مقياس النيل في جزيرة الروضة أعجب بناء إسلامي شاهد على براعة المعماري المسلم، وأقدم نماذج العمارة المائية الإسلامية في مصر والعالم العربي والإسلامي، ومن أقدم الآثار الشاهدة على عظمة الحضارة الإسلامية بمصر.
ويعد مقياس النيل بالروضة من المنشات العباسية، وقد عرف المصريون منذ أقدم العصور تشييد المقاييس في شتى أنحاء البلاد؛ ليتعرفوا على ارتفاع النيل؛ نظرا لعلاقته الوثيقة بري الأرض و تحصيل الخراج.
مقاييس المصريين القدماء
اهتم المصريون منذ بدء حضارتهم في الوادي بقياس منسوب نهر النيل؛ لتحديد المساحة التي يزرعونها في ضوء هذا المقياس. وقد عرف المصريون القدماء مقاييس متعددة للنيل منها ما هو متحرك، وكذلك الثقل الذي يربط في طرفي خيط أو حبل يرمى به إلى قاع النيل لقياس منسوب الماء، أو القياس بقائم خشبي للتغلب على تحريك الخيط في المقياس السابق. ومن هذه المقاييس ما هو ثابت على هيئة بئر ينزل إليه بدرج يرتفع فيه منسوب الماء بارتفاع ماء النيل، وبإحصاء عدد الدرج الذي يغطيه الماء يمكن معرفة قياس النيل.
واستمر الاهتمام بإنشاء المقاييس للنيل في العصرين اليوناني الروماني ثم البيزنطي حيث بنى الرومان مقياسا عند حصن بابليون. وعند الفتح الإسلامي لمصر كان بها مقياس في مدينة منف وهو من أقدم المقاييس المصرية ونسبه ابن الحكم إلى نبي الله يوسف عليه السلام.
هذا وقد عرف العرب بعد فتحهم لمصر ما لهذه المقاييس من أهمية، فظلوا يستعملونها واعتنوا بها إلى أن أنشئوا مقاييس أخرى، بل إنهم ظلوا يستعملون مقياس منف.
مقاييس النيل بعد الفتح الإسلامي
وتشير المصادر العربية إلى العديد من المقاييس التي أنشئت بمصر بعد الفتح العربي الإسلامي لها، منها:
1- مقياس أنصنا: أنشأه معاوية بن أبي سفيان (41 - 60هـ).
2- مقياس بحلوان: أنشأه عبد العزيز بن مروان سنة 80هـ.
3- مقياس في الروضة: بناه أسامة بن زيد التنوفي عامل الخراج سنة 92هـ في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك (86 – 96هـ)، وقد أبطل الخليفة سليمان بن عبد الملك العمل به فأنشأ غيره في سنة 97هـ، أي بعد خمس سنوات.
مقياس النيل بالروضة
و في سنة 247هـ أمر الخليفة العباسي المتوكل على الله ( 232 - 248هـ) بإنشاء المقياس الذي عرف بعدة أسماء منها:
* المقياس الهاشمي * المقياس الجديد * المقياس الكبير *مقياس الروضة
ويذكر المؤرخ ابن خلكان أن اسم الخليفة المتوكل كان منقوشًا في شريط من الحجر يحيط بأعلى فوهة البئر. ويعتبر مقياس النيل ثاني أقدم أثر إسلامي في مصر بعد جامع عمرو بن العاص.
من بنى مقياس النيل بالروضة؟
وقد شُيِّد مقياس النيل بالروضة على يد المهندس أحمد بن محمد الحاسب، وتحيط بشخصية هذا المهندس الغموض حيث يقول البعض:
1- الذي بنى المقياس هو مهندس عراقي اسمه محمد بن كثير الفرغاني في ولاية يزيد بن عبد الله التركي.
2- وقال البعض أن اسمه ابن كاتب الفرغاني وأنه كان قبطيًّا، لكن يقول كريزويل (عالم الآثار الاسلامية): "إن الذي يُنسب إلى فرغانة -التي هي جزء من دولة الفرس- لا يمكن أن يكون قبطيًّا".
3- زعم البعض أن أحمد بن محمد الحاسب وأحمد بن كثير الفرغاني ما هما إلا شخص واحد، وفي هذا يقول بوبر: "إنه هو نفسه أحمد بن المدبر الذي ولي خراج مصر".
إلا أن البعض الآخر أجمع على أن مهندس المقياس هو أحمد بن محمد الحاسب الذي وجد قبره بجوار ضريح الإمام الليث بن سعد وكتب على قبره "أحمد بن محمد الحاسب مهندس المقياس".
