نافذة في المنزل المغربي.......قصص قصيرة
للشاعر والقاص العراقي سعدي يوسف
حانة لامبيانس
كان ضحىً ربيعيٌّ غريبٌ ينتشر في شوارع المدينة، وفي السماء التي لا يُلمح فيها سوى قطع صغيرة من غيوم بيض عالية جداً... أما جبل "تسالة" الغائم عادة، فيبدو شديد الوضوح، حتى ليتخيل المرء ـ دون جهد ـ ممراته الضيقة، المحفوفة بأشجار الصنوبر والعفص... حتى الأشجار الجرداء المتشققة اللحاء في الشارع الذي يصل بين وسط المدينة وثكنات الدرك الوطني، تبدو كأنها سوف تنفتق فجأة عن براعم خضر ذات زغب أبيض.
كان يوم أربعاء.
ازحت ستائر الحبال المنظومة خرَزا من البلاستيك الملون، ودخلت "لامبيانس"، مخلفاً ورائي، للحظةٍ قصيرةٍ، الصوتَ اللدن لارتطام الخرز ببعضها، وجلست في ركن من الحانة، ثم طلبت رُبع زجاجة من النبيذ الوردي. وأخرجتُ كتاباً.
يوسف كان وحده.
حين جلس معي، بعد أن وضع الزجاجة والكأس، ابتسم (وجهٌ نحيلٌ مثلثٌ حليق)، وفتح الزجاجة (أصابعه طويلة معروقة)، وأدناها مني (كمّاه نظيفان ومتآكلان)، نظرت إليه (عيناه صغيرتان لامعتان)، وصببتُ له كأساً صغيرةً (قميصه قطني ذو مربعات).
قال لي: لا أشرب. شكراً.
ـ بيرة... شيئاً آخر.
ـ لا أشرب أبداً... لا أشرب أي كحول.
كان النبيذ البارد ذا مذاق أقرب إلى الحلاوة. أحسستُ بعد أن اتممت شرب الكأس الأولى أنني بحاجة حقيقية إلى كأس ثانية.
قال يوسف: ماذا تقرأ؟
قلت: أحاول قراءة كتاب باللغة الفرنسية.
ـ ونحن نريد أن نتعلم العربية.
صببت لي كأساً ثانية. كان يوسف يراقبني مبتسماً.
قال: إنك لا تخفي شيئاً.
ـ لأني أعرف أشياء كثيرة.
ـ هل تعرفني؟
ـ نعم.
ـ من حدثك عني؟
ـ كثيرون.
ـ سمعت أنك تكتب...
ـ قليلاً.
ـ ستزورني إذن؟
* * *
أطلقت عجوز إسبانية جالسة على مقعد في الساحة المواجهة لقصر العدل صرخةً حادة، واختطفتْ سلتها الخيزران الفارغة، مندفعة نحو شبكة الأزقة التي تصل بين الساحة والبوليفار المحاذي لعمارة دي لاتر دي تاسيني البعيدة، وهي تتمتم في شبه تشنج: القنابل! القنابل!
بينما مزقت انفجارات أخرى زجاجَ السيارات الواقفة في الشارع المحاذي لمقهى الكاميرون. وانطلق من أعلى المسرح البلدي صوتُ صفارة الإنذار.
في حين اندفعت سيارتان للإسعاف وهما تطلقان أبواقهما الموحشة. ومن ناحية الثكنات قرب الحديقة العامة، جاءت ناقلتا جنود وسيارةُ إسعاف. كان يوم أحد.
وفي مقهى الكاميرون المزدحم ينتظر الأوربيون نتائج اليانصيب الكبير بين كؤوس الريكار والرقصات السريعة التي تتخلل هذه الكؤوس. وفي الجهة المقابلة، في وسط المدينة تماماً، يرتفع على جدار عال شعار منظمة الجيش السري الفرنسية، بحروف ضخمة: ORGANISATION AVENIR STABILITE في واحدة من هذه اللحظات، انفجرت السلة الموضوعة أسفل الكونتوار، في مقهى الكاميرون. وتطايرت عشرات القناني والألواح ومصابيح الثريات شظايا مسنونةً ملأت المقهى بركام من الأجساد والملابس الممزقة والمحترقة، بينما ظل الحاكي وحده يكرر مقطعاً أخيراً من موسيقى راقصة.
في البارات والساحة المجاورة انبطح الناس أرضاً.
وفي الساحة المواجهة لقصر العدل حيث تقف الدراجاتُ الهوائية في صف مستقيم، مثل أسلاك شائكة ذات عمق، اندفعت دراجةٌ متجهة إلى الساحة المؤدية إلى طريق سفيزف وبوحنيفية.وكان فوقها فتى جزائريٌّ نحيل.
ـ إنه هو... إنه هو...
سيارة الإطفاء تقتحم الجمعَ الذاهل، المحتشد الآن حول مقهى الكاميرون الذي يلفه الدخان، وينزل رجال مسرعون من سيارتي الإسعاف فاتحين البابين الخلفيين، ويهبط جنودُ الفرقة الأجنبية قافزين من الناقلتين مدججين بالسلاح، ويسيطرون في خطة مرسومة على المنطقة الممتدة بين وسط المدينة ومرقص الأميركان.
ـ إنه هو... إنه هو...
عشرات الأيدي تشير باتجاه الساحة المؤدية إلى طريق سفيزف وبوحنيفة، حيث اندفعت الدراجة الهوائية قبل قليل.
إحدى سيارتي الإسعاف تبتعد عن "الكاميرون" وهي تطلق أنينها المتقطع المفضوح، وجنود الفرقة الأجنبية يدققون هويات الناس. في حين تسرع سيدة فرنسية وراء كلبها الذي يقطع الشارع نحو السوق المركزي، وهو يتلفّت.
