يسرد مقال "أوضاع الدولة البيزنطية قبيل الفتوح الإسلامية" أسباب تراجع النفوذ البيزنطي في بلاد الشام عشية الفتوحات الإسلامية، كما يسرد تركيبة الجيش البيزنطي ونظامه الذي واجه المسلمون أثناء فتوح الشام.
تراجع النفوذ البيزنطي في بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية
يمكن للباحث أن يرصد ثلاثة عوامل في تراجع النفوذ البيزنطي في بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية إذا استثنينا التأثير الضعيف نسبيًا للاضطرابات الدينية في الإمبراطورية على أوضاعها الداخلية، وقوتها العسكرية، على الرغم من أن ما حدث من القلاقل الدينية بسبب ما جرى من محاولة لتنفيذ قرارات مجمع خلقدونية لعام 451م [1]، اتخذ صفة الثورات الوطنية العنيفة، بدليل استمرار تحالف القبائل العربية النصرانية، المخالفة للعقيدة الملكانية الرسمية مع بيزنطية [2].
العامل الأول: عامل المفاجأة
فقد نجح البيزنطيون في حل المشكلة العربية على حدودهم الجنوبية حلًا جذريًا، بنظام الأحلاف التي عقدوها مع القبائل الضاربة على مشارف بلاد الشام، لحراسة هذه البلاد من هجمات قد تنطلق من الجزيرة العربية، وقامت القبائل المعنية بدور ناجح، واقتصرت مهمة الفرق البيزنطية النظامية المتواجدة في قواعد ثابتة، ومتفرقة على الإشراف على تنقلات القبائل، ومساعدتها في التصدي لغزوات البدو عند الحاجة، ونسي البيزنطيون بعد ذلك، عرب الجزيرة، وأنهم قد يشكلون خطرًا عليهم في المستقبل.
والحقيقة أن الإمبراطور البيزنطي هرقل لم يدرك مدى خطورة الوضع على جبهته الجنوبية بعد تنامي قوة المسلمين حتى رأى نفسه يواجه فجأة زحفهم باتجاه بلاد الشام، ولم تنفع تدابيره التي اتخذها على عجل في وقفهم، حيث كان من الصعب تجريد الحدود مع فارس في الشرق والصقالبة والآقار في الغرب، المعرضة للخطر من الجنود، ونقلهم للدفاع عن بلاد الشام في ظل محدودية نقلهم واختيار مواقعهم، وكانت أي محاولة لتدريب السكان المدنيين في هذه البلاد وتسليحهم، قضية معقدة وبطيئة، ولا يمكنها أن تواجه التهديدات الخارجية المفاجئة والعنيفة، ويعد المدى الذي يمكن للقوات النظامية أن تتكيف فيه مع الأوضاع الطبيعية والمناخية قضية أخرى.
ورأى هرقل أن أفضل وسيلة للدفاع عن بلاد الشام في القرن السابع تكمن في:
- تجنيد البدو العرب المقيمين على أطراف الإمبراطورية، وبخاصة أنهم يتمتعون بصفة إضافية هي معرفة طبيعة الأرض ومناخها بالإضافة إلى أساليب القتال. وتبنى النظرية القائلة إن خير وسيلة لقتال العرب هي استخدام عرب آخرين إزائهم، لذلك كان من الضروري لبيزنطية أن تحتفظ بصداقة بعض القبائل وتنويع صلاتها بالعرب.
- تجنيد الأرمن، والمعروف أن عدد الجيش البيزنطي النظامي في بلاد الشام لم يكن كبير الحجم، ولا يمكن للإدارة العسكرية البيزنطية توفير أكثر من عشرين ألف جندي للدفاع عن هذه البلاد، في ظل الأخطار التي تتعرض لها الولايات الأخرى في آسيا وأوروبا ومصر، ولا يمكن الحصول على جنود منها، ولم يكن ثمة مجال في البحث عن قوى عسكرية لبلاد الشام سوى أرمينية القريبة التي يمكن الاعتماد عليها.
العامل الثاني: التغيير الإداري
عندما تسلم هرقل زمام الحكم في القسطنطينية في عام 610م، كان الخراب والدمار قد حلا بالإمبراطورية، وساءت أحوال البلاد الاقتصادية والمالية، وأصاب الشلل أجهزة الإدارة الحكومية، وأضحى النظام العسكري الذي يستند على تجنيد المرتزقة، عديم الفائدة، بعد أن عجزت الدولة عن تجنيد المرتزقة بفعل فراغ الخزانة من الأموال، ويكمن دور المال هنا في تجنيد العرب للخدمة في الجيش البيزنطي، وضمان استمرارهم فيه، وازدادت أهميته مع تنامي الدولة الإسلامية، وتهديدها للمناطق الجنوبية من بلاد الشام.