وما يزيد من حدة هذا الخلاف أن النقش الحجري الذي أشار إليه ابن خلكان فُقِد أثناء إصلاحات أحمد بن طولون (254 - 270هـ).
موقع مقياس النيل
ويقع مقياس النيل في الجهة الجنوبية الشرقية لجزيرة الروضة، حيث المجرى الضيق لنهر النيل، في آخر شارع الملك الصالح، أو عبر شارع المانسترلي، والذي يوجد به كوبري المانسترلي باشا الخشبي للمشاة، ويوجد هناك تمثال للمهندس "أحمد الفرغانى" الذي يقال أنه من أنشأ مقياس النيل.
وقد تم اختيار هذا الموقع في إطار الرغبة في ربط المقياس بالنيل عن طريق المسارب التي توصل الماء إلى بئر المقياس في نقطة هادئة نسبيا حتى لا تتعرض فتحات المسارب للتدمير. كما أن هذا الموضع لا يتسرب فيه كثيرًا الطمي الوارد من ماء النيل، ولهذا يعتبر اختيار الموقع عبقريًّا وبعد دراسة وافية لمجرى النيل واتجاهات ترسباته، ويؤكد سلامة هذا التخطيط استمرار المقياس في أداء وظيفته حتى الفترة التي سبقت بناء السد العالي بأسوان.
صاحب المقياس
وقد عرف عن الموظف المسؤول عن المقاييس باسم "صاحب المقياس"، وكان يقيس المقياس كل يوم عصرا ، كما كان يقارن مستوى الزيادة في الماء كل يوم بما قبل من ذلك اليوم في العام المنصرم، حيث تدون هناك في سجل يرفع إلى أولي الأمر، حيث يظل الأمر سرًّا إذا انحط مقدار الماء عن المقدار المطلوب، حتى لا يعلم الناس ويجزعوا فيتكالبوا على الأسواق وترتفع الأسعار بعد أن تختفي البضائع من الأسواق.
عمارة مقياس النيل
عند دخول المقياس ستبهرك عمارته وستشعر بالرهبة من عمق بئر المقياس وعاموده الرخامي ذي التاج الكورنيشي والمنتصب من أسفل على قاعدة خشبية مكونة من ألواح من جذوع النخل المختلط بالرمال ومن أعلى يلامس تاج العمود وتر خشبي ممتد بعرض المقياس، هذا العمود بثقله الذي يزن 20 طنًّا يستطيع مقاومة اندفاع المياه داخل المقياس، وذلك بفضل القاعدة الخشبية المثبت بها من أسفل وهي تعطي له مزيدا من المرونة حتى تحميه من الانكسار.
ويتكون المقياس من جزأين: الأول علوي، يظهر فوق الأرض عبارة عن قبة تأخذ شكلا مخروطيا "قبة على هيئة القلم الرصاص" ذات طراز تركي، وهذه القبة من الداخل مزخرفة بزخارف نباتية كالأزهار والأوراق النباتية بالألوان المختلفة، وزخارف كتابية دعائية مذهبة باسم الخديوي عباس حلمي الأول الذي أقام هذه القبة، وبالقبة مجموعة من النوافذ المصنوعة من الخشب الخرط تحدها إطارات مذهبة.
أما الجزء الثاني من المقاييس فهو البئر،وتوجد أسفل الجزء الأول تحت سطح الأرض نصل إليها عن طريق مجموعة من السلالم تبدأ من قمة البئر إلى القاع، وتأخذ بئر المقياس من الداخل شكل المثلث المقلوب "هرمي"، حيث ينقسم مسقطه إلى ثلاثة مستويات، الأول مسقط دائري ثم يعلوه مسقط مربع طول ضلعه أكبر من محيط الدائرة "المستوى الأول" ثم المستوى الثالث ومسقطه مربع طول ضلعه أكبر من طول ضلع المربع الأول،.
بهذه المستويات الثلاثة وبجدران بئر المقياس توجد مجموعة من النوافذ التي يدخل عن طريقها ماء نهر النيل إلى البئر، ويقاس منسوبه عن طريق عامود المقياس وكلما كانت نسبة مياه النيل مرتفعة، دخل الماء من النوافذ العلوية الموجودة ببئر المقياس، ويبلغ طول عامود القياس 12.5 متر، وهو مقسم إلى عدة تدريجات تعطي في مجموعها دلالة على ارتفاع أو نقصان مياه النيل، وهذه التدريجات تصل إلى 18 زراعا وكل ذراع مقسم إلى 24 أصبعا وذلك للحفاظ على قراءة صحيحة على عامود القياس والتي يتحدد على أثرها أهمية اقتصادية كبرى، وهي معرفة مساحة الأراضي الزراعية التي سوف يتم زراعتها وأنواع المحاصيل التي سوف تزرع، وبالتالي حجم الخراج الناتج عن جباية الضرائب عن هذه المحاصيل وبالتالي تقدير المشروعات المستقبلية.
