إن من أخطر آفات العمل الدعوي التي ممكن أن تحبط مجهودات سنوات متصلات وتعيد العمل للخلف أو حتى إلى النقطة رقم صفر، هي آفة الاستعجال التي عصفت بحركات إسلامية كاملة وحيدتها عن مسيرة العمل وأخرجتها من صف التمكين. والاستعجال ليس آفة خاصة بالعمل الإسلامي وحده إنما لأي تجمع حركي عملي, لذلك فإن الاستعجال في جملته مذموم في الكتاب والسنة,لذلك فإن أعداء الله عز وجل يلعبون على وتر هذه الآفة جيدًا فيستدرجون التجمعات الدعوية لصدمات مبكرة قبل الاستعداد لذلك فتكون النتيجة معروفة ومحسومة، ضرب العمل الدعوي في مقتل لتخلو الساحة لأعداء الله يعيثون فيها كما يشاءون.
مقدمات معركة الجسر
وصفحتنا هذه صورة حية وواقعية لخطورة الاستعجال وضرره على المجهودات الدعوية لنجدة المسلمين من جحافل الروم، ظن الفرس أن الساحة قد خلت لهم فحاولوا التخطيط لتصفية الوجود الإسلامي، ولكن البطل المقدام المثنى بن حارثة رضي الله عنه أفشل خططهم وتحيز بالمسلمين على حدود العراق، وذهب مسرعًا للمدينة ليقابل الخليفة أبا بكر فوجده في النزع الأخير فلما مات وتولى الفاروق عمر رضي الله عنه ندب الناس للخروج لبلاد العراق، فلم يستجب له بعد محاولات متعددة سوى ألف رجل، أمَّر عليهم أبا عبيد الثقفي أول من استجاب لنداء الجهاد.
ولم يكن أبو عبيد الثقفي على المستوى اللازم لقيادة الجيوش في هذه الفترة العصيبة إلا أنه كان من أشجع خلق الله تعالى, فلما دخل أبو عبيد العراق نظم الجيوش واستطاع بفضل الله ثم شجاعته المهولة وإقدامه أن يستعيد كل ما تخلى عنه المسلمون من أراضي العراق في تسعة أيام فقط لا غير، وانتصر بجيشه الصغير الذي لا يبلغ العشرة آلاف في ثلاث معارك كبيرة هي( النمارق 8 شعبان 13هـ / أكتوبر 634م، السقاطية 12 شعبان 13هـ، باقسياثا 17 شعبان 13هـ) على قرابة الربع مليون فارسي، فاستطاع أبو عبيد بذلك أن يفعل ما لم يفعله أحد ولا حتى خالد نفسه.
مؤتمر المدائن
كان لهذه الانتصارات المدوية أثرًا سيِّئًا على القيادات العليا في المدائن، وثار خصوم رستم عليه واتهموه بالتقصير والتخاذل عن قتال المسلمين فعقد رستم اجتماعًا على أعلى المستويات القيادية واستدعى رستم القائد "الجالينوس" الذي فر من قتال المسلمين وغضب عليه بشدة وحكم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ وأنزل رتبته من قائد عام إلى مساعد القائد العام، ثم تشاور رستم مع كبار قادة جيوشه في كيفية تحقيق النصر على المسلمين ولو مرة واحدة لرفع الروح المعنوية لجنود الفرس الذين هزموا في كل لقاءاتهم مع المسلمين.
وكان رستم داهية فبدأ الإعداد للجيش باختيار قائده، فسأل عن أمهر القادة الفرس وأدهمهم؟ فقالوا له "ذو الحاجب بهمن جاذويه"، وكان من أشد قادة الفرس كبرًا وحقدًا على المسلمين والعرب، وإنما تسمى بذي الحاجب لأنه كان يعصب حاجبيه الكثيفين ليرفعهما عن عينيه تكبرًا, فأسند له رستم قيادة الجيش، واختار رستم بنفسه أمراء الجند وأبطال الفرسان وزودوه ولأول مرة بسلاح المدرعات الفارسي وهم الفيلة، وليضفي رستم أهمية خاصة على هذا اللقاء أعطى لهذا الجيش راية الفرس العظمى واسمها "دارفن كابيان"، وكانت مصنوعة من جلد النمور، طولها اثنتا عشرة ذراعًا وعرضها ثمانية أذرع، وكانت هذه الراية لا تخرج إلا مع ملوكهم في معاركهم الحاسمة.