* * *
بين السوق المركزي ودار البلدية تقع حانة "لامبيانس"، وبالضبط في الفرع الثاني قبل دار البلدية بالنسبة للقادم من السوق. تفتح الحانة منذ الصباح الباكر لتقدم القهوة والحليب وخبز الأهلة، أو كؤوساً صغيرة من النبيذ الأحمر لزائري الصباح المعتادين. وبين الثامنة والثانية عشرة تقفر الحانة إلا من متشرد أو اثنين، أو جندي سابق في جيش التحرير، أو فلاج جاء المدينة من المزارع القريبة. أما الغجري الذي يطوف المدينة بائعاً اللوزَ المملح فيتخذها محطة استراحة ثابتة يشرب فيها كل ظهيرة، زجاجة بيرة متوسطة. وبين الثانية عشرة ظهراً والثانية تزدحم الحانة بالمتعجلين ممن يشربون على دفعة واحدة كأساً أو كأسين من النبيذ أو الريكار أو عرق الكريستال، أو زجاجة البيرة الصغيرة التي تملأ كأساً واحدة بالتمام. في هذا الوقت القصير المخصص للغداء والاستراحة قبل الشوط الثاني للعمل.
وفي المساء، ابتداء من السادسة، يقدَّم السردين المشوي مع النبيذ والريكار والكريستال والبيرة. سردينتان لكل كأس، وتشتعل الأضواء في واجهة الحانة وداخلها، وتتعالى الأغنيات المسجلة... ويمتلئ الجو برائحة الدخان والصوف، فالفلاحون وجنودُ جيش التحرير السابقون ذوو البرانس الخشنة وغطاءات الرأس الضيقة هم الزبائن الأكثر ثباتاً وإن كانوا الأقل إنفاقاً... كما تضفي رائحة السردين المشوي وشبكةُ الصيد التي تتدلى منها أغلفة الأسطوانات الفارغة فوق صف القناني الطويل جواً من الرطوبة البحرية الكثيفة، في مدينة تبعد 80 كيلومتراً عن البحر.
إن رواد الحانة يبدون غرباء على الأثاث والديكور الخشبي الثقيل هنا: المقاعد الطويلة الثابتة، والموائد العريضة المستقرة والجدران المكسوة بخشب من لون المقاعد والموائد، والثريات الخشبية الضخمة التي تتدلى منها المصابيح.. الكونتوار وحده ـ حيث يزدحم الرواد ـ هو الجزء الأكثر ملاءمة لهم في "لامبيانس"، إذ يمتد من مدخل الحانة مباشرة حتى الباب الداخلي المؤدي إلى باحة صغيرة ملحقة، محتلاً ثلث مساحة الحانة تقريباً، مما يضمن للرواد حرية الحركة، وللحانة قدراً من الاستيعاب يعوض عن ثلثي المساحة اللذين تحتلهما الموائدُ المستقرة الثلاث والمقاعد الطويلة المحدودة التي تجاورها بشكل متواز.
وراء الكونتوار يقف يوسف دائماً يبتسم، ويتحدث قليلاً، ويدير الآلة الحاسبة، وأمام يوسف يقف كل مساء الفلاحون وجنود جيش التحرير السابقون. يقفون كل ليلة بالعشرات، ويختفون بالعشرات في الشوارع المعتمة والطرق الريفية، صاخبين أو صامتين، متحصنين ببرانسهم وجلود وجوههم الخشنة،ملقين على يوسف تحيةً أخيرة، ونظرة اعتذار متبادل، متفاهم عليها مسبقاً، وحين يختفي آخرهم متعثراً في الضوء المتضائل خارج الحانة يتنهد يوسف، ويصب لنفسه قدحاً صغيراً آخر من الماء المعدني، ثم يبدأ بتوزيع الدخل، بينما يتابع رجلان تنظيف الكونتوار والأرضية الملاصقة له من البقايا الدقيقة للسردين المشوي وأعقاب السجائر والثقاب.
في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل يطفيء يوسف أضواء (لامبيانس)، ويختفي هو أيضاً في منعطف الفرع، بين صيدلية علال ووكالة شركة فيليبس، متجهاً إلى منزله، صامت الخطى، نحيلاً، مثل قط حذر.
* * *
بعد أقل من ثلاثة كيلو مترات من الساحة المؤدية إلى طريق سفيزف وبوحنيفية، يختفي آخر عمارات المدينة، ويظهر الريف فجأة، واسعاً، مترامياً، لا نهائياً.
إن منطقة التلال المتموجة تبدأ هنا بمرتفع بسيط لا يكاد المرء يحسه، ولكنه يفصل في الواقع، المدينة عن الريف.
قدكان يوسف ترك دراجته الهوائية خلف مرآب مهمل لتصليح الآلات الزراعية، وحاد عن الطريق المعبد إلى حيث حقول القمح المسنبل العالي المتأرجح بوقار تحت ريح خفيفة.
كانت ساقاه تؤلمانه.
وفي الدورات الأخيرة لعجلتي الدراجة أحس أن ساقيه منفصلتان تماماً عن إرادته، وكان عرقٌ بارد لزج يتجمع بين قدميه وباطن حذائه حتى ظن أن حذاءه سينزلق ويسقط، كانت ساقاه قطعتي لحم مستطيلتين تتدليان إلى جانبي الدراجة دون نبض أو استجابة.
لو تأخر الانفجار خمس دقائق فقط، لما أمكن لتلك العجوز الإسبانية أن تشير إلى دراجته المبتعدة:
ـ إنه هو... إنه...
بل لما احتاج إلى الدراجة نفسها، كان بإمكانه ـ لو تم الأمر كما أراد ـ أن يبلغ في تلك الدقائق الخمس الحيَّ العربي، وأن يدخل أول دار أو آخر دار، يبقى فيها ما يشاء حتى تدبر أمره الجبهة. هذه الدراجة الملقاة هي السبب في المشكلة كلها، كان يستطيع أن يحمل السلة بيده، ويضعها في المكان المقرر من مقهى الكاميرون قبل خمس دقائق من الانفجار أو حتى أقل، لكن العجلة الخلفية كانت تحتاج إلى نفخ، العجلة الخلفية في الحقيقة هي السبب.
