وصفوها واجادوا بالوصف «مدينة التآخي» وكيف لا ؟ وهي عبارة عن عاصمة فعلية لمختلف الاديان والقوميات والطوائف، فهي كما سموها العراق المصغر، انها مدينة الذهب الاسود، وجامعة الملل والقوميات ولاعجب ان تجد فيها آثارا ترسم لك خريطة ذلك التعايش الذي عاشته المدينة منذ تأسيسها الموغل في القدم حتى يومنا هذا، محافظة كركوك التي تبعد 255كم عن العاصمة بغداد، تحدها من الشمال عاصمة الاقليم محافظة اربيل، ومن الشرق محافظة السليمانية كما يقول صديقي خليل محمود وهو استاذ الاجتماعيات في المحافظة، مضيفا ان محافظتي نينوى وصلاح الدين يجاورانها من جهة الغرب والجنوب الغربي، وديالى من جهة الجنوب والجنوب الشرقي، واصفا إياها بحلقة التواصل بين المناطق الجبلية والاراضي السهلية، وهذا ما اعطاها موقعا جغرافيا مهما خاصة وانها الحد الفاصل مابين العراق ومحافظات الاقليم.
مدينة موغلة بالقدم
تنقسم اراضي المحافظة كما يقول محمود على ثلاثة اقسام (السهول والهضاب والجبال) مبينا ان السهول تشكل اكثر من نصف مساحتها واهمها والكلام لمحدثنا (سهول الحويجة وحمرين وباتيوه)، وتحيطها سلسلة جبال حمرين وخلخلان وهنجيرة، واهم هضابها هضبتا كركوك ومقان، ويحيطها نهرا الزاب الصغير وسيروان، ويخترقها من الداخل نهرا الخاصة وآوه سبي اللذان يلتقيان عند سلسلة جبال حمرين ليشكلا نهر العظيم، وعن تسميتها يقول محمود ان اسم كركوك في جغرافية بطليموس هو (كركورا)، وهو (كونكون) في خارطة الطرق الرومانية، ومن المثير للانتباه هو عدم ورود اسم كركوك في الكتب التي تتحدث عن الغزوات، والفتوحات الإسلامية . مشيرا الى ان ياقوت الحموي اكتفى في معجمه بالحديث عنها بقوله (إنها ـ أي قلعة كركوك ـ قلعة في وطء من الأرض حسنة، حصينة بين داقوقا وأربل، ويقصد اربيل رأيتها، وهي على تل عال، ولها ربض صغير.) كما ورد ذكرها في كتاب (الكامل) لابن الأثير باسم (بلد كرخيني) ،مضيفا ان كركوك وقلعتها التي تقع على نهر الخاصة تم بناؤها في عهد الملك الاشوري (آشور ناصربال الثاني) 884-858ق.م ، وهذا ما يجعل مدينة كركوك من المدن القديمة ليس في العراق فقط، وانما على مستوى مدن الشرق الاوسط بحسب قول محمود.
700 موقع اثري
كانت كركوك كما تشير المصادر في عهد الدولة العثمانية تابعة لولاية الموصل، وهي مدينة ليست غنية بحقولها النفطية فقط، وانما بمواقعها الاثرية، ولايمكن الحديث عن هذه المدينة دون التطرق الى قلعتها الشهيرة التي تقع وسط المدينة وبالتحديد على نهر الخاصة الذي يخترقها، وبحسب معطيات ووثائق دار الآثار في المحافظة فإنها تحتوي على(700) موقع اثري بعضها في المركز والاخرى موزعة بين الاقضية والنواحي، وبين مدير الآثار فيها إياد طارق حسين بتصريحات اعلامية سابقة ان من مواقعها المهمة والبارزة هي قلعة كركوك التي يعود تاريخها الى 2600 عام قبل الميلاد الى عصر فجر السلالات السومرية، وكذلك بنايتا الشيخ حماد والإمام اسماعيل في قضاء الحويجة وتعود للفترات الإسلامية، والجسر الحجري في قضاء داقوق، واضاف حسين بأن كركوك لا تحتوي فقط على مواقع اثرية وأكد ايضا “لدينا من المواقع التراثية وهي قشلة كركوك وقيصرية كركوك والكنيسة الحمراء والعديد من الخانات التراثية الواقعة في الصوب الكبير من المركز اي السوق الكبير كما يطلق عليه،وأشار أن هناك (12) خانا من الخانات التراثية المهمة في مدينة كركوك التي قامت دائرتنا بالإشراف على صيانة هذه الخانات التي كانت بتمويل من اصحاب الخانات ولكن بإشرافنا.
