تمهيد
إنّ من المسائل التي شكّك فيها بعض المحقّقين في القرون المتأخّرة, مسألة حضور أهل البيت عليهم السلام في الأربعين الأوّل لشهادة الإمام الحسين عليه السلام عند مقامه الشريف. وفي المقابل شرع بعض العلماء لردّ هذا التشكيك ولإثبات زيارة الأربعين الأوّل. إنّ هذه المقالة تبدأ بذكر أدلّة المنكرين للأربعين الأوّل، بعد ذلك تأخذ بردّ هذه الأدلّة, وأخيراً تؤيّد رأي القائلين بثبوت الأربعين الأوّل, من خلال القرائن والشواهد.

المقدّمة
إنّ من المباحث المهمّة, في تاريخ عاشوراء التي حُقّق فيها وبُحث عنها, هو موضوع حضور أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في الأربعين الأوّل لشهادة الإمام الحسين عليه السلام عند مقامه الشريف, ومقام شهداء كربلاء. فمن المشهور عند الشيعة أنّ الأربعين هو اليوم الذي زار فيه الصحابيّ الجليل لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم جابر بن عبد الله الأنصاريّ قبر الإمام الحسين عليه السلام، وفي نفس ذلك المكان والزمان حصل لقاء بين جابر وبين أهل البيت عليهم السلام عندما رجعوا من الشام لزيارة مقام الإمام الحسين عليه السلام. وكذلك فإنّ يوم الأربعين هو يوم إلحاق رأس الإمام عليه السلام إلى بدنه ودفنه هناك.

23

لكن في مقابل هذه الشهرة، هناك بعض العلماء الشيعة من السابقين والمعاصرين أنكر وصول أهل البيت عليهم السلام في يوم الأربعين من سنة 61 ق إلى كربلاء. وفي هذه السطور سيتمّ عرض وبحث أدلّة هؤلاء المنكرين, وكذلك البحث حول القرائن والأدلّة التي أقامها بعض المحقّقين المعاصرين لردّ أدلّة المنكرين وإبطالها. وفي النهاية سنعرض القرائن والشواهد التاريخيّة والروائيّة الواردة في هذا الموضوع, لإثبات تلك الشهرة.

الأربعون في المتون والنصوص الدينيّة
إنّ كلمة (الأربعين) تُعتبر من المصطلحات المستعملة كثيراً في المتون الدينيّة سواءٌ الروائيّة منها أو التاريخيّة، وقد حُدّد وعُيّن كثير من الأمور بهذا العدد الخاصّ. مثلاً: كمال العقل في الأربعين من العمر, آثار الإخلاص لأربعين يوماً، آثار حفظ أربعين حديثاً، دعاء أربعين شخصاً مجتمعين، الدعاء لأربعين مؤمناً، قراءة دعاء العهد أربعين صباحاً، عدم قبول صلاة شارب الخمر إلى أربعين يوماً، بكاء الأرض والسماء والملائكة على الإمام الحسين عليه السلام أربعين يوماً، استحباب زيارة الأربعين. هذه الأمثلة وغيرها تعتبر من الموارد التي تبيّن لنا المكانة الخاصّة والمهمّة لهذا المصطلح والعدد في المعارف الإسلاميّة2.

ومع ذلك لم يرد في الأحاديث استحباب زيارة الأربعين إلّا في حقّ الإمام الحسين عليه السلام. وأمّا غيره من المعصومين عليهم السلام ممّن سبق سيّد الشهداء عليه السلام أو جاء بعده, فلم يثبت له زيارة الأربعين. فإذاً من الناحية التاريخيّة والحديثيّة, لا يوجد أي سابقة ليوم الأربعين ولأعماله, إلى زمان واقعة عاشوراء، وهذا يعتبر من الإمتيازات الخاصّة بالإمام الحسين عليه السلام.

24

استحباب زيارة الأربعين في الروايات والشواهد التاريخيّة:
إنّ الدليل الأهمّ لبيان فضيلة في زيارة أربعين سيّد الشهداء عليه السلام هو المرسلة الواردة عن الإمام العسكريّ عليه السلام حيث يقول: (علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين...)3.

إضافة إلى هذه الرواية، فإنّ الإمام الصادق عند تعليمه لصفوان بن مهران الجمّال, كيفيّة زيارة الأربعين, كان قد صرّح وبيّن عظمة هذه الزيارة وفضيلتها4.

أمّا بالنسبة إلى منشأ أهميّة الأربعين في المصادر الشيعيّة القديمة، فنقول بأنّ هذا اليوم فيه عناية خاصّة من جهتين:


الأولى: من جهة رجوع الأسارى من الشام إلى المدينة.


الثانية: بسبب ما قام به جابر بن عبد الله الأنصاريّ الذي كان من الأصحاب البارزين لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولأمير المؤمنين عليه السلام، حيث زار قبر سيّد الشهداء عليه السلام في يوم الأربعين.
روى الشيخ المفيد، والشيخ الطوسيّ والعلّامة الحلّي حول هذا الموضوع: (يوم العشرين من صفر هو اليوم الذي رجع فيه حرم الإمام الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة. وفي هذا اليوم أيضاً، قدم جابر ابن عبد الله الأنصاريّ صاحب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من المدينة إلى كربلاء، من أجل زيارة الإمام الحسين عليه السلام، وقد كان هو

25

أوّل من زار قبر سيّد الشهداء عليه السلام)5.