بلغ يوسف حدودَ الأرض اللامنتهية المتماوجة بالسنابل ذات الإبر السود الهشة. كانت موجةٌ دخانية السواد تتحرك على أرضية صفراء من السيقان الملتحمة العالية... ومن وراء المرتفع اليسير الفاصل بين سهل المدينة والأراضي المتموجة التي تحتضن يوسف الآن، سمعَ هدير السيارات العسكرية. ألقى يوسف بنفسه على الأرض التي تغطيها السنابل العالية، وسمع دقات قلبه عنيفةً متلاحقةً حتى لقد خشي أن يسمعها أحد، ولأول مرة شعر بالعطش يخز حلقَه المتخشب. وزحف منبطحاً إلى أعماق السنابل.
مرقت ثلاث سيارات عسكرية.
واستدلَّ من طبيعة صوت هذه السيارات أنها ستسير مسافة أبعد. كانت الشمس حادة باهرة، وكانت الأرض التي وضع عليها وجهه حارةً ذات رائحة نفاذة تملأ أنفه، وتتسلل إلى رأسه مثل شاي الأعشاب الدافئ، أحس بهدوء غير مفاجئ، واستطاع ريقُه أن يبلل حلقه قليلاً.
وأبعدَ عن نفسه فكرةَ نومٍ بعيدة.
* * *
في المساء المبكر الممطر تتضوع حانة (لامبيانس) برائحة الخشب والقهوة، قبل أن تغمر رائحةُ السردين المشوي والصوف سحبَ الدخان المعلقة بين رؤوس الزبائن والسقف. هذه السحب التي تتجه ببطء، نحو مسرب الباب الموارب، بين الحانة والباحة الداخلية.
كان يوسف وحده.
اعتدلتُ على كرسي عال دون مسند، معتمداً بمرفق على الكونتوار وطلبتُ زجاجة بيرة صغيرة، ابتسم يوسف، وهو يفتح الزجاجة ويدنيها مني:
ـ لم يحن وقت السردين.
ـ شكراً.
فجأة، غادر يوسف مكانه وراء الكونتوار، مقترباً من الباب الخارجي:
ـ مرحباً... مرحباً... سي محمود.
جلس سي محمود إلى جانبي، على كرسي عال آخر، وأنزل بحركة بطيئةٍ قلنسوةَ بُرنسِه، كاشفاً كومةً من الشعر الجعد المضطرب، والتفت إلي:
ـ لا بأس.
ـ لا بأس.
صب يوسف كأس قهوة كبيرة، وقدمه إلى سي محمود:
ـ كيف حالك سي محمود؟
ـ لا بأس.
ـ والفلاحة؟
ـ...
ـ كنتَ في السجن تحن إليها. إنني أتذكر ذلك.
ـ لأنني كنتُ في السجن.
ـ والآن؟
ـ لقد تعلمتُ. علمني الذين لم يكونوا في السجن.
صب يوسف لنفسه قدحاً من الماء المعدني، وشرب نصفه مسرعاً، ثم اقترب برأسه من سي محمود:
ـ أتدخن؟
ـ لا. لقد تركت.
ـ لماذا؟
ـ اردت أن أُدخل أخي إلى الثانوية.
ـ أهو في الثانوية الآن؟
لم يُقبَل.
ـ لماذا؟
ـ دبرتُ ثمن الكتب، ولم أدبر ثمن الملابس، إنهم يريدون لأنفسهم كل شيء!
ـ مَن؟
ـ الاشتراكيون.
* * *
سياراتٌ عسكرية أخرى تندفع في الشارع الواسع الذي يشق حقولَ القمح المتموجة، وناقلةُ جنود تتوقف ويهبط منها عدد من أفراد الفرقة الأجنبية ثم ينتشرون في المنطقة بحذر.
كانت المسافة الجديدة التي قطعها يوسف زحفاً داخل حقول القمح قد أبعدته كثيراً عن الشارع، إلا أنها منعته في الوقت نفسه من رؤية الشارع بوضوح. رفع رأسه لحظة. ونظر. كان عدد من جنود الفرقة الأجنبية يسيرون في درب ريفي ضيق صاعد، يؤدي إلى غابة بعيدة، بينما سار عدد آخر منهم في طريق يخترق حقول القمح ويؤدي إلى بناية مزرعة يحدها مربعٌ واسعٌ من أشجار الصفصاف. جماعة أخرى تتجه إلى المرآب المهجور حيث ترك دراجته الهوائية.
لو كان يملك سلاحاً لاختلفَ الأمر.
لقد رفضت الجبهة إعطاءه سلاحاً وكررتْ رفضها: إنك في الخامسة عشرة يا يوسف. لكن هؤلاء الجنود الذي يبحثون عنه متأكدون من أنه يحمل سلاحاً.
قبل أسبوع فقط، حين نسف الجسر بين "سيدي الحسن" و"الأمطار" دارت معركة استمرتْ ثلاث ساعات كاملة.
وربما كان بين هؤلاء الجنود من اشترك في تلك المعركة.
العطش يهجم من جديد على حلق يوسف. حاول أن يحد شيئاً يبل الريق، فأحس بتمزق في حلقه.
ونظر بين الثغرات الضئيلة التي تفصل سيقانَ القمح عن بعضها. لم يكن هناك من شيء أخضر، فلقد خشبت الشمسُ كلَّ شيء. واستطاع أخيراً أن ينتزع نبتة دقيقة تكاد تغور في الأرض مختلطة بجذور القمح. وأخذ يعلكها مطبقاً عليها فمه. كان طعمها لاذعاً تشوبه المرارة ولكن فيها بقية من ماء مختزن.
رفع رأسه مرة أخرى.
جماعة من الجنود تدخل حقل القمح.
عاود يوسف الزحف مبتعداً عن موضعه.
تتوقف الجماعة.
السيارات العسكرية تندفع في الشارع الواسع عائدة إلى المدينة، وناقلة الجنود تمتلئ، وتعود هي الأخرى إلى المدينة.
وحينما رفع يوسف رأسه بحذر اقل، رأى الشارع نظيفاً، لامعاً في البعيد، ورأى أشجار التوت المنتظمة على جانبيه، وارتجف قليلاً وهو يتذكر ظلالها الباردة ومطرها الأحمر والأسود والأبيض في أوائل الصيف.
