قصته عجب، بل أعجب من العجب، وأغرب من معظم ما يستغرب، وقلما يطالع الإنسان مثل هذا الموقف، إلا على فترات متباعدة من عمر الزمن. إذ من الذي يستطيع -وهو في عنفوان الشباب- رفض زينة الدنيا ومباهجها، وعز الخلافة وزهوها، وأمجادها ومكاسبها؟ نعم من الذي يقوى على ذلك، ويتعالى عليه؟ ويترفع عن أهله، فلا يخالطهم في ورد ولا صدر، ولا يتحرك قلبه نحو شيء من تلك المغريات، التي تركت الناس صرعى على عتباتها، هلكى من اللهاث وراءها، طمعا في الوصول إلى شيء من فتاتها؟
أجل، إن الذين تسمو هممهم إلى هذا الأفق الرفيع صنف مميز، وطراز فذ في دنيا الناس، أنعم الله عليهم ببلوغ القمة ، فعاشوا محلقين في الأفق الرحيب، أفق عزة الإيمان، وبرد اليقين، أفق نور التقوى الذي أضاء جنبات نفوسهم، وكشف حجب الظلمة عن قلوبهم، فغدوا، مستنيرين، مستبصرين، لا يصرفهم عن طريق آخرتهم صارف، ولا يخدعهم عما عرفوا من الحق خادع.
وكان أحمد بن الخليفة هارون الرشيد من هذا الطراز الرفيع من الرجال، فما قصته؟ وكيف عاش بعيدًا عن أضواء خلافة والده التي بهرت الخافقين، وجبي إليها خراج المشرقين والمغربين، وخطب ودها كل عظيم في الدول والممالك التي عاصرتها؟
من هو أحمد بن هارون الرشيد؟
عاش أحمد زاهدا، عابدًا، لا يأكل إلا من عمل يده، وكان يعمل فاعلًا، أجيرًا في الطين، رأس ماله مجرفة يجمع بها التراب، وزنبيل (قفة) يحمل بها ما جمع، ليجعله طينا، ثم يستعمله في الأغراض التي يصلح لها.
كان يعمل يومًا واحدًا في الأسبوع -وهو يوم السبت فسمي بأحمد السبتي- ويحصل على أجر مقداره درهم ودانق (جزء من الدرهم) ثم يقبل على العبادة بقية أيام الأسبوع.
قيل: إن أمه زبيدة، وصحح ابن كثير (في البداية والنهاية، ج/ 10 ص 191) أنه ابن امرأة كان الرشيد قد أحبها وتزوجها قبل توليه الخلافة، ويبدو أن ذلك لم يكن عن أمر والده أو مشورته، فلما حملت منه بأحمد هذا أرسلها إلى البصرة، وأعطاها خاتمًا من ياقوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه، وكان الرشيد يتابع أخبارها، ويرسل إليها ما يصلح حالها، وبلغه أنها وضعت مولودًا سمته أحمد. فلما صارت الخلافة إليه لم تأته، ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الأمر كذلك، وفحص عنهما، فلم يطلع منهما على خبر، وكان أحمد يعمل بيده ويأكل من كد يده.
العودة إلى بغداد
رجع أحمد إلى بغداد، وما أدراك ما بغداد! إنها حاضرة العالم، وعاصمة العواصم، لم يكن لها نظير في الدنيا: في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميز خواصها وعوامها، وعظم وكثرة دروبها ودورها، ومنازلها وشوارعها، ومساجدها، وحماماتها، وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها. أقبلت الدنيا على أهلها برخائها ونعيمها، ومباهجها ومسراتها، ورغدها، وفتنتها حتى لكأن الدنيا كلها في بغداد، ولكأن بغداد هي الدنيا كلها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلًا في زمن الرشيد.