وتعرضت الأقاليم الكبيرة الواقعة في وسط الإمبراطورية لغارات الأعداء، فاستقر الصقالبة والآقار في البلقان، في حين وطد الفرس وجودهم في قلب آسيا الصغرى، ولم يكن ثمة وسيلة لإنقاذ الإمبراطورية التي أضحت بحاجة ماسة للدفاع عن نفسها، سوى قيام حركة إصلاح داخلية.
وفي الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية تتعرض للضغط الخارجي وسوء الأحوال الداخلية، انصرف هرقل إلى القيام بإصلاحات بالغة الأهمية، وهبتها قوة جديدة، لقد التفت في بادئ الأمر إلى إعادة تنظيم أقاليم الدولة بما أدخله من نظام الأجناد، وترتب على ذلك التخلص من أسس النظام الإداري الذي وضعه الإمبراطوران دقلديانوس وقسطنطين، والذي لم يعد ملائمًا لسد حاجات العصر.
وجرى تقسيم الأراضي التي لم يمسها العدو بالضرر إلى أقاليم عسكرية كبيرة، وهي المعروفة بالأجناد، يتولى حكم كل منها قائد عسكري، وبذلك اتخذت التنظيمات الإدارية الجديدة طابعًا عسكريًا خالصًا. ويتمثل هذا النظام في استقرار الجند في أقاليم آسيا الصغرى وبلاد الشام، ولذا جرى إطلاق لفظ أجناد على الأقاليم العسكرية التي نشأت بعد ذلك، وأضحى هذا اللفظ الذي كان يطلق على لواء من الجند، يطلق على الأرض التي تشغلها القوات العسكرية، وتقرر منح الجند مساحات من الأرض كحل للاضطراب المالي بشرط أن تكون الخدمة العسكرية مقابل ذلك وراثية.
قسم هرقل آسيا الصغرى إلى أربعة أجناد هي: الأرمنياك ويقع إلى الشمال الشرقي، ويتاخم أرمينية، والأبسيق الذي يقع قرب بحر مرمرة على الساحل الغربي، والكاراباسيني، ويقع على الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، والناطليق ويقع في المنطقة الشرقية، أما الأقاليم الواقعة إلى الشرق والجنوب من هذه الجهات، فكانت في أيدي الفرس لذلك لم يشملها نظام الأجناد.
ويعد نظام الإقطاع العسكري الأساس الذي قام عليه جيش وطني قوي، وهو الذي حرر الإمبراطورية مما تفتقر إليه من الجند المرتزقة الذين يكلفون الدولة أموالًا طائفة، وغدا الجند الفلاحون الذين حصلوا على إقطاعات مقابل الالتزام بالخدمة العسكرية، والنازلون في الإقطاع عنصرًا ثابتًا في قوات الجيش البيزنطي، وأمدتهم إقطاعاتهم بالوسائل الاقتصادية التي تكفل لهم سبل العيش، فكان كل منهم يخرج إلى الحرب بسلاحه وفرسه [3].
العامل الثالث: النظام الضريبي وأثره على الحياة العامة
تعود أسس النظام الضريبي في الدولة البيزنطية إلى أيام الإمبرطورين دقلديانوس وقسطنطين، وكانت الضرائب المفروضة على المدن والقرى في بلاد الشام على نوعين: ضرائب نظامية، وضرائب طارئة لمواجهة أوضاع خاصة. ويبدو أن هذا النظام الضريبي لم يعد يفي بسد حاجات الدولة بسبب كثرة النفقات العسكرية الإدارية، وسبب عيوب النظام الإداري انتشار الفساد، وتفشي السرقة، وابتزاز الأموال، وأدى ذلك إلى الفقر والخراب، وأثار الاضطرابات الداخلية، وفقدان الأمن.
ومن الأمثلة التي يسوقها المؤرخون المتعلقة بالظلم الاجتماعي في بلاد الشام المرتبط أساسًا بالنظام المالي، أن أبا عبيدة بن الجراح استعمل حبيب بن مسلمة على خراج حمص بعد أن فتحها المسلمون بموجب الصلح الذي عقد بين الطرفين، وكان من أهم بنوده أن منح الأمان لأهل المدينة مقابل "سبعين ألف دينار عاجلة، وعلى أداء الجزية عن كل محتلم في كل سنة أربعة دنانير".
وعندما اضطر المسلمون للجلاء عن حمص قبل معركة اليرموك، طلب أبو عبيدة بن الجراح من عامله على الخراج أن يعيد ما كان قد أخذه من أهل حمص إليهم، "فإنه لا ينبغي لنا إذا لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا".
واجتمع حبيب بن مسلمة بأهل حمص ورد عليهم ما لهم، فقالوا له: "ردكم الله إلينا، ولعن الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا، وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم" [4].
الجيش البيزنطي
حتى نستكمل الدراسة العسكرية للقوى المسلحة التي واجهها المسلمون أثناء الفتوح، نبحث هنا أوضاع الجيش البيزنطي [5].