كل شيء صامت حول يوسف.
حتى الشارع، البعيد الآن. لم تمر به سيارة.
وسيقان القمح التي اعتاد حركتها الخفية، ثابتة أمام عينيه الآن.
والسماء زرقاء بشكل عجيب.
ويرهف سمعه.
كان الهدير الخفي قادماً من الأعالي خفياً وواثقاً.
إنها الهليكوبتر!
* * *
جاءت المرأة ضحى.
أزاحت ستائرَ الخرز بعنف غير مقصود، ووقفت بين الكنتوار وأحد الموائد الفارغة، كانت ترتدي العباءة البيضاء، وتبدي إحدى عينيها فقط.
وضعتْ يدها على المائدة الفارغة وسألتني.
ـ أأنت من الكانتينة؟
ـ لا.
ـ أين مولاها؟
ـ سيأتي بعد ساعة.
ـ قل له جاءت فاطمة زوجة سي البكّاي.
بالسلامة.
ـ بالسلامة.
وسمعتُ مرة أخرى الصوت اللدن لارتطام الخرز ببعضها، واختفت العباءة البيضاء بسرعة لم أتوقعها، وفي داخلها المرأة التي جاءت تسأل عن يوسف...
فاطمة زوجة سي البكّاي.
حين عاد يوسف من دار البلدية بعد أن دفع يدل إيجار "لامبيانس"جلس إلى جانبي على المقعد الطويل صامتاً.
قلت له: جاءت امرأة قبل قليل تسأل عنك.
ـ ماذا أرادت؟
ـ لم تخبرني. قالت فقط، إن اسمها فاطمة، وإنها زوجة سي البكّاي.
انتفض يوسف، وقام من مجلسه، واستدار ناحية الباب الخارجي، ثم خطا خطواتٍ نحوه، وعاد إليّ:
ـ يجب أن أذهب الآن، إبقَ هنا إلى أن آتي. لن أتأخر كثيراً . إنك لا تعرف سي البكّاي أو لعلك سمعت به أيضاً؟
ـ لم أسمع به.
ـ لقد قبضوا عليه بعد انفجار "الكاميرون"، ونقلوه إلى قصر الموت في المزرعة الواقعة على الطريق بين "غامبيط" و"دينزي"، وفي المساء بعد أن ألقي علي القبض رأيته. وكان مشلولاً. سي البكاي ما يزال مشلولاً.
لو لم تأت طائرة الهليكوبتر، لو لم تقبض عليّ طائرة الهليكوبتر، لمات سي البكاي، ولدُفن أيضاً في الحفرة الملاصقة للقبو بقصر الموت. لو كنتُ ادري بأن القبض سيلقى علي سريعاً لأخبرتُ سي البكّاي بعدم كتمان اسمي... ولكن لا فائدة. لن يخبرهم باسمي.
هل تعرف كيف يعيش الآن؟
البلدية تتصدق عليه كل شهر. زوجته تذهب إلى دار البلدية كل شهر مع العميان والمساكين، وتقف في الصف الطويل.
ابق هنا. لن أتأخر كثيراً. إنك لا تعرف سي البكّاي.
قبل الثانية عشرة بقليل، دخل الرجلان اللذان يعملان مع يوسف. وحينما لم يجداه، استدار أحدهما ووقف وراء الكونتوار، أما الثاني فقد دخل الباحة، ولم يخرج منها.
سألني الواقف وراء الكونتوار: أين ذهب يوسف؟
قلت: إلى سي البكّاي. ربما ذهب إلى منزله، فقدجاءت زوجة سي البكّاي تسأل عن يوسف.
قال: ولكن سي البكّاي توفي:
ـ متى؟
ـ قبل نصف ساعة. أخبرني بهذا سائق الطبيب.
ـ أين توفي؟
ـ في المستشفى.
ـ كان يوسف يحبه.
تلعثم الواقف وراء الكونتوار قليلاً، ومسح بحركة سريعة إحدى عينيه. وقال: طبعاً. فقد كانا معاً في قصر الموت، ثم نُقلا معاً إلى معتقل "بودان" واستقرا أخيراً في السجن المدني الملاصق لقصر العدل. ومن السجن المدني دخلا قصر العدل، وحوكما معاً. عن قضية مقهى "الكاميرون"، وقد جيء بسي البكّاي المشلول إلى قاعة المحكمة محمولاً على كرسي. وأنت تعلم بالأحكام : السجن لسي البكاي والإعدام ليوسف.
يوسف، كما تعلم، كان صغير السن، يزيد على الخامسة عشرة قليلاً ولا يمكن تنفيذ حكم الإعدام إلا بمن بلغ الثامنة عشرة. وهكذا كان على يوسف أن يقضي في السجن ثلاث سنوات تقريباً حتى يمكن وضع رقبته تحت حد المقصلة. لكن رقبة يوسف لم توضع تحت المقصلة. فقد خرج هو وسي البكّاي من السجن المدني، سوية، بعد اتفاقيات ايفيان.
كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة حين دخل صبيٌّ شاحبٌ الحانة. وقال للواقف وراء الكونتوار.
ـ يوسف يقول إنه لن يجيء. يقول أيضاً يجب أن تغلق الحانة اليوم... وأخبرني أنه يريد المفاتيح.
ـ أين يوسف الآن؟
ـ في دار سي البكّاي.
أشاح الرجل بوجهه عن الصبي. وشعرتُ أنه يكتم وراء هدبيه الطويلين رغبة حقيقية بالبكاء.
رباعية العمال الثلاثة
العمال المغاربة الثلاثة الذين رأيتُهم مقيمين في الفندق، منذ مجيئي قبل ثلاثة أيام، ما يزالون يرتدون معاطفهم الثقيلة، حتى في هذه الظهيرة المشمسة من شتاء "ملقا". كانت وجوههم تشبه جلداً سيء الدبغ، وكانوا يتحدثون همساً، متقاربي الرؤوس.
في شرفة الفندق
الأول شعره أصفر بلون التبن الرطب، الثاني شعره أسود جعد، أما الثالث فشعره خليط من الملح والفلفل الأسود.
