يأخذ الأدب الرقمي أشكالا مختلفة ومتعددة .. أشكال كلها تسائل مفهوم النص وتسائل أيضا أدواركل من الكاتب والمتلقي ..هذان الطرفان اللذان يشكلان أهم مبحث في الرقمية تتمايز بنظام (الأدبياتية الناشئة) ( Litterarité imérgente ) بمعنى أنه ليس هناك إلى حدود اليوم نموذج نصي رقمي مثالي ثابت مثلما هوالشأن في الرواية أو القصيدة السونيتة (العمودية) اللتين تسعفاننا على تحديد تعريف لهما بشكل دقيق.
تعريف كلاسيكي للنص
لقد كتبت العديد من الدراسات حول مفهوم النص ولايسع المجال هنا لمقاربة هذا المفهوم في شموليته ولذلك سنحاول ملامسة تعريفه المتداول ، البراغماتي ـ الذي سيمكننا من تحديد ماهيته . يقول رولان بارت :
(( ما معنى نص أدبي في التعريف العام ؟ إنها المساحة الظاهرة لعمل أدبي .. إنه نسيج الكلمات التي يتشكل منها المتن الأدبي .))
إن هذا التعريف البارتي يؤكد بشكل قطعي على أن وسيط النص هو ذوطبيعة لغوية وأن وحدة قاعدته هي الكلمة .
إن مولدات النص التركيبية أوالأوتوماتيكية والنصية المترابطة والخيال النصي
والتنويعات النحوية كلها تحتوي على نصوص تستجيب لهذا التعريف البارتي .
وخلافا لكل ما سبق يبدوهذا التعريف غيرمطابق في حالة تشخيص خاصيات جل
القصائد المتحركة ( Poémes animés ) مثلا القصائد الرقمية أوالمطبوعات المتحركة وأيضا بالنسبة للأعمال التفاعلية ، فهل من الحكمة الأدبية حشرهذه
الأجناس الأدبية الرقمية في خانة التعريف البارتي السابق ؟ ثم ألا نخاطربإقدامنا على اختراع مفهوم جديد مثلما إخترعنا مفهوم الإبيرميديا بكل سهولة ؟ لماذا نطرح هذا التساؤل ، لأن التعريف البراغماتي الكلاسيكي للنص الذي وظف ضمن مفهوم النص المترابط قد كان تعريفا ضيقا وأكثرمحدودية .
هل هذا التعريف للنص تعريف عالمي ؟
إن ملاءمة التصورالكلاسيكي للنص قد تطوربتطورجنس الرواية التي ظهرت كجنس
سردي مستقل في نهاية العصرالوسيط بفضل التقدم التقني للمطبعة ؛ فالبنيات السردية الطويلة تتطلب إستقرارا واستمرارية للنص لأنها تتجاوزإمكانيات الذاكرة الإنسانية في قدرتها على التخزين التي لاتتجاوزسعتها الزمنية مدة وجيزة .
ولهذا السبب فاليوم وفي غالب الأحيان كثيرا ما نعتبرالأدب نظيرالرواية . وانطلاقا من مقاربات مختلفة فإن الأشكال التي تشتغل على اللغة هي الأشكال التي تم إقصاؤها من منظومة الأدب من طرف بعض المهتمين بأسئلة الأدب الذين جعلوا من هذا المفهوم ( تسمية مضبوطة ومحصورة ) ، ولهذا فإن أغلب الشعراء القدماء في أوائل القرن العشرين يجدون أنفسهم خارج التصنيف الجنسي في مجال الأدب للإعتبارات التالية :
ــ إدراجهم لبعض الوسائط غيرنصية خصوصا الصورة التي يبدعونها في مختلف
وضعياتها الإستعارية ، ففي تلك الأعمال الشعرية تستثمرالبنيات النصية خاصيات الصورة وخاصيات النص الشعري .
ــ على غرارالقصيدة الغنائية تستعمل هذه البنيات الحرف أو رموزا غريبة عن
الأبجدية باعتبارها عناصر أساسية في المتن .