من الاسكندر الى المغول
بنيت قلعة كركوك في الاصل على تل مدور ذي اربع زوايا يرتفع عن السهول المحيطة به بنحو 120 قدما ويشرف على نهر الخاصة ذي مياه قليلة يفيض عادة في الفصول الممطرة، وعلى ما يظهر فإن هذه القلعة كانت مسورة في العصور القديمة و كان لها اربعة أبواب سماها العثمانيون بالباب الرئيس ذي المدرجات و باب الطوب و باب البنات السبع و باب الحلوجية، أشهر المجمعات السكنية في قلعة كركوك كانت تقع في قسمه الغربي الذي اشتهر بمحلة حمام حيث شاطر فيها المسلمون اخوانهم المسيحيين لقرون عديدة، وكان كل من مركز مطرانية باجرامي و جامع النبي دانيال يقعان في المحلة نفسها، وتعد تلك البوابات الحجرية التي يزيد عمرها على قرنين من الزمان فريدة من نوعها لما تتميز به من طراز معماري جميل واعطتها الاقواس رونقا ابهى، وكانت تعلوها كتابات لكنها بسبب عوامل التعرية ازيلت بعض نصوصها، ويضيف محمود انه بعد وفاة الإسكندر، اقتسم قادته مملكته فكانت كركوك من نصيب القائد (سلوقس) الذي أسس فيما بعد الدولة السلوقية 311 ـ 1319 ق.م. وتؤكد المصادر التاريخية أن القائد المذكور أقام على أنقاض المباني المهدمة قلعة حصينة مسورة بسور منيع عليه 72 برجاً، وشُيِّد لها بابان أطلق على الأول اسم (باب الملك)، وعلى الثاني اسم (باب طوطي) وهو اسم حاكم القلعة آنذاك. كما قام بتقسيم القلعة على 72 زقاقاً. وقام كذلك بإسكان بعض العشائر حول سور المدينة فصارت تعرف المدينة منذ ذلك الحين باسم (كرخ سلوقس) أي (مدينة سلوقس ) حتى انتزعها منهم البارشبول (256 ق.م)، وفي عصر البارثين كثرت الفتن والاضطرابات الداخلية فساءت الأوضاع واندلعت الحروب بينهم وبين الرومان مما أضعف دولتهم فاستغل الساسانيون ضعف البارثين فهجموا عليهم، واسقطوا حكمهم. في حدود سنة 227 ق.م ولم يتم خلاص أهالي (كرخيني) إلا على يد الجيوش الإسلامية التي قضت على الدولة الساسانية، وقد عاشت المدينة فترة من الرخاء والاستقرار حتى فترة اكتساح المغول بلاد المسلمين فدخلت كركوك تحت حكم التتار.
