لا زال تلقين مواد الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعات المغربية مرتكزا في أكثر جوانبه على جهود الأستاذ الإملائية الرتيبة, ولا زالت السبورة الخشبية العريضة تحتل صدارة معظم مدرجات وقاعات التدريس في معظم الجامعات المغربية.
نقول هذا الكلام رغم أن البيئة الافتراضية الأدبية العربية قد عرفت درجة كبيرة من الامتلاء في السنوات القليلة الماضية، بحيث أصبح في الإمكان الآن أن نتحدث عن أدب عربي رقمي له أصوله ومراجعه الافتراضية الخاصة المفتوحة أو المرموزة، وعن متن أدبي رقمي هائل في مضامينه وفي تجلياته الفنية والأسلوبية.
وأعتقد أنه قد آن الأوان لمواكبة كل إنتاج أدبي رقمي متراكم أو جديد مواكبة نقدية واعية كفيلة بتمييز جيده من رديئه لتطوير المعرفة الأدبية، ولإنصاف جهود الأدباء الرقميين المخلصين حتى يُعرفوا أكثر، وتجد أعمالهم الأدبية الرقمية طريقها الصحيح إلى الطلبة والباحثين وعموم المهتمين.
وقد عمل مجموعة من الأساتذة في العقدين الأخيرين على اكتساب بعض المعارف الرقمية الأولية التي يتطلبها هذا العصر الرقمي الزاخر العجيب، وأقلها مثلا فتح حساب بريدي إلكتروني لإرسال البريد أو استقباله، ومنهم من تقدم أكثر في مجال التكوين الافتراضي الذاتي، وأثبت عن جدارة واستحقاق حضورا متميزا على الشبكة العنكبوتية من خلال موقع أو مدونة شخصية.
ولكن، ومع كل هذه الرياح الرقمية المتقلبة التي تهب علينا من كل اتجاه وصوب قد تجد في صفوف الأساتذة من لا يمتلك حسابا بريديا، بل ويعاني فوق ذلك من جفوة رقمية مزمنة تجعله لا يطيق التطلع إلى شاشة الحاسوب فضلا عن ملامسة لوحة المفاتيح ومداعبة الفأرة. ولذلك فهو قد يتحاشى الخوض في هذا الموضوع، وربما قدم بين يديه مبررات عدة، وأخفها مثلا أن شعاع الشاشة يضر بعينيه.
ولا شك أن أبناء اليوم من تلاميذ متمدرسين وطلبة جامعيين غير أبناء الأمس، وهم أكثر إقبالا على الانخراط التلقائي في البيئة الافتراضية من آبائهم وأجدادهم.
والسلاح الرقمي الذي يحمله التلاميذ والطلبة إلى حجرات المدرسة ومدرجات الجامعة في جيوبهم ومحفظاتهم منوع ومشكل بين هاتف محمول وذاكرة فلاشية رقمية، وأجهزة أخرى إلكترونية للعرض السمعي البصري بغية التثقيف، في أحيان قليلة، واللعب والتسلية في أغلب الأحيان.
ولا زال أكثرنا ـ كتربويين وموجهين ومعلمين وإداريين…ـ يعتبر أن حمل الأجهزة الرقمية إلى حجرات الدرس مجرد إزعاج ومضيعة للوقت، وما فكر أحدنا في يوم من الأيام في كيفية استثمار تلك الأجهزة الرقمية المحمولة استثمارا عقلانيا مرنا في تلقين المعرفة وتثبيتها في عقول المتعلمين اليافعين، بالنظر إلى تعلقهم الشديد بتلك الأجهزة . وهو تعلق قوي ومتغلغل في وجدانهم بحيث قد يزيد حتى عن تعلقهم بأصدقائهم وأقرب الناس إليهم.
والسؤال المهم هنا هو: كيف نجعل مختلف هذه الأجهزة المتوفرة في بيئتنا الرقمية الإلكترونية امتدادا طبيعيا للأقلام والدفاتر والكراريس، ثم كيف سيكون واقع تعليمنا التقليدي المتهالك في السنوات القليلة المقبلة عندما تتجاوز البشرية مستوى التعليم الملقن إلى التعليم التفاعلي، وتنقطع صلة الناس على هذا الكوكب بالدفاتر والأقلام انقطاعا باتا لا رجعة فيه .. ؟ !
وعندما تناهى إلى علمي عزم وزارتنا القائمة على الشأن التربوي والتعليمي ببلدنا المغرب على إدراج مادة الأدب الرقمي في ترسيمة المنهاج التربوي الجامعي الجديد ابتهجت خيرا، واعتبرت هذه الخطوة فتحا جديدا من شأنه أن يضع كليات الآداب ببلادنا على سكة التطور الكوني الجديد، وهي التي بقيت حتى اليوم منغلقة على عوالم التقنية وكأنها تعيش في صحراء قاحلة بين قطيع الجمال وكثبان الرمال.
لكن، واقع التجهيزات المرصودة لهذا المطمح الحيوي قليلة إن لم نقل منعدمة حتى الآن، ليبقى تدريس الأدب الرقمي التفاعلي مجرد حبر على ورق في غياب التجهيزات التقنية الضرورية. وشيء طبيعي أنه لا يمكن تدريس الأدب الرقمي إلا في حجرات رقمية معدة لهذا الغرض، أما أن يدرس الأدب الرقمي عبر السبورة والطبشور فذلك ضرب من المحال.
ومع كل هذاوذاك أعتقد أن فكرة هذا المشروع قد جاءت متأخرة عن مثيلاتها في كثير من بلدان العالم الرقمي المتطور. وربما حكم على مادة الأدب الرقمي بسنوات أخرى من التأخير الإضافي لا يعلمها غير الله تعالى، في انتطار خروج مسلسل الإصلاح الجامعي ببلادنا من التخبط والارتجال، وانعدام التوافق بين الطموحات الكبيرة والإمكانيات شبه منعدمة، وكل ذلك على حساب الوقت الميت الضائع بين تجربة فاشلة وتجربة أخرى اكثر فشلا…
وفي نهاية هذا الإدراج يجدر بنا أن نشير إلى أن الأدب هو الأدب سواء أكان ورقيا أو رقميا، ما دام مستوعبا للتجارب البشرية التي يفرضها تطور الكائنات البشرية من الداخل والخارج وفي المحيطين: الخاص والعام
................................
عبد اللطيف المصدق