فأين عاش ابن خليفة بغداد، وهو يرى الدنيا مازالت تتحدث عن عظمته وزاهي عيشه؟
عاش عاملًا يعمل في الطين يوم السبت، ليقتات وأمه مما يكسبه طوال أيام الأسبوع، ولا يذكر للناس من هو، ولا من يكون، عاش راضيًا مسرورًا، لا يسعى في الدنيا إلا إلى مرضاة ربه، وكسب رضى والدته، التي وافقته على ما أراد، ولم تفصح عن أمرها، احتراما لرغبة ولدها.
رحيل الأم
أتى القدر المحتوم، وبلغت أمه أجلها الذي أجله الله لها، وقبل أن تفيض روحها إلى بارئها أعطت الخاتم الذي وهبها الرشيد إلى ولدها، ولفظت أنفاسها الأخيرة في حجرة ضيقة، ليس فيها من متاع الدنيا ما تقع عليه العين.
حمد بعد والدته
لم يغير شيئا مما نشأ عليه، فهو في عمل يوم السبت، وفي انقطاع إلى الطاعة والعبادة بقية الأيام.
مرض أحمد ووفاته
لم تذكر لنا المصادر كم دام على هذه الحال، غير أن ابن كثير في البداية والنهاية ذكر أنه قد اتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين، وأن الرجل كان كريمًا معه، فأشرف على تمريضه ورعايته حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
وصية من الولد إلى الوالد
لما اشتد به المرض وحضره أمر الله تعالى أخرج الخاتم، وقال لصاحب المنزل: اذهب إلى الرشيد، وقل له: صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه، فتندم حيث لا ينفع نادمًا ندمه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك، وقد بلغلك خبر من مضى، قال: هذا وفاضت روحه إلى خالقها، وذلك في عام 184هـ.
باشر الرجل تجهيزه ودفنه، وهو لا ينفك عن التفكير فيما رأى وسمع، ترى من يكون هذا الرجل؟وما سر هذا الخاتم الذى أعطاني؟ وما الذي سيحصل إذا ما أبلغت الخليفة بذلك؟
أسئلة حائرة، ليس ثمة ما يهدي إلى جواب عن بعضها، ولا إلى إشارة تهدي إلى شيء يفك هذا اللغز الحائر المحير. ولكن الرجل في نهاية المطاف صمم أن يسعى للوصول إلى الرشيد وإبلاغ الأمانة، وليكن ما أراد الله.
في مجلس الرشيد
دخل الحاجب، وأخبر الخليفة أن في الباب رجلًا من العامة يزعم أن لديه سرًا يخص أمير المؤمنين، أذن الرشيد بإدخاله، فلما دخل سأله ما حاجتك؟ وما وراءك؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين، هذا الخاتم دفعه إليَّ رجل، وأمرني أن أدفعه إليك، وأوصاني بكلام أقوله لك.
فلما نظر في الخاتم عرفه قال: ويحك: وأين صاحب هذا الخاتم؟ قال الرجل: مات يا أمير المؤمنين، وذكر له الكلام الذي أوصاه به، وأن الرجل كان يعمل بالفاعل يوما من كل جمعة بدرهم ودانق، يتقوت به سائر أيام الجمعة، ثم يقبل على العبادة.
فلما سمع الرشيد هذا الكلام قام فضرب بنفسه الأرض، وجعل يتمرغ فيها ظهرًا لبطن، ويقول: والله لقد نصحتني يا ولدي، ويشهق من شدة البكاء، ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال: أتعرف قبره؟ قال: أنا دفنته· قال الرشيد: إذ كان العشي فائتني، فلما كان العشي ذهب به إلى قبره فجلس عند رأسه، وبكى طويلًا، حتى كاد يصبح، ثم أمر للرجل بعشرة آلاف درهم، وكتب له ولعياله رزقًا.
درس وعبرة
ما أجمل أن يترفع الإنسان عن متاع الدنيا، ويرضى بالقليل الذي يمسك عليه حياته، ويصون ماء وجهه عن ذل الحاجة، وحرج السؤال، وما اختاره أحمد بن الرشيد مذهب فردي، لا نعيب على من ارتضاه لنفسه، واختاره منهجًا لحياته.