تحركات الجيش المسلم
نقلت استخبارات أبي عبيد تفاصيل ما دار في المدائن وأخبار الجيش الفارسي الجرار الخارج لقتالهم، فسارع أبو عبيد وعبر بجيشه الفرات نحو الغرب حتى وصل بابل شمال الحيرة وجنوب المدائن، وكانت تلك المنطقة صالحة للقتال، ولكن أبا عبيد رأى أن يعبر الفرات مرة أخرى ناحية الحيرة، وعسكر على مقربة من نهر الفرات على أطراف الصحراء، وهذا المكان أفضل مكان للقتال لخبرة المسلمين في قتال الصحراء ولسهولة الكر والفر.
الغلطة القاتلة
نزل الفرس بقيادة بهمن جاذويه على الشاطئ الشرقي لنهر الفرات المقابل، وأرسل برسول من عنده إلى القائد أبي عبيد، وكان هذا الرسول من دهاة الفرس واسمه "مردان شاه" قائد سلاح الدروع، وكانت فحوى الرسالة: "إما أن تعبروا إلينا وندعكم تعبرون، وإما أن تدعونا ونعبر إليكم". فعقد أبو عبيد مؤتمرًا مع قادة جيشه للتشاور في عرض الفرس وأجمع قادة الجيش على ترك الفرس يعبرون لهم؛ لأن أرض المعركة ستكون أوسع وأسهل لحرب الصاعقة التي يجيدها المسلمون، وحتى يسهل قدوم الإمدادات للمسلمين ولئن عبور المسلمين للفرس سيحشرهم في مكان ضيق من ورائهم حاجز مائي خطير هو نهر الفرات والزاخر بالمياه الهادرة.
وكل ما سبق يحتم عدم العبور، ولكن أبا عبيد القائد العام يفاجئ الجميع برفض هذا الرأي والإصرار على العبور إلى الفرس، وتحجج بحجة واهية عندما قال: "لا يكونون أجرأ منا على الموت، بل نصير إليهم"، وهذا رأي مبني على الشجاعة فقط دون النظر لباقي المعطيات والظروف المحيطة بالأمر، وناشده قادة جيشه ومنهم الصحابي الجليل سليط بن قيس البدري ألا يعبر لهم لخطورة العبور، ولكن أبا عبيد أصر على رأيه وقال لسليط: "لا أفعل قد جبنت يا سليط"، فقال له سليط: "والله أجرأ منك نفسًا وقد أشرنا عليك بالرأي، فستعلم".
والواقع أن الذي دفع أبا عبيد لذلك الرأي أيضًا مكر ودهاء الفرس الذين استدرجوه لذلك، عندما قال الرسول الفارسي "مردان شاه" له: "إن أهل فارس قد عيروكم بالجبن"، فازداد أبو عبيد إصرارًا على رأيه.
وعندما أصر أبو عبيد على رأيه بالعبور للفرس أمر أبو عبيد بعقد جسر يمر عليه المسلمون للطرف الشرقي من النهر، وكلف أبو عبيد بهذه المهمة رجلًا معاهدًا في ذمة المسلمين واسمه "ابن صولبا"، وبالفعل أقام "ابن صولبا" الجسر ولكن بصورة واهية يجعل من السهل قطعه على مجموعة صغيرة من الرجال، ولعله فعل ذلك عمدًا ليقع المسلمون في الكماشة القاتلة، وبدأ المسلمون في العبور إلى الطرف الآخر وتركهم الفرس حتى تكامل عبورهم، فوجد أبو عبيد جيشه محصورًا في مكان ضيق يكون فيه نهر الفرات وروافده تحيط بالمسلمين من الخلف واليمين واليسار، والفرس بجيشهم الجرار أمام المسلمين.
