روي أن أحدَ الولاةِ كان يتجول ذات يوم في السوق القديم متنكراً في زي تاجر وأثناء تجواله وقع بصره على دكان قديمٍ ليس فيه شيء مما يغري بالشراء كانت البقالة شبه خالية وكان فيها رجل طاعن في السن
يجلس بارتخاء على مقعد قديم متهالك ولم يلفت نظر الوالي سوى بعض اللوحات التي تراكم عليها الغباراقترب الوالي من الرجل المسن وحياه ورد الرجل التحية بأحسن منها وكان يغشاه هدوء غريب وثقة بالنفس عجيبة
وسأل الوالي الرجل دخلت السوق لاشتري فماذا عندك مما يباع أجاب الرجل بهدوء وثقة أهلا وسهلا عندناأحسن وأثمن بضائع
السوققال ذلك دون أن تبدر منه أية إشارة للمزح أو السخرية
فما كان من الوالي إلا ابتسم ثم قال هل أنت جاد فيما تقول أجاب الرجل نعم كل الجد فبضائعي لا تقدر بثمن أما بضائع السوق فإن لها ثمن محدد لا تتعداه دهش الوالي وهو يسمع ذلك ويرى هذه الثقة
وصمت برهة وأخذ يقلب بصره في الدكان ثم قال ولكني لا أرى في دكانك شيئا للبيع قال الرجل أنا أبيع الحكمة وقد بعت منها الكثير وانتفع بها الذين اشتروها
ولم يبق معي سوى لوحتين
قال الوالي وهل تكسب من هذه التجارة
قال الرجل وقد ارتسمت على وجهه طيف ابتسامةنعم يا سيدي فأنا أربح كثيراً فلوحاتي غالية الثمن جداً
تقدم الوالي إلى إحدى اللوحتين ومسح عنها الغبار فإذا مكتوباً فيهافكر
قبل أن تعمل تأمل الوالي العبارة طويلا ثم التفت إلى الرجل وقال بكم تبيع هذه اللوحة
قال الرجل بهدوء عشرة آلاف دينار فقط ضحك الوالي طويلا حتى اغرورقت عيناه وبقي الشيخ ساكنا كأنه لم يقل شيئاً وظل ينظر إلى اللوحة باعتزاز قال الوالي عشرة آلاف دينار هل أنت جاد
قال الشيخ ولا نقاش في الثمنلم يجد الوالي في إصرار العجوز إلا ما يدعو للضحك والعجبوخمن في نفسه أن هذا العجوز مختل في عقله فظل يسايره وأخذ يساومه على الثمن فأوحى إليه أنه سيدفع في هذه اللوحة ألف دينار
والرجل يرفض فزاد ألفا ثم ثالثة ورابعةحتى وصل إلى التسعة آلاف دينار والعجوز ما زال مصرا على كلمته التي قالهاضحك الوالي وقرر الانصراف وهو يتوقع أن العجوز سيناديه إذاانصرف ولكنه لاحظ أن العجوز لم يكترث لانصرافه وعاد إلى كرسيه المتهالك فجلس عليه بهدوءوفيما كان الوالي يتجول في السوق فكر
لقد كان ينوي أن يفعل شيئاً تأباه المروءة فتذكر تلك الحكمة فكر قبل أن تعملفتراجع عما كان ينوي القيام به ووجد انشراحا لذلك
وأخذ يفكر وأدرك أنه انتفع بتلك الحكمة ثم فكر فعلم أن هناك أشياء كثيرة قد تفسد عليه حياته لو أنه قام بها دون أن يفكر ومن هنا وجد نفسه يهرول باحثاً عن دكان العجوز في لهفة ولما وقف عليه قال لقد قررت أن أشتري هذه اللوحة بالثمن الذي تحددلم يبتسم العجوز ونهض من على كرسيه بكل هدوء ،وأمسك بخرقة ونفض بقية الغبار عن اللوحة ثم ناولها الوالي واستلم المبلغ كاملاً وقبل أن ينصرف الوالي قال له الشيخبعتك هذه اللوحة بشرطقال الوالي وما هو الشرط قال أن تكتب هذه الحكمة على باب بيتك وعلى أكثر الأماكن في البيت وحتى على أدواتك التي تحتاجها عند الضرورة
فكر الوالي قليلا ثم قال موافق وذهب الوالي إلى قصره وأمر بكتابة هذه الحكمة في أماكن كثيرة في القصر حتى على بعض ملابسه وملابس نسائه وكثير من
أداواته وتوالت الأيام وتبعتها شهور وحدث ذات يوم أن قرر قائد الجند أن يقتل الوالي لينفرد بالولاية واتفق مع حلاق الوالي الخاص أغراه بألوان من الإغراء حتى وافق أن يكون في صفه وفي دقائق سيتم ذبح الوالي
ولما توجه الحلاق إلى قصر الوالي أدركه الارتباك إذ كيف سيقتل الوالي إنها مهمة صعبة وخطيرةوقد يفشل ويطير رأسهولما وصل إلى باب القصر رأى مكتوبا على البوابةفكر قبل أن تعملوازداد ارتباكاًوانتفض جسد وداخله الخوف ولكنه جمع نفسه ودخل وفي الممر الطويل رأى العبارة ذاتها تتكرر عدة مرات هنا وهناك
فكر قبل أن تعمل تعمل وحتى حين قرر أن يطأطئ رأسه فلا ينظر إلا إلى الأرض رأى على البساط نفس العبارة تخرق عينيه
وزاد اضطرابا وقلقا وخوفا فأسرع
يمد خطواته ليدخل إلى الحجرة الكبيرة وهناك رأى نفس العبارة تقابله وجهاً لوجه
فكر قبل أن تعمل فانتفض جسد ه من جديدوشعر أن العبارة ترن في أذنيه بقوة لها صدى شديدوعندما دخل الوالي هاله أن يرى أن الثوب الذي يلبسه الوالي مكتوبا عليه فكر قبل أن تعمل
شعر أنه هو المقصود بهذه العبارة بل داخله شعور بأن الوالي ربما يعرف ما خطط لهوحين أتى الخادم بصندوق الحلاقة الخاص بالوالي أفزعه أن يقرأ على الصندوق نفس العبارةفكر قبل أن تعمل واضطربت يده وهو يعالج فتح الصندوق وأخذ جبينه يتصبب عرقا وبطرف عينه نظر إلى الوالي الجالس فرآه مبتسما هادئاً مما زاد في اضطرابه وقلقهفلما
هم بوضع رغوة الصابون لاحظ الوالي ارتعاشة يده ،فأخذ يراقبه بحذر شديد وتوجس وأراد الحلاق أن يتفادى نظرات الوالي إليه فصرف نظره إلى الحائط فرأى اللوحة منتصبة أمامه
فكر قبل أن تعملفوجد نفسه يسقط منهارا بين يدي الوالي وهو يبكي منتحبا وشرح للوالي تفاصيل المؤامرةوذكر له أثر هذه الحكمة التي كان يراها في كل مكان مما جعله يعترف بما كان سيقوم به
ونهض الوالي وأمر بالقبض على قائد الحرس وأعوانه ، وعفا عن الحلاقوقف الوالي أمام تلك اللوحة يمسح عنها ما سقط عليها من غبار وينظر إليها بزهو وفرح وانشراح فاشتاق لمكافأة ذلك العجوز وشراء حكمة أخرى منه
لكنه حين ذهب إلى السوق وجد الدكان مغلقاً وأخبره الناس أن العجوز قد مات