وصف مقياس النيل
وهذا المقياس الأثري عبارة عن:
1- عمود رخامي مدرج ومثمَّن القطاع، يعلوه تاج روماني يبلغ طوله 19 ذراع، حفر عليه علامات القياس.
2- يتوسط العمود بئر مربع مشيَّد بأحجار مهذبة، روعي في بنائها أن يزيد سمكها كلما زاد العمق، و على هذا شيد البئر من ثلاث طبقات: السفلى على هيئة دائرة، يعلوها طبقة مربعة ضلعها أكبر من قطر الدائرة، والمربع العلوي والأخير ضلعه أكبر من المربع الأوسط. وجدير بالإشارة أن سمك الجدران وتدرجه على هذا النحو، يدل على أن المسلمين كانوا على علم بالنظرية الهندسية الخاصة بازدياد الضغط الأفقي للتربة كلما زاد العمق إلى أسفل.
3- يجري حول جدران البئر من الداخل درج يصل إلى القاع.
4- يتصل المقياس بالنيل بواسطة ثلاثة أنفاق يصب ماؤها في البئر من خلال ثلاث فتحات في الجانب الشرقي، حتى يظل الماء ساكنا في البئر، حيث أن حركة المياه في النيل من الجنوب إلى الشمال، وبالتالي لا يوجد اتجاه حركة للمياه في الناحية الشرقية والغربية.
5- يعلو هذه الفتحات عقود مدببة ترتكز على أعمدة مدمجة في الجدران، ذات تيجان وقواعد ناقوسية.
6- ويرتكز العمود الوسطي على قاعدة من الخشب الجميز لأنه الوحيد الذي لا يتأثر بالمياه وذلك لتثبيته من أسفل، ومثبت من أعلى بواسطة tie-beam أي كمرة، وعليه نقش بالكوفي لآية قرآنية.
النقوش والكتابات الأثرية في هذا المقياس
في الجانب الشمالي والشرقي كتابات أثرية بالخط الكوفي.
في الجانب الجنوبي والغربي نقوش ترجع إلى أيام أحمد بن طولون سنة 259هـ عندما أصلحه وأنفق عليه ألف دينار، وأزال بعض الكتابات وقام بوضع اسمه عليها ولكنه ترك عليها التاريخ الأصلي.
أما جدران المقياس فتحمل 4 لوحات، اثنتان منها مخطوطات للقرآن الكريم، ولوحة لرسم توضيحي أو خريطة، والأخيرة فهي صورة لبابين أحدهما للظاهر بيبرس والأخرى للسلطان الصالح نجم الدين أيوب. وتم ضم تلك اللوحات عقب دخول الحملة الفرنسية إلي القاهرة كما تم ذكر تلك اللوحات في كتاب "وصف مصر".
عمليات إصلاح وتجديد مقياس النيل
1- في عهد أحمد بن طولون -مؤسس مدينة القطائع في مصر: وقد أصلحه وجدده سنة 259هـ، وفي هذا الإصلاح فُقدت النقوش الحجرية التي أشار إليها ابن خلكان كما سبق الذكر.
2- في عهد الخليفة المستنصر: حيث عَهَد إلى وزيره بدر الجمالي بتجديد المقياس سنة 485هـ و بنى مسجدا في جانبه الغربي عرف بمسجد المقياس.
3- في عهد السلطان الظاهر بيبرس (658 - 676هـ): حيث قام بإضافة قبة فوق بئر المقياس في القرن السابع الهجري.
4- في عهد الأشرف قايتباي سلطان مصر (872 - 901هـ): حيث تمت بعض الإصلاحات.
5- كما شهد إصلاحات أخرى في العهد العثماني على يد كل من:
- السلطان سليم الأول ( 918 - 926هـ)
- السلطان سليمان القانوني ( 926 - 974هـ)
- السلطان سليم الثاني ( 974 – 982هـ)
6- حظي بنصيب من جهود الحملة الفرنسية سنة 1214هـ / 1799م، فنظفوا بئر المقياس من الطمي المتراكم في قاعه كما أضافت قطعة من الرخام مقدارها ذراع إلى عمود القياس ونقش عليها تاريخ 1215هـ/ 1799م.
