخ منذ لحظة انبعاثه ( صلى اللـه عليه وآله ) رسولاً ورحمة للعالمين ، والبشرية كلما احتاجت الى انبعاث روحي فليس امامها إلا العودة الى هدي النبي الأعظم ( صلى اللـه عليه وآله ) .
ان وجه الدنيا قد تبدل عما كان عليه في الأمس أبان العصر الأول للرسالة ؛ حيث تغيرت ظواهر وحقائق كثيرة ، وحدث انقلاب عظيم في مظاهر الحياة المادية ، فأين ركوب الدواب من التحليق بالطائرات ، واين الاستنارة بمصابيح الزيت من المصابيح الكهربائية ؟ وهكذا الحال بالنسبة الى كافة مظاهر الحياة التي تبدلت وتغيرت شيئا فشيئاً حتى غدا هذا العصر عصر العقول الالكترونية .
ولكن الشيء الوحيد الذي لم يطرأ عليه التغيير هو الطبيعة البشرية ، حيث مازالت البشرية تريد اشباع حاجتها الروحية ، وظلت بحاجة الى رحمة الهية مهداة كما قال النبي ( صلى اللـه عليه وآله ) : " انما انا رحمة مهداة " (1) ، وقد أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة قائلا : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الانبياء / 107) .
وعندما يتحول التفكير البشري الى تفكير مادي ، فيغوص ابناء البشر في شهواتهم وملذاتهم ، ويجرون وراءها ، فتنشب النزاعات والفتن ، وتسيل الدماء ، وتزهق الارواح ، فحينئذ لابد لها من بلسم ينقذها من الهلاك ، والدمار ، ويداوي جراحها .