بدأ معركة الجسر
وبمجرد أن تكامل المسلمون على الشاطئ الشرقي هجم الفرس بكل قواتهم خاصة سلاح الفيلة على المسلمين، ولم تكن خيل المسلمين قد رأت فيلة من قبل فنفرت منها بشدة وهربت في كل مكان، وبذلك تعطل أقوى أسلحة المسلمين وهو سلاح الفرسان. وقامت الفيلة بتمزيق صفوف المسلمين وأوقعت خسائر بالغة بهم، وعندها أمر القائد العام أبو عبيد بالتعامل مع الفيلة فنادى في أبطال المسلمين: "احتوشوا الفيلة"، أي أحيطوا بها واقطعوا أحزمة بطنها ليقع ما عليها من قادة، وكان أبو عبيد كما قلنا من أشجع الناس فكان هو أول من نفذ ما أمر به المسلمين، وبالفعل تم للمسلمين ما أرادوا وقطعوا أحزمة جميع الفيلة.
أبو عبيد شهيد معركة الجسر
حمى وطيس القتال جدًا، وما زال سلاح الفيلة يفعل الأفاعيل في المسلمين، وعندها قرر القائد أبو عبيد القيام بعمل بطولي نادر لا يجرؤ عليه إلا أمثال هذا البطل، فسأل عن مقتل الفيل، فقالوا له: "خرطومه"، فنادى في المسلمين: يا معشر المسلمين إني حامل على هذا المخلوق -يعني الفيل الأبيض قائد كل الفيلة- فإن قتلته فأنا أميركم وإن قتلني فأخي الحكم أميركم فإن قتل فولدي وهب ثم عد سبعة من القادة آخرهم المثنى بن حارثة.
ثم حمل في بطولة نادرة على الفيل الأبيض والذي كان مدربًا على فنون القتال، فاتقى ضربات سيف أبي عبيد، وألقاه على الأرض وداسه بأقدامه فاستشهد القائد أبو عبيد وقاتل المسلمون على جثته حتى لا يأخذها الفرس، ثم تولى مكانه أخوه الحكم مكانه ولكنه سرعان ما استشهد ثم ولده ثم الذي بعده حتى استشهد السبعة الذين عينهم أبو عبيد، وتسلم الراية أسد العراق المثنى بن حارثة الذي حاول تصحيح الوضع حتى حدث ما لم يكن في الحسبان.
عملٌ متهورٌ
بينما المثنى ينظم صفوف جيشه ويدعو الفارين للثبات إذ سارع رجل متهور من بني ثقيف واسمه "عبد الله بن مرثد الثقفي" إلى الجسر فقطعه وتعصب مجموعة من بني ثقيف لفعلته ونادوا في المسلمين "موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا"، وفرح الفرس بهذه الفعلة وركزوا هجومهم على المسلمين ليفنوهم بالكامل وركزوا هجومهم ناحية الجسر المقطوع حتى لا يصلحه أحد، ووقع الاضطراب الشديد في صفوف المسلمين وفر الكثير منهم وألقوا بأنفسهم في نهر الفرات، وكان أكثرهم لا يعرف السباحة فغرق منهم ألفان.
أسرع المثنى لما رأى هذه الكارثة المروعة بالمسلمين وانتخب كتيبة من الأبطال بقيادته لإصلاح الجسر المنهار وكان المتهور عبد الله ابن مرثد الثقفي قد وقف عند الجسر ليمنع المسلمين من الفرار فألقى المثنى عليه القبض وضربه وربطه على فعلته فاعتذر له عبد الله بن مرثد فإنه أراد أن يثير حمية المسلمين للقتال، وفي شبه معجزة استطاع المثنى ومن معه إصلاح الجسر، ونادى في الناس قائلًا: "أيها الناس أناديكم فاعبروا على هيئتكم -أي على مهلكم- ولا تدهشوا فإنا لم لن نزايل -أي نتحرك- من مكاننا حتى نراكم في الجانب الآخر"، وبالفعل استطاع ستة آلاف أن يعبروا الجسر للضفة الأخرى.