الزائر الأوّل لقبر الإمام الحسين عليه السلام هو جابر بن عبد الله الأنصاريّ6: ذكرت المصادر التاريخيّة زيارة جابر لقبر سيّد الشهداء عليه السلام على نحوين وصيغتين, الصيغة الأولى واردة عن الطبريّ الشيعيّ حيث أورد زيارة جابر بصحبة عطيّة العوفيّ7 مع الإسناد وبالتفصيل، لكنّه لم يذكر شيئاً عن ملاقاة

26

جابر مع أهل بيت الحسين عليه السلام.
الصيغة الثانية هي التي نقلها السيّد ابن طاووس مختصرة، ومن دون صحبة عطيّة لجابر، ثمّ يذكر لقاء جابر مع الأسرى من أهل البيت عليهم السلام الذين رجعوا من الشام.
ولنبحث أوّلاً رواية الطبريّ ثمّ نتناول بالبحث رواية ابن طاووس.

روى عماد الدّين الطبريّ (المتوفَّى عام 525 ق) في كتاب بشارة المصطفى بسنده عن عطيّة بن سعد بن جنادة الكوفيّ الجدليّ أنّه قال:(خرجت مع جابر ابن عبد الله الأنصاريّ زائرين قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فلمّا وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثمّ اتّزر بإزار وارتدى بآخر، ثمّ فتح صرّة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخط خطوة إلّا ذكر الله تعالى، حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته، فخرّ على القبر مغشيّاً عليه، فرششت عليه شيئاً من الماء، فلمّا أفاق قال: يا حسين ثلاثاً، ثمّ قال: حبيب لا يجيب حبيبه.

ثمّ قال: وأنّى لك بالجواب وقد شُحطت أوداجك على أثباجك وفُرّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنّك ابن خاتم النبيّين وابن سيّد المؤمنين وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس أصحاب الكسا وابن سيّد النقباء وابن فاطمة سيدة النساء، وما لك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيّد المرسلين وربيت في حجر المتّقين ورَضَعْتَ من ثدي الإيمان وفُطِمْتَ بالإسلام، فطبت حيّاً وطبت ميّتاً، غير أنّ قلوب المؤمنين غير طيّبة لفراقك ولا شاكّة في الخيرة لك، فعليك سلام الله ورضوانه. وأشهد أنّك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا.

27

ثمّ جال ببصره حول القبر وقال: السلام عليكم أيّتها الأرواح التي حلّت بفناء الحسين وأناخت برحله، وأشهد أنّكم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وجاهدتم الملحدين وعبدتم الله حتّى أتاكم اليقين، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لقد شاركناكم في ما دخلتم فيه.

قال عطيّة: فقلت له: يا جابر كيف ولم نهبط وادياً ولم نعل جبلا ًولم نضرب بسيفٍ، والقوم قد فُرّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم وأُرملت أزواجهم؟!.
فقال لي: يا عطيّة سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: من أحبّ قوماً حُشر معهم ومن أحبّ عمل قومٍ أُشرك في عملهم، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين عليه السلام وأصحابه. خذني نحو أبيات كوفان.

فلمّا صرنا في بعض الطريق قال لي: يا عطيّة هل أوصيك؟ وما أظنّ أنّي بعد هذه السفرة ملاقيك. أحبب محبّ آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم ما أحبّهم, وأبغض مبغض آل محمّد صلى الله عليه واله وسلم ما أبغضهم, وإن كان صوّاماً قوّاماً، وأرفق بمحبّ محمّد وآل محمّد، فإنّه إن تزلّ له قدم بكثرة ذنوبه ثبتت له أخرى بمحبّتهم، فإنّ محبّهم يعود إلى الجنّة ومبغضهم يعود إلى النّار.

هل حضر أهل البيت عليهم السلام في يوم الأربعين إلى كربلاء؟
إنّ من المسائل المبهمة والمعقّدة في تاريخ عاشوراء، تعيين زمان وصول أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، لأنّ أغلب المصادر التاريخيّة والحديثيّة لم تنصّ على هذا الأمر, وأنّ هذه الحادثة هل وقعت في يوم العشرين من صفر(سنة ـ 61 ـ ق) أم بعد ذلك؟
إنّ ما نقلته الكثير من المصادر القديمة هو أنّ العشرين من صفر هو يوم إلحاق رأس الإمام الحسين عليه السلام ببدنه الشريف، وهذا ما سنتحدّث عنه لاحقاً في هذه المقالة. وممّا ورد أيضاً أنّ العشرين من صفر هو يوم رجوع حرم الإمام الحسين عليه السلام من الشام إلى المدينة. لكن هناك قول آخر حول هذا الموضوع, يعتب