وتعاليم ديننا رغبتنا فيما هو أكثر فائدة وأعظم عائدة، فالمسلم مطالب أن يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، بضوابطه وشروطه المعروفة، وأن يكون منتجًا، ذا رسالة في الحياة، يعود نفعها عليه وعلى الأمة، بل على البشرية كلها.
لابد لإعزاز الإسلام من استغلال خيرات الأرض استغلالًا تامًا، لتأمين الأمن الغذائي، والاستغناء عن موارد الأعداء، ولابد من إقامة المصانع والمعامل التي تنتج الصناعات، ليتحقق الاكتفاء عن استيراد منتجات الأعداء، لابد من جند مقاتلين، مدربين، ومسلحين بأحدث أنواع السلاح وأمضاها، ليحموا الذمار، ويصونوا الأعراض والديار.
والأمة مطالبة بتهيئة كل ما يسهم في تحقيق هذا، لابد من الأطباء لمعالجة المرضى، والمعلمين الذين ينشؤون الأجيال على الفضيلة والتقوى، والمرشدين والمربين الذي يهذبون النفوس، ويسعون في إصلاح القلوب، ويردون الشبهات التي يروجها الأعداء، فمن يقول بكل ذلك إذا ما توارى أصحاب الكفاءات في المساجد والزوايا، وعكفوا على العبادات الفردية؟
وقديمًا نما الإسلام وانتشر في ظلال مصاحف المربين، وسيوف المجاهدين، وأفاد من عمل العاملين، وكد المزارعين، وأموال التجار والمستثمرين، فأضاء جنبات الأرض، وأخرج الناس من الظلمة إلى النور، ومن الجاهلية إلى الهداية والرشاد، ومن الأمية إلى أفق العلم والتعليم، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الديان، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام.
فلو أن رجال الرعيل الأول انقطع كل فرد منهم للعبادة والتبتل والعمل في الطين يومًا في الأسبوع لما قامت للإسلام دولة، ولا تأسست له أمجاد وحضارة، ولا اندحر الكفر وظهر التوحيد، ولما نعمت الإنسانية بالخير العميم الذي جاءها بها هذا الدين العظيم.
إننا لا نعيب على فرد أو أفراد اختاروا مسلك ابن الرشيد، فذاك شأنهم، وهم أدرى بإمكاناتهم وملكاتهم، لكننا نؤكد، أن ذلك مما لم يأمرنا به ديننا، ولا يصلح نظاما عامًا لأتباع رسالة فرض الله عليهم العمل به، وإبلاغها إلى حيث يستطيعون الوصول والبلاغ.
إن مكابدة ساعة في تربية الأولاد وتعليمهم وإعدادهم لمهمات الحياة أكثر أجرًا من أيام كثيرة من أيام الزهد والعبادة، ورباط يوم في سبيل الله أعظم من شهور بل من سنوات يقطعها الآخرون في التسبيح والتهليل والأذكار.
عن أرطاة بن منذر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجلسائه: أي الناس أعظم أجرًا؟ فجعلوا يذكرون له الصوم والصلاة، ويقولون: فلان وفلان بعد أمير المؤمنين· فقال: ألا أخبركم بأعظم الناس أجرًا ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى، قال: رويجل بالشام، آخذ بلجام فرسه، يكلأ من وراء بيضة المسلمين، لا يدري أسبع يفترسه، أو هامة تلدغه، أو عدو يغشاه، فذلك أعظم أجرًا ممن ذكرتم، ومن أمير المؤمنين (كنز العمال، 289/92).
نعم، هذا هو نهجنا، وهذه توجيهات ديننا: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.
مصادر البحث:
1- البداية والنهاية لابن كثير·
2- وفيات الأعيان لابن خلكان·
3- صفة الصفوة لابن الجوزي.
4- كتاب التوابين لابن قدامة.
5 - الوافي بالوفيات للصفدي..
محمد يوسف الجاهوش