7- قامت وزارة الأشغال العمومية سنة 1305هـ / 1887م بتنظيف المقياس مرة أخرى من الطمي المتراكم بداخله. وبعد هذه الإصلاحات هبط عمود المقياس بمقدار 3 سم ثم 6سم، فقامت مصلحة المباني بالاشتراك مع لجنة حفظ الآثار العربية بأخذ الاحتياطات اللازمة لإيقاف الهبوط، وكان ذلك عام 1343هـ / 1925م.
وظيفة المقياس
وظيفة المقياس هي معرفة كمية مياه النيل، وبناء عليها يعرفون ما إذا كانت ستروى جميع الأراضي أم سيأتي موسم جفاف أو فيضان، وفي هذا:
1- فإذا كان ارتفاع مياه النيل 16 ذراعا، يعد بشيرا بوفاء النيل وأن الأراضي ستروى يكون الخراج كافي لسد احتياجات الدولة.
2- وإذا كان ارتفاع مياه النيل أقل من 16 ذراعا، كان علامة على قدوم الجفاف، ومن ثم يهيئ الدولة لأخذ الاحتياطات اللازمة.
3- وإذا كان ارتفاع مياه النيل أكثر من 16 ذراعا، كان علامة على قدوم فيضان.
ولكن بعد إنشاء السد العالي بمصر اندثر دور مقياس النيل.
مقياس النيل مبنى إسلامي فريد
وترجع أهمية مقياس النيل وتميزه بين الآثار الإسلامية إلى الطريقة التي استخدمها المعماري في بنائه والتي دلت على براعته وتطبيقه للنظريات العلمية التي بنى عليها فكرة إنشائه، بحيث أضاف للمقياس عنصر الإبهار.
وذلك حينما استطاع أن يبني جسم المقاييس في ستة أشهر هي وقت التحاريق عندما يقل مستوى مياه نهر النيل قبل الفيضان. فكان لزامًا عليه أن يبنى في تلك الفترة القصيرة، كما كان اختياره لموقع المقياس في الطرف الجنوبي من جزيرة الروضة أثرا في الحفاظ على جسم المقياس، فهذا الموقع تقل فيه شدة التيارات في النهر.
وبالرغم من أن المقياس مبني من الحجر ومن المعروف أن المياه تشكل مصدرا خطرا على الأبنية المبنية من الحجر، إلا أن المهندس استخدم مادة للعزل تعمل على الحفاظ على الأحجار من التفكك والانهيار، ولهذه الأسباب يقف الآن المقياس متحديا كل العوامل التي قد تشكل عليه عنصرا من عناصر الخطورة كالزمن والمياه.
فمقياس النيل يحمل أهمية كبرى من الناحية الأثرية، فهو مبنى أصيل مازال يحتفظ بكل عناصره الأصلية ولم يتعرض لأي عوامل تقلل من قيمته الأثرية، وهو أقدم مبنى حجري بني في مصر خلال العصر الإسلامي، وأقدم مبنى يحوي كتابه بالخط الكوفي المزهر، حيث يؤرخ علماء الآثار ظهور الكتابة الكوفية المزهرة على المباني بتلك الكتابات الموجودة بمقياس النيل، ومن ناحية العمارة الإسلامية هو أول مبنى استخدم فيه العقد المدبب والأعمدة المدمجة في الحوائط.
المصادر والمراجع:
- ابن ظهيرة، جمال الدين محمد بن محمد: الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة، تحقيق كامل المهندس ومصطفى السقا، القاهرة، وزارة الثقافة، 1969م، ص178 - 179.
- عبد الرحمن زكي: موسوعة مدينة القاهرة في ألف عام، القاهرة: مكتب الأنجلو المصرية، 1987م، ص361.
- منى نور الدين: مقياس النيل أقدم نموذج للعمارة المائية الإسلامية في مصر، جريدة الشرق الأوسط، العدد (8262)، الخميـس 20 ربيـع الثاني 1422هـ / 12 يوليو 2001م.
- زاهي حواس: مقياس النيل بالروضة، جريدة الشرق الأوسط، العدد (12882)، الخميـس4 جمـادى الأولـى 1435هـ / 6 مارس 2014م.
- الدكتور كمال الدين سامح: العمارة الإسلامية في مصر، القاهرة، 1991م. موقع التاريخ الإسلامي.
- سناء فاروق: مقياس النيل بالروضة، بوابة موطني الإلكترونية، 14 يوليو 2013م.
قصة الاسلام