ــ لأن هذه البنيات تعطي مكانة أساسية للسمعي وتعمل على بنينة بعض الأصوات
القابلة للتمثيل الشفهي خلال قراءتها .
بينت مجموعة من السيميوطيقيين تدعى مجموعة ( MU ) أن أعمال بييرغارنيي
تشتمل على بنيات بلاغية ؛لذا يجب إذن القبول بأن نتصورأن النص يمكنه ألاّينحبس
في التصورالكلاسيكي ، ومن جانب آخرنرى أنه في العصرالوسيط قد تم مزج
الصورة والنص في المنمنمات والزخارف والقصائد المجسّمة (الكاليغرامات) وفضاءات النص . وفي هذه الأعمال كما نلاحظ لايتأسس إبداع المعنى على الخصوص على الوسيط اللغوي .
يمكن إعتبارأن النثريشتغل على اللغة من خلال منطوقات لغوية بينما تشتغل الأشكال
الشعرية الجديدة على اللغة في مختلف علاقاتها بالمنطوق ، بمعنى أن النثرينتج معناه بواسطة اللغة بينما يطرح الشعرسؤاله حول مكانة اللغة في إنتاج المعنى ، وهاتان
وضعيتان مختلفتان تماما . إن النثرنشاط أدبي يتمركزحول النص بينما الشعر يتبدىّ مثل نشاط أدبي غيرأنه وخلافا للنثرفهويتمركزحول علاقته بالنص .
حقا إن إقحام وسائط غيرلغوية أومقاربة النص( المفردة والجملة) يفصح عن حذرعام بخصوص المنطوقات اللغوية ويطرح بشكل مباشرعلى المتلقي سؤالا أساسيا هو: ماذا تصنع بلغتك ؟
كل الحركات الشعرية في القرن العشرين التي إشتغلت في هذا الإتجاه قد قامت بذلك ردا على لغة الخشب وعلى الخطابات التوتاليتارية . إن هذا البعد السوسيوسياسي يحضربقوة في بعض الأعمال الأدبية الرقمية ، خصوصا تلك التي تهتم أساسا ب ( بفن الشفرة ) .
يبدوإذن من المستحسن أن نقارب الشعربصفة عامة والأدب الرقمي بصفة خاصة وأن نعود إلى التعريف السيميوطيقي العام للنص باعتباره نسيجا من العلامات . إن النص
هو مجموع العلامات التي تتبادل في ما بينها علاقات بدون أفكارعن الطبيعة السيميوطيقية لهذه العلامات الشخصية ؛ وسنستعمل في ما بعد مفهوم ( نص لغوي ) عندما نريد أن نبين التعريف الكلاسيكي . فإستعمال كلمة نص لوحدها تعني علاقتها بالنص السيميوطيقي.
هل الأدب الرقمي هوأدب فن النص ؟
إن جهازالتواصل قد وضع بشكل أوسع من أجل الإسهام في الأدب الرقمي ، وقد رأينا في ما سبق وفي العديد من المرات أنه بإمكان هذا الجهازومن داخل الأدب أن يلعب دورا أساسيا من خلال التغييرالعميق لفعل القراءة ولنشاط الكاتب وذلك بإدراجه في
النص عناصرلاتنتمي للمنطوقات ، مثلا القراءة كما هي في ( جمالية الكبت)وهناك إختلال جديد تمظهربخصوص شعرالقرن العشرين ، وعلينا ألاّ نعتبرأن النشاط اللغوي الذي ينتجه الأدب الرقمي يظل مركزا على العلاقة بالنص ويمكن أن
يتبأرحول العلاقة التي ينظمها القارئ مع لغته ، إنه يتبأرفي غالب الأحيان حول
علاقة المستعمل L’usager أكان قارئا أم كاتبا وكذلك على قدرة فعل اللغة ( بفضل البرنامج ) . إن هذا الأدب الرقمي يتمحورحول جهاز، وأدب كهذا يماثل كثيرا دورالمنطوق إلى درجة تجعل وجوده في بعض الأحيان أساسيا أكثرمن دلالته .