قال الثالث: سوف يجيء حتماً.
قال ذو الشعر الأصفر: من يدري؟
قال الثاني: هذا الفندق الغالي أكلَ دراهمنا خلال أسبوع فقط، لولاه لاخترنا فندقاً آخر.
في الطاولة التي تلي طاولة المغاربة، يجلس الضابط البحري، المتقاعد منذ بدء الحرب الأهلية، مع سكرتيرته الأرجنتينية، فهو الآن مدير لإحدى شركات التعهدات البحرية في الأرجنتين.
سكرتيرته الشابة التي تنتظر لحظة نوم الظهر عنده، بقلق ظاهر، ترتدي بلوزاً أصفر خفيفاً يشي بصيف متخيل على رمال الكوستادل سول. البارحة قال لي الضابط البحري المتقاعد إنه زار البصرة وتل أبيب، بعد الحرب الأولى، وإنه كان قائد غواصة في القوة البحرية الإسبانية عندما بدأت الحرب الأهلية.
قال الثاني: بعد يوم واحد يجب أن نترك الفندق.
قال ذو الشعر الأصفر: بعد غد؟ لكن... أين نذهب؟
قال الثالث: سوف يجيء حتماً.
اقترب مني الساقي، الذي هبط إلى المدينة من قريته في المرتفعات وراء القلعة العربية، سألني إن كنت شربت نبيذاً في الغداء، قلت: نعم، قال إنه نسي أن يسجل ما شربته، ـ النبيذ في هذا الفندق الذي يقدم مناماً ووجبات ثلاثاً مقابل دينار واحد، ليس بالمجان. سألني إن كنت ذهبت إلى "موتريل" حيث جرت عصر الأحد مصارعة للثيران اشترك فيها "القرطبي" El Cordobes قلت له إنني حضرتها، ولم يعجبني من القرطبي سوى وجهه... ضحك. ومضى إلى طاولة الضابط المتقاعد.
قال ذو الشعر الأصفر: مصيبة... مصيبة...
قال الثاني: ندبر رؤوسنا.
قال الثالث: سوف يجيء حتماً.
امرأتان سمينتان، ترتديان الملابس السود، دخلتا الشرفة، وجلستا لصق الحاجز الحديدي المصنوع على شكل أزهار لوتس من الحديد السود المطروق. طلبتا قهوة سوداء.
كانت الشمس التي تتألق بشكل غير اعتيادي، تمنح منظر النافورة، والميناء، والسفن، والقوارب، والأرصفة، والمياه المتسخة قرب الشاطئ، نظافة مرهفة، وكان شعر ذي الشعر الأصفر يلتمع رغماً عنه.
سفينة الركاب، القادمة من إفريقيا، تصل ميناء (ملقا) حوالي الساعة العاشرة صباحاً. ومن الساعة الثامنة حتى الساعة العاشرة تمتد فترة الفطور في الفندق.
يجتمع الحمام المقبل من جهة الميناء
أتم المغاربة الثلاثة تناول الفطور مسرعين، وكان الشاب ذو الشعر الأصفر أول من غادر قاعة الطعام، يتبعه ذو الشعر الأسود، فذو شعر الملح والفلفل. وبعد دقائق رأيتهم من قاعة الطعام المتصلة بالشرفة، يقطعون الشارع العريض الذي يفصل الفندق عن منطقة الميناء. متجهين إلى المرسى، وهم يمشون واحداً إثر الآخر في صف غير منتظم.
انتقلتُ من قاعة الطعام إلى الشرفة، المتألقة في نهار مشمس آخر، ذي سحائب بيض صغيرة، تحلق فوق السفن مثل طيارات ورقية واسعة غير منتظمة الأشكال. بعد قليل جاء الضابط البحري المتقاعد، وسكرتيرته، جلسنا معاً، نشرب القهوة، وندخن، وحينما أكملت السكرتيرة تدخينها، تبادلت مع الضابط نظرة غير سريعة تؤكد ـ في الغالب ـ اتفاقا مسبقاً، وغادرتنا، طائرةً، هفهافةً، كأنها تشم لأول مرة هواء نقياً. استرخى الضابط المتقاعد، وهو يراقب الميناء من خلل دخان سجارته. وقال لي دون أن ينظر إلي: لقد ولدتُ في (ملقا).
بدأت الشرفة تمتلئ بالقادمين الجدد: كانوا جزائريين في طريقهم إلى مناجم الفحم والحديد وأعمال البناء في الشمال ومغاربة أشداء من بربر الريف، وإسبانيين يقضون إجازاتهم في الوطن، قادمين من المناطق الإسبانية في شمال المغرب، وعدداً من السويديين والسويديات الذين كانوا في اقصى نقطة بلغتها سياحتهم: مدينة مراكش على حدود الصحراء.
كان ضجيج القادمين الجدد، يهدأ، شيئاً فشيئاً، مع القهوة والبيرة والشاي الخفيف، وكان الضابط المتقاعد يستسلم، لإغراء إغفاءة عذبة تحت شمس (ملقا) الشتائية.
في زجاج الباب المفتوح بين قاعة الطعام والشرفة المكتظة الآن، رأيت المغاربة الثلاثة. كانوا واقفين، لا يتحدثون، وهم يبحثون بعيونهم التي كانت تتحرك وحدها، عن مكان للجلوس. أخيراً، وجدوا لهم موضعاً، كرسيين فقط. جلس ذو شعر الملح والفلفل، جلس ذو الشعر الأسود، أما ذو الشعر الأصفر فقد ظل واقفاً.
قال ذو الشعر الأصفر: لم يأت، اليوم أيضاً.
قال ذو الشعر الأسود: مصيبة. مصيبة.
قال ذو شعر الملح والفلفل: سوف يجيء حتماً.
فرغ كرسي قربنا، فاتجه إليه ذو الشعر الأصفر ليأخذه، لكن أحد السويديين سبقه، فأخذ الكرسي.
عاد ذو الشعر الأصفر إلى صاحبيه وهو يزم شفتيه على شتيمة حادة.