لقد وضع الإمبراطور موريس والقائد بلزاريوس أساس الجيش البيزنطي، وزاد الإمبراطور هرقل من كفاءته، وقدرته القتالية، وانتصر به على الفرس والصقالبة والآفار. وأعاد الإمبراطور موريس تنظيم الهيكل العام للجيش ووضع أسس التجنيد، ورفع عدد الوحدة القتالية إلى أربعمائة، وجعلها الوحدة الأساسية للجيش، ثم جمع عددًا من هذه الوحدات في مجموعة واحدة يتراوح عددها بين ستة وثمانية آلاف، وسماها "الفرقة".
وتشكل فرقة الفرسان الثقيلة عماد الجيش البيزنطي بما لها من أهمية كبيرة، ويرتدي الفارس قميصًا معدنيًّا من رقبته حتى الفخذين، ويحمل درعًا مستديرًا، كما يرتدي قلنسوة على رأسه، وقفازًا طويلًا يغطي اليدين إلى ما بعد الرسغ، وينتعل حذاء من الصلب، وزودت جياد الضباط، وقوات الخط الأمامي بمقدمة حديد لحمايتها، وجهزت الجياد بسروج مريحة، وركاب حديدي.
يستخدم الفارس أثناء القتال سيفًا عريضًا، وخنجرًا وقوسًا، ويحمل جعبة مملوءة بالسهام وحربة طويلة، ويثبت بلطة في سرج جواده أحيانًا.
وكان الزي العسكري موحدًا، يشتمل على معطف، وعلم مثلث على رأس الرمح، وخصلة من الشعر على الخوذة. والواقع أن هذا اللباس العسكري للفرسان الذي اتصف بثقل الوزن، شكل عاتقًا أثناء العمليات القتالية أمام القوى الإسلامية التي اتصف مقاتلوها بخفة الحركة، إذ حد من حرية حركة الفارس، وحرمه من الاستفادة من كفاءته القتالية، ولياقته البدنية.
وانقسمت فرقة المشاة في الجيش البيزنطي إلى قسمين:
الأولى: فرقة المشاة الثقيلة، ارتدى أفرادها رداء معدنيًّا، وقفازات طويلة، ودروعًا للساق، وخوذة حديدية من الأمام، وحملوا دروعًا مستديرة كبيرة، وشكل الرمح والسيف، والبلطة سلاحهم الهجومي، وكان هذا اللباس عائقًا ميدانيًا لهذه الفرقة من المشاة تمامًا مثل فرقة الفرسان الثقيلة.
الثانية: فرق المشاة الخفيفة، واقتصرت مهماتها العسكرية على الدفاع عن الممرات، والمناطق الجبلية، وحماية القلاع، والمدن الهامة، وشكل الرماة عماد هذه الفرقة.
ويتناسب تنظيم الوحدات العسكرية مع التكتيل الذي ينفذونه أثناء القتال، وهو أسلوب مرن يتغير من معركة إلى أخرى، ويحدد من قبل القادة بالاستناد إلى أسلوب العدو القتالي. وكان هناك سلم لرتب الضباط.
أما المصطلحات الفنية المستخدمة في الجيش البيزنطي، فكانت خليطًا من الكلمات الرومانية، واليونانية واللاتينية. وعرفت بيزنطية نظام الكتائب في التكتيك القتالي القائم على سلاحي الفرسان والمشاة، وذلك بعد أن أخذته عن اليونان، إلا أن في العصر الإسلامي الأول كانت جيوش بيزنطية تقسم إلى فرق تسمى "كراديس" يضم كل منها زهاء ستمائة جندي.
[1] انظر قرارات مجمع خلقدونية عند الأنبا بيشوي: مجمعا أفسس وخلقدونية، مقال في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق ص211 - 213.
[2] من المعروف أن النصارى في بلاد الشام انقسموا منذ مجمع خلقدونية إثر الخلاف على صياغة العقيدة الخاصة بطبيعتي المسيح واتحادهما، إلى سريان أو يعاقبة وملكية أو روم، ويشير المؤرخون إلى أن المذهب اللاخلقدوني "اليعقوبي" انتشر بين القبائل العربية مثل أياد وربيعة وقضاعة، أما القائلون بالمذهب الخلقدوني "الملكية"، فكانوا بمعظمهم يعيشون في المدن التي اصطبغت بالثقافة الهلينية، مثل أنطاكية وسلوقية، واللاذقية وبعلبك، وبيروت وقيصرية وفلسطين، وبيت المقدس، ولا بد من الإشارة إلى أن نسبة عالية من اليعاقبة كانت مستاءة من الحكم المركزي.
[3] العريني: الدولة البيزنطية ص120 - 122.
[4] الأزدي: فتوح الشام، ص138، 155. البلاذري: ص136، 143.
[5] مونتغمري، فيلد مارشال: الحرب عبر التاريخ ص194- 202.
قصة الاسلام