وبعد أن كمل الانسحاب ولم يبق مسلم في مكان المعركة كان آخر من انسحب الأسد الهصور المثنى بن حارثة فانسحب ووجهه نحو الفرس يقتلهم وظهره للمسلمين وقد أصيب إصابة بالغة أدت لوفاته بعد ذلك بشهرين رحمه الله [*].
نتائج وآثار موقعة الجسر
جرت المعركة في "23 شعبان 13هـ/ 22 أكتوبر 634م"، وكان انتصار الفرس واضحًا، على الرغم من تكبدهم ستة آلاف قتيل، انتهت هذه المعركة باستشهاد أربعة آلاف شهيد، منهم الأمراء السبعة وثلاثمائة رجل من قبيلة ثقيف وحدها، لذلك فإن وقعها كان شديدًا على نفوس المسلمين، حتى أن ألفين من الجيش قد فروا حتى دخلوا البادية فاختفوا فيها خجلًا مما جرى، ولم يبق مع المثنى سوى ثلاثة آلاف هم الذين انتقموا لمصرع إخوانهم في معركة البويب في شهر رمضان 13هـ.
ولم يتعقب بهمن جاذويه المسلمين؛ لأن أخبارًا وصلت إليه عن نشوب ثورة ضد رستم، فآثر العودة إلى المدائن حتى يكون قريبًا من مجرى الأحداث، إلا أنه ترك اثنين من قادته في المنطقة هما جابان، ومردان شاه ليتعقبا المسلمين، والواقع أن المثنى كمن لهما في أليس وأسرهما وقتلهما مع جندهما، وتحصن في هذه المدينة بانتظار جلاء الموقف.
تعقيب على معركة الجسر
- كانت معركة الجسر أول معركة يخسرها المسلمون أمام الفرس، وتعد تجربة حية في حروبهم لإثبات قيمة كفاءة القيادة، إذ إن الإيمان والجشاعة وحدهما لا يكفيان لتحقيق الانتصار.
- إن الحماس المجرد الذي أبداه أبو عبيد قبل بدء القتال، لا مكان له في المعارك إذ لم تسانده أسس صحيحة، وتخطيط سليم.
- افتقد أبو عبيد إلى عنصر الأمن حين حشره بهمن جاذويه في مكان ضيق، وحرمه من حرية الحركة، والانتشار الضروريين لخوض معركة ناجحة.
- على الرغم من تفوق الفرس في القتال، فإنهم لم يتمكنوا من أسر أحد من المسلمين، مما يدل على أن المقاتل المسلم احتفظ بميزاته في أشد المواقف حرجًا وشدة، وظل يقاتل حتى آخر رمق.
- لا شك بأن ثبات المسلمين في القتال، كان من العوامل التي دفعت الفرس للعودة إلى المدائن، ومنعتهم من مطاردتهم.
- كان لهذه المعركة أن تدور بطريقة أفضل لو أن أبا عبيد استجاب لنصيحة مستشاريه، وتذكر نصائح الخليفة عمر بن الخطاب له.
- أضاعت هذه المعركة مكاسب المعارك السابقة، ولكن إلى حين، وجعلت الحرب سجالًا بعد أن كانت سلسلة متصلة الحلقات من الانتصارات المتعاقبة.
- غلب على معارك المسلمين الثلاث، قبل قدوم أبي عبيد، الطابع التقليدي، وهو الإغارة على القرى، ولم يكن المسلمون مهيئين لصدام جبهوي واسع مع جيش فارسي بغياب قيادة كقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه.
- أضحى استمرار التقدم مستحيلًا بعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر دون إدخال إمدادات جديدة إلى المعركة، إذ إن الآلاف الثلاثة من المقاتلين الذين نجوا من المعركة، واستمروا بالتواجد على أرض العراق، شكلوا أصغر قوة إسلامية منذ بدء الفتح، فضلًا عن إثخانهم بالجراح [**].
[*] معركة الجسر .. عاقبة الاستعجال، موقع مفكرة الإسلام.
[**] سهيل طقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، ط1، النفائس، ص186 – 187.
قصة الإسلام