مر الساقي بالمغاربة الثلاثة مرتين، وفي كل مرة كان الجالسان يقربان رأسيهما من بعضهما.
من آخر الشرفة نهض اثنان عن كرسيهما، مخلفين على الطاولة، علبةَ دخان كولواز، وأربع زجاجات بيرة، وخارطة ممزقة قد تكون للطرق الإسبانية، كانا ذوي ملابس متماثلة، وشعر طويل، كانا شاباً وشابة.
ويطير ثانية
طفل يبدأ يبكي، في جانب الشرفة الملاصق لقاعة الطعام، هدأته أمه قليلاً، ريثما تتم قهوتها، ثم اصطحبته مغادرة الشرفة.
الضابط المتقاعد أخذ يتنفس الآن ـ في إغفاءته تنفساً هادئاً. انبسطت ملامحُ وجهه، وبدأ أصغر من سنه قليلاً.
طاولةٌ صاخبةٌ فرغت، بسرعة غير منتظرة، قرب المغاربة، تناول ذو الشعر الأصفر كرسياً، وجلس إلى صاحبيه.
كانت الشرفة تخلو من أصحابها لينفرد بها المغاربة الثلاثة والضابط النائم وأنا.
قال ذو الشعر الأصفر: لقد وعدنا أن يأتي، وكان وعده أكيداً.
قال ذو الشعر الأسود: ربما لم تقبل زوجته.
قال ذو شعر الملح والفلفل: النساء لا يتخلين عن الذهب بسهولة.
سرب من الحمام الرصاصي يندفع من جهة الميناء، ويحلق، خاطفاً، فوق النافورة التي يرتفع رشاشها اللامع في آلاف من الجزيئات الملونة الهشة، ثم يحط ـ وكأنه ألقي فجأة من سلة واحدة ـ على السطح الهابط أسفل الشرقة، وعيون الحمام القلقة تبحث عن لا شيء في غربة مجتمعة أليفة المنظر.
قال ذو الشعر الأسود: ذهبُ زوجتِه، هو ذهبُ عرسِها، من الصعب أن تتخلى المرأة عن ذهب عرسها.
قال ذو الشعر الأصفر: ولكنها قبلتْ ببيع ذهبها.
قال ذو الشعر الأسود: ربما غيرتْ رأيها.
قال ذو الشعر الأصفر: لِـمَ لم تغير رأيها عندما كنا هناك؟
قال ذو الشعر الأسود: لأننا كنا هناك.
فتح الضابط البحري المتقاعد عينيه، ثم أغمضهما، متقياً النورَ الذي يغمر الشرفة والطاولة، ويضيء من قاعة الطعام جزءها القريب، ثم فتحهما ثانية، واعتدل في جلسته،تناول سيجارة، أشعلها بهدوء متلذذ، وشرع يدخن.
قال ذو شعر الملح والفلفل: حلمتُ البارحة به، كان يسير على الماء، وبيده غصنٌ من الرند. كانت السفن والزوارق تتنحى عن مسراه، وعندما بلغ الرصيف اختفى.
ضحك ذو الشعر الأصفر، وهو ينقر بأصابعه الطاولةَ نقراتٍ خفيفة متصلة. سربُ الحمام، يندفع، مبتعداً عن الشرفة، بزاوية حادة، بينما ينهض الضابط المتقاعد من جلسته الحذرة، ويغادر الشرفة، وهو يودعني بإيماءة من رأسه.
هبطتُ من غرفتي، في الضحى المعتم، مثقلَ الرأس ببقايا النبيذ الحلو "الموسكاتيل"، الذي أفرطتُ فيه، عندما قضيت سهرتي في المقهى الغجري، الذي يقع غير بعيد عن الفندق.
لم يكن باستطاعتي استعادة ما فعلته البارحة، إلا أنني استطعت أن أتذكر شيئاً واحداً، هو أنني عدت إلى الفندق في سيارة للأجرة.
عبر واجهة البار نحو سماء مكفهرة
وأن السيارة ظلت تدور بي في شوارع "ملقا" مدةً سئمت منها. لم أذهب إلى قاعة الطعام لأتناول فطور الصباح. كان الضحى أكثر عتمة من أن أتحمل البقاء داخل الفندق. وهكذا كنت اجتاز الممرات والسلالم، لأبلغ المقهى، أسفل الفندق، حيث علي أن أمرّ أوّلاً ببار "هنا باريس"، المنطلقِ الأول في كل مساء مبكر. كنت أريد أن أشرب قهوة سوداء، وأدخن سيجارة سمينة من سجائر جزر الكناري، فقد كان هذا اليوم، أول يوم شتائي مذ بلغت "ملقا". وكان يوماً ممطراً أيضاً.
عندما سلمتُ مفتاح غرفتي إلى استعلامات الفندق، رأيت المغاربة الثلاثة يهبطون، مغادرين الفندق، مع حقائبهم الصغيرة، ومعاطفهم الثقيلة. وكان ذو الشعر الأصفر يبدو محني الظهر قليلاً.
بين الفندق، والمقهى، يقع بار "هنا باريس" الذي تدير، امرأةٌ وسَطٌ ـ يبدو أنها جاءت من شمال إسبانيا ـ تشرف على مجموعة فتيات، ويتألف بار "هنا باريس" من مكان أرضي، وقاعة علوية خافتة الأضواء، تجالس فيها فتياتُ البار زبائنهن، مساءً حول فنجان قهوة أو كأس بيرة واحد، قبل أن يحددن مواعيدهن.
كنت أريد أن أذهب إلى المقهى، لكن المطر، ووجود فتاة وراء الكونتوار، كنت أعجب بها، أرغماني على الدخول في "هنا باريس". ألقيتُ على الفتاة تحية الصباح، وطلبت قهوة سوداء. كان المطر في الشارع الضيق يهطل من كل مكان، بغزارة عجيبة، حتى لتكاد الميازيب تختنق في تدفقها الهادر.
الدرجات السبع الخشب التي تصل بين المكان الأرضي والقاعة العلوية، بدأت تهتزّ بصوتٍ مكتوم، وحين التفتُّ، رأيت المغاربة الثلاثة يهبطون.