مسجد النبي دانيال
يقول الملا حسن وهو صاحب إحدى المكتبات وسط كركوك ان تسمية مدينة كركوك بمدينة التآخي والتعايش السلمي لم يأتِ من فراغ، وان الجميع يعرفون هذه الحقيقة، والدليل على ذلك على سبيل المثال لا الحصر هو وجود جامع النبي دانيال، وهو عبارة عن مسجد شُيِّد على قبر يعتقد انه يضم جسد النبي دانيال ويقع هذا المسجد الذي يعد من التحف العمرانية العظيمة ضمن قلعة كركوك، ويحتوي على قبَّتين ومنارة واحدة ويتميز كما يبين حسن بالاقواس والاعمدة التي يعود تاريخها لفترة حكم المغول، وتبلغ مساحة المسجد 400 متر مربع، ويحتوي جامع النبي دانيال على ثلاثة أضرحة يعتقد انها تعود إلى النبي دانيال والنبي حنين والنبي عزير.
نتيجة للاحترام الكبير والمحبة الفائقة التي كان يكنها أهل كركوك للمسيحيين واليهود ولشخص النبي دانيال قام أهل كركوك القدماء بدفن موتاهم بجانب مسجد النبي دانيال حيث تعد المقبرة الموجودة بجانب المسجد من أقدم المقابر في مدينة كركوك، وهذا دليل واضح على التعايش بمحبة بين الاديان والقوميات التي عاشت وستعيش في هذه المدينة، مضيفا ان المسجد كان معبدا يهوديا ثم تحول الى كنيسة وبعد ذلك الى مسجد لكنه بقي محافظا على اسمه النبي دانيال، وهناك مرقد له ايضا في الموصل بالاسم نفسه ومسجل بدائرة تسجيل محافظة نينوى، ولا اظن كما يقول حسن قد سلم من ارهاب داعش التي ليست لديها حرمة لقبور الانبياء والاولياء، مضيفا ان في كركوك مقام الامام زين العابدين بن الامام الحسين عليهما السلام على مسافة قريبة من ناحية داقوق ويستقبل الزائرين من داخل المحافظة وخارجها على مدار السنة بحسب قول محدثنا.
القشلة وسوق القيصرية
الملا حسن أرشدنا الى منطقتين قال انه من الضروري زيارتهما وهي قشلة كركوك وسوق القيصرية، مبينا لنا ان قشلة كركوك لا تقل اهمية عن القشلة الموجودة في بغداد لكونها بنيت عام 1863 وسط المدينة في عهد الوالي العثماني عبد العزيز خان، على ارض مساحتها (15000) مترا، وبنيت على اسوارها ابراج مرتفعة بابعاد متساوية، مبينا ان البناية مؤلفة من (73)غرفة، وتمت اضافة غرفتين لها في الطابق العلوي، وتوجد غرف اخرى متداخلة فيما بينها بحيث يصل عددها الى (80)غرفة، فضلا - والحديث لحسن - عن وجود تسع قاعات كبيرة وسبعة مواقع اخرى وتوجد محلات كانت مخفية تحتها، مبينا ان للقشلة ثلاثة ابواب، الباب الرئيس هو المطل على الشارع العام، اما الاخران فيقعان في غرب البناية، تركنا الملا واتجهنا صوب اشهر اسواق كركوك واقدمها وهو سوق القيصرية الذي يعود تاريخه الى ماقبل ثلاثة قرون، ويقع السوق على مقربة من القلعة، وتتميز القيصرية بطابع عمراني لا يختلف تصميمها عن الاسواق المسقفة بالاقواس والحجارة التي تعطيه اصالة وجمالا، وتتوزع على جانبيه كما يقول بائع الملابس احمد البياتي (360) محلا وهي اشارة لعدد ايام السنة تعلوها(12) شقة تشير الى عدد الشهور تستخدم كمخازن او كسكن للتجار الزائرين للمدينة، وهناك 24 ممرا داخل السوق تدل على عدد الساعات باليوم، اضافة والكلام للبياتي ان هناك سبعة مداخل في القيصرية هي ايضا كرمز لايام الاسبوع.
تركنا كركوك لطيبة ومحبة اهلها ونحن نبحث في ذاكرة الوطن عن عروس أخرى.
المصدر جريدة الصباح