هكذا إذن تكون الخاصيات الثلاث التي تقعّد للنص الكلاسيكي محصّنة ، بيد أن وضعها قائم بطريقة مختلفة : فاللغة تأخذ دائما مكانتها المركزية في المنطوق ، الذي يبدو خطيا وواضحا غيرأن بناء الصورة وعرضها يقوم على الكلمات التي تحدد
أجزاء هذه الصورة ... كما أن قصدية الكاتب تظل متمركزة على عمل اللغة ؛ كما أن بنيات العمل الأدبي تجد تمفصلاتها حول تصورما للغة ، إلاّ أنه في منطق المسارات الأدبية في القرن العشرين لم يعد النص حاملا للدلالة ، كما يمكن أن نؤكد أنه لم يكن قط حاملا لمجموع دلالاته ، إنه يقتسم تدبيرالمعنى مع عناصرالجهاز.
إن الأدب الرقمي لايشكل فن النص لكنه يشكل فن العلاقة باللغة . وبهذا المعنى فإن كل أدب رقمي بما فيه الخيالي يمكن أن يشكل ويعتبركحالة شعرية خاصة والخيال هوأيضا باعتباره حاملا لعمل خاص حول البنيات السردية والروائية .
انفجار النص
إن التعريف السيميوطيقي للنص يمكننا من تجميع كل المؤثرات المتعددة الوسائط في
النص كما أنه يمكننا من كشف شامل لكل العلامات الأبجدية ؛ ويجب أن نشيرمرة
أخرى إلى أن للأعمال الأدبية الرقمية نظام (الأدبية الناشئة) . وكما سنرى بالتفصيل
في هذه الدراسة ، فالنص في التعريف السيميوطيقي قد تفجرفي شكل العديد من الموضوعات . ليست هناك وحدة للنص الرقمي مثلما هي متواجدة في الكتاب
المطبوع . إن هذه الأشياء تتواجد في العديد من مواقع ومساحات الجهازالتواصلي ، وبذلك يفقد النص تدفقه .. ولهذا السبب تنعدم إمكانية وضع تصورعالمي للنص ؛ لأن
هذا الأخيريتغيربالنسبة لنفسه وبالنسبة للآخرين وعلى مستوى مساحته وحافزه كما أنه يتغيرمن قراءة لأخرى . وفي ظل هذه الشروط يوجد هناك دائما فصل وفك إرتباط بين الخطاب الذي يحمله العمل الأدبي ومحتواه ؛ وللوصول إلى الخطاب علينا أن نأخذ بعين الإعتباروبشكل أوفرمختلف الملفوظات فضلا عن نوع من العلامات
التي توظف بشكل أقل في الأعمال الرقمية : إن الأمريتعلق هنا بسيرورات وأعمال
الفاعلين في التواصل ، مثلا لقد رأينا أن الحركة(السيرورة الفيزيقية) تلعب دورعامل
في القصيدة الغنائية الرقمية .. كما رأينا أيضا أن الإبحاربماهوفعل القارئ يشكل علامة في الخارج ـ نصية وهناك ظواهرأخرى من هذا القبيل قد تم توضيحها على مستوى تحليلنا للأعمال التي قمنا بها في هذه المعطيات القاعدية.. إن هذه الأصناف من العلامات تنتمي إلى النص على مستوى التعريف السيميوطيقي
أين النص ؟
طرح هذا السؤال الإشكالي يعود أساسا إلى تساؤلنا حول موضوع آخرهو : أين توجد العناصرالمشكلة لمعنى العمل الأدبي ، وبتعبيرآخرأين هي العلامات ( بما هي الوحيدة ، القادرة على خلق وتحريك المعنى في العمل الأدبي الرقمي ؟
................
عرض : بيير بوتز