دفعوا الحساب، وكان عن ثلاثة فناجين قهوة بالحليب، وأنفتح البابُ الزجاجي، أمام هجمة مائية خلطفة، ليخرج المغاربة الثلاثة من دفء "هنا باريس"، وفتاة الكونتوار، والقهوة الساخنة.
كانوا يقطعون الشارع متجهين إلى الميناء، وكانت معاطفهم الثقيلة تتشرب بالمياه الغزيرة، التي أخذت تقطر على حقائبهم القماشية.
النافورة تلتم على نفسها، وسط الساحة الواسعة، بلا أقواس قزح، ولا أسراب حمام، والسيارات المسرعة لامعة نظيفة بشكل استثنائي، والبحر يبدو من البعيد ملتصقاً بالسماء التي تقطر ماء.
السفنُ وحدَها، في الميناء المشوش المنظر، كانت في مناخها الحقيقي.
عين السيكلوب
الضوء مطفأ داخل الشقة.
حين سمعتُ الدقّ على الباب، قدرتُ أن الساعة هي الثانية بعد منتصف الليل. في البلاد الأخرى يحرصون على الاحتفاظ بالمفتاح داخل الثقب، خشية أن يلاحظ من هو خارج المنزل، النورَ، من خلال ثقب المفتاح... أو خشية إدخال مفتاح مقلد من خارج الباب.
تستطيع أن تبقي النور مطفأ، وأن تعرف القادم الذي يطرق الباب، أو يضغط على زر الجرس الكهربائي، بمجرد النظر في "عين السيكلوب"، العين السحرية المثبتة في خشبة الباب، عدسة صغيرة مكبرة.
عندما تضع عينك على العدسة يبدو القادم من آخر الممر الخارجي ـ وغالباً ما يكون هذا الممر مضاءً ـ قميئاً، قصيراً، وما أن يخطو خطوة حتى يبدأ بالتعملق. فإذا قارب الباب اتسع وجهه، واتسع، حتى ليكاد يغطي المسافة بين جداري الممر كلها.
إن "عين لسيكلوب"تقوم بدور سكرتير منزه عن الخطأ في استقبال الناس. الدق على الباب يزداد عنفاً.
غادرت فراشي، حافياً، لئلا يصدر مني أي صوت... لم أكن بحاجة إلى النظر من خلال "عين لسيكلوب" فقد كان صوت مدام داي يتعالى مصحوباً بدقاتها العنيفة:
ـ أيها العراقي... أين ابنتي؟
إن ابنة مدام داي ليست معي في الشقة، ولا يمكن أن تكون معي، أو مع أي إنسان آخر، في مثل هذه الساعة المتأخرة. صحيح أنني أتبادل الحديث مع ابنتها، وأن ابنتها شابة غير دميمة، لكني لم استقبلها في شقتي مساء. ومدام داي تعرف الأمر معرفة تامة، إذ لا يفصل بين شقتها وشقتي سوى قاطع من الخشب المعاكس القابل للانهيار في أية لحظة تحت ضربات المدام، كما تعرف أيضاً أنني غادرتُ إلى وهران عصر اليوم. فقد شاهدتني هي وابنتها أدخل الحافلة المهيأة للانطلاق، بينما كانتا تقومان بجولتهما المعتادة من سينما فرساي إلى نُصب الفرقة الأجنبية، مارّتينِ بمقهى الاتحاد والنادي العسكري وبار الكاميرون ومنطلق الحافلات.
ـ أيها العراقي... أين ابنتي؟
وجه مدام داي المحتقن ممتلئ بغضون متضخمة. العدسة اليمنى من نظارتها الطبية ملتصقة بالباب مثل صحن شفاف وثقيل. دقات عنيفة أخرى. والوجه المتضخم يزداد احتقاناً، والغضون تزداد تضخماً. آه يا بنيتي. يا كلبة... الوجه يبتعد... يظهر الشعر الأبيض والملابس السود. تتحول مدام داي إلى دمية صغيرة متحركة ذات شعر أبيض وملابس سود... تختفي الدمية الشمطاء الصغيرة... عند أول درجة من درجات السلم الهابط.
ـ ما هذا؟ ما هذا؟
إنه صوت مدموازيل كرانديوم. لابد من أن عشيقها غادرها الليلة مبكراً... لا... إن الصوت المتميز لسيارته "البانار"الرمادية يفضح زيارة المساء المتأخر، ويمزق الصمت الليلي في شارع المدينة الصغيرة الرئيس، ثم يخف، ويخفت... حتى يتلاشى في هرير منتظم.
من عين السيكلوب أرى الشعر الأصفر المضطرب، والوجه الأصفر الرقيق لمدموازيل كرانديوم، وأعلى الروب الأصفر. إنها في وسط الممر الخارجي، تماماً تحت المصباح الكهربائي كما أقدر... عادت إلى الاستوديو الذي تسكنه، وهي لا تخفي تأففها. لم أسمع باب الاستوديو ينطبق.
الخطوات المسرعة القلقة تضرب درجات السلم الهابط إلى الطابق الأول، كانت كل ضربة منها أشبه باصطفاق حاد لقطعتين من اللوح الرقيق. الخطوات تتوقف فجأة... دقات عنيفة عصبية على باب آخر:
ـ أيها العراقي... أين ابنتي؟
هي، إذن، أمام باب " طارق " العراقيّ الذي يسكن الأستوديو الأول في الطابق الأول.
إنه جاء البناية منذ أسبوع فقط. كان يعمل في قرية تبعد 19 كيلومتراً، ويقيم في محل عمله، وقد اشتغلت بنت مدام داي في القرية نفسها شهراً واحداً قبل أن تنقل إلى المدينة.
