كان أول من مصَّر مدينة بغداد وجعلها مدينة عظيمة المنصور بالله ابو جعفر الذي سماها مدينة السلام وانتقل اليها من الهاشمية وشرع في عمارتها سنة 145هـ/ 762م ونزلها سنة 149هـ/ 766م. وهي تعد اعظم تجربة معمارية قام بها العرب المسلمون في العصر العباسي، وفيما تركته من تأثير واضح في المدن التي اختطها العرب في البلاد الاسلامية خلال حكمهم الطويل.
روي عن الخطيب البغدادي أن عدد سكان مدينة بغداد في المرحلة المزدهرة من العصر العباسي بلغ (في ضوء عدد الحمامات) نحو 1.5 مليون نسمة أو مليوني نسمة مؤيدة برواية الطبري بحسب تقدير صاحب التمدن الاسلامي. كما قُدر عدد منازلها بنحو (125) ألف منزل.
وهناك من يقدر عدد السكان بمليون نسمة حيث امتدت الأبنية في الجانبين امتداداً عظيماً حتى صارت وكأنها مدن متراصة وأصبحت مركزاً للحضارة العالمية والتمدن الاسلامي. وبلغت أوج عمرانها واتساعها وكثرة سكانها على عهد المقتدر بالله (295- 320هـ/ 908 932)، إلا انه لم يتجاوز عدد سكانها تخميناً بحسب تقدير آخر عن 3/4 المليون نسمة. ومهما بالغ المبالغون لايصل عدد سكان مدينة بغداد في عهد هارون الرشيد باكثر من(نصف مليون) نسمة.
ويرى آخرون ان التقدير الأقرب الى الصواب يتراوح مابين (200- 600) الف نسمة. ويبدو أن الرقم (نصف مليون) نسمة ، كتقدير وسط، يعد مناسباً لمساحة مدينة بغداد في مرحلتها المزدهرة زمن العباسيين.
اما عدد سكان المدينة المدورة فقد أجرى الدكتور عبد العزيز حميد عملية حسابية لتقدير الدور في 45 ربضاً من أرباضها الموزعة بين أربعة أماكن بين أبوابها (حسب تقدير اليعقوبي) فوجد 720 داراً في الربض الواحد، مما يعني وجود 32400 دار . ويرى ان المعدل المعقول لعدد القاطنين في الدار الواحدة هو 8 أشخاص فتكون المحصلة النهائية لنفوس المنطقة السكنية في المدينة المدورة هي في حدود(260) الف نسمة كحد أعلى لعمق المنطقة السكنية الذي اقترحه الاستاذ هرتسفيلد وأيده الاستاذ كروسويل.
واذا اخذ الحد الادنى لعمق تلك المنطقة سينخفض عدد السكان الى(200) الف نسمة.
وقد يكون معدل الدار الواحدة من السكان(5) اشخاص هو أقرب الى الواقع في ذلك الوقت، مما يجعل عدد السكان يتراوح بين (130) و(162) الف نسمة في الحدين الأدنى والأعلى لعمق المنطقة السكنية داخل المدينة المدورة. واتسمت مدينة بغداد الشرقية في نهاية القرن الثالث الهجري(التاسع الميلادي) بكثرة سكانها كما وصفها اليعقوبي. وكانت تضم ثلاث محلات هي: الرصافة، الشماسية، المخرَّم. وبلغ امتداد الرصافة 7كم طولاً و2كم عرضاً. ويعد قصر الخليفة الكبير مركز السكان وكان يشغل ثلث مساحة المدينة ، وحوله شبكة من الأسواق والدروب.
وأشار ابن جبير(543هـ/1148) الى محلات بغداد التي كانت كلها تقع في الجانب الشرقي من المدينة بالرغم من (أن الخراب كان مستولياً عليه) .وعن الرصافة ذكر ان كل محلة منها كانت بمثابة مدينة مستقلة. ويُفهم من هذا القول :إنه كانت بين المحلة والأخرى أرض خالية من السكان أو أن بعض المحلات كانت مسورة.
ولم يبق مسكوناً أيام ياقوت(623هـ/ 1226) من تلك المحلات ، اي من القسم القديم من بغداد الشرقية ، سوى الرصافة وأبي حنيفة ودار الروم. أما الجانب الغربي، فقد سبق الجانب الشرقي في الخراب ، فما شاهده ابن جبير لايعدو أن يكون (الأثر
الطامساً).
وأشهر ثلاث محلات مزدحمة بالسكان في بغداد الغربية كانت تشمل(باب المحول) التي تبعد بفرسخ واحد(نحو 6كم) عن الأرباض الخارجية لبغداد الغربية ومركزها الأسواق الأربع وهي مركز تجاري عظيم. وكانت هذه المحلة في زمن ياقوت الحموي مشتهرة بورقها الفاخر. وفي عام 700هـ كانت قرية منعزلة، والثانية محلة (باب الروم) وهي محلة للنصارى ، وكانت مأهولة بالسكان حتى الربع الأخير من القرن الرابع الهجري(العاشر الميلادي) استناداً الى ما جاء في كتاب (الفهرست). والمحلة الثالثة هي(الكرخ) وهي على بعد شوط فرس (0.8كم) من محلة باب البصرة التي وفيها جامع المنصور الكبير. وظلت الكرخ اكثر المحلات ازدحاماً بالسكان واحتفاظاً بهيئتها واشتهرت بنشاطها
التجاري.
المصدر : جريدة الصباح