في الساعة العاشرة من مساء اليوم، وجدتُ باب استوديو طارق مفتوحاً .زرتُهُ ،وتحدثنا قليلاً.كان وجهه حليقاً بعناية، تفوح منه رائحة ماء الكولونيا. قال لي إنه آثر السكن هنا، على السكن في القرية، باعتبار أن المواصلات مضبوطة مريحة معتدلة التكاليف. سألته عن أنباء العراق، وعلاقته مع الفتيات. كان مستعجلاً في حديثه. مقتضب الإجابة، متلهفاً إلى شيء ما. أعطاني كيسين صغيرين يحتوي أحدهما على بهارات، وثانيهما على شاي أسود جاء به من العراق. قضيت معه حوالي نصف ساعة، ثم عدت إلى شقتي في الطابق الثاني.
ـ ما هذا يا مدام داي؟
الصوت يبلغني، رقيقاً، مليئاً، فيه شيء من الارتجاف اللذيذ. إنه صوت ماري تيريزا (ماريتا ) ابنةالحلاق الإسباني التي تعمل بائعة كتب في مكتبة مينو قرب المسرح البلدي. ماريتا في السابعة عشرة، فتاة مندفعة، قصيرة الشعر، عنيدة، ونشيطة.
في الاستوديو الذي يسكنه طارق الآن، كان يقيم بائع نظارات فرنسي من أصل إسباني. أرسل زوجته إلى فرنسا، وظل يقيم حفلات رقص صاخبة حتى الصباح. مصفياً محل النظارات. قطعة قطعة، حتى غادر هو الآخر إلى فرنسا، دون أن يدفع إيجار الاستوديو لمدة ثلاثة أشهر، وكانت ماريتا ترقص وتغني في هذا الاستوديو إلى ساعات الصباح الأولى... بعد سفره ظلت نائمة في فراشها أسبوعاً... كانت متعبة.
ـ مسكينة مدام داي...
إنها ماريتا أيضاً.
مدام داي مسكينة فعلاً. كان اسمها فاطمة، جاءت إلى هذه المدينة من ولاية "لأصنام" مع ابنة عم لها. كانتا تعملان ساقيتي خمر. ابنة عمها عاشرت تاجراً صغيراً وتركت العمل في الحانات. أما هي فقد تعلق بها نائب عريف فرنسي من الفرقة الأجنبية. رافقته في مراكش، وكازبلانكا، والسنغال، وتونس، والأغواط على حدود الصحراء الكبرى. ولم يتزوجا إلا بعد ثماني سنوات. وحين تقاعد من الجيش أعطي وظيفة مدنية جيدة. لم ينجبا. هذه البنت هي ابنة أخيها. جاءت بها من الأصنام وهي في الرابعة، ربتها، وأدخلتها المدرسة، وحين مات المسيو داي، عاشتا، معاً، على تقاعد متواضع، حتى أتمت البنت دراستها، وبدأت تعمل. مدام داي تصوم، وتفكر بالذهاب إلى مكة... إنها تريد أن يتوافر لها المال الكافي للحج، وهي تتمنى لبنيتها زواجاً سليماً. عندما خُيرت مدام داي بين الجنسية الفرنسية وجنسية وطنها، بعد الاستقلال، اختارت وطنها، بالرغم من أنها لا تتحدث إلا بالفرنسية ولا تختلط إلا مع بقايا الفرنسيين والإسبان هنا. وبالرغم من أن تخصيصاتها التقاعدية في فرنسا سوف تكون أكثر.
مرة أرتني صورة زوجها، كانت صورة قهوائية ثخينة لجندي شاب نحيل في خيمة. قالت إنه أرسل هذه الصورة من مراكش. وأرتني بعدها صورة ثانية لزوجها. كان موظفاً سميناً في مؤسسة تأمين. قالت إنه مات بالسكتة القلبية، وإنه ظل يردد اسم ابنتها طيلة احتضاره.
ـ لا أحد يجيب.
الصوت المنكسر لمدام داي مرة أخرى، وأسمع خطواتها أقل نشاطاً، وهي تصعد السلم إلى الطابق الثاني، إنها تبدو الآن من خلل عين السيكلوب، دمية ضئيلة لعجوز ملفعة بالسواد تتجه إلى باب شقتي، متضخمة في كل خطوة تخطوها.
ـ لقد هرب العراقي. لقد هرب بحقيبته...
صوت ماريتا يرن رنين أجراس فضة في ممرات البناية. الدمية الملفعة بالسواد تتوقف في منتصف الطريق إلى شقتي، تماماً، تحت المصباح، وتبدو مكشوفة بشكل مؤلم. لي... ولعيني مدموازيل كرانديوم، الواقفة، حتماً، الآن، خلف الباب الموارب.
الدمية السوداء تعود متضائلة باستمرار. إلى أول السلم.
ـ أيتها القحبة!
الدمية السوداء تمسك بشعر دمية أخرى. بشعر ابنة مدام داي، وتجرها من شعرها جراً إلى وسط الممر، نحو باب شقة مدام داي المفتوح . الدمية السوداء تتضخم، والدمية الأخرى تتضخم...
ابنة مدام داي، مهدلة الشعر، عارية، إلا من روب أبيض مزين بأزهار وردية.
ـ اسكتي وإلا انتحرتُ.
ـ أيتها القحبة!
أفلتت البنت من قبضة مدام داي المرتعشة، وأسرعتْ وهي تقفز، نحو المصعد.
ـ سوف ألقي بنفسي من سطح العمارة.
ـ أيتها القحبة!
الدمية السوداء الصغيرة تتجه نحو السلم الهابط.
ـ مدام داي... إلى أين تذهبين في هذا الليل؟
إنه صوت ماريتا.
في العمارة، كل شيء صامت. لكن كل شيء منتبه. أقل نأمة تفتح كل العيون، وراء كل الأبواب.
ربع ساعة من الصمت.
سيارة تتوقف، عند مدخل العمارة كما أقدر.
وقع أقدام كثيرة على السلالم. دمى عديدة تدخل الواحدة بعد الأخرى، المجال المنظور من الممر، وهي ترتدي ملابس الشرطة الزرق، وملابس مدنية أيضاً ـ تتضخم الدمى، ويظهر من بينها ضابط شرطة، قد يكون القوميسار نفسه، الذي قد يكون القوميسار يوجه عدداً من رجال الشرطة بإشارة من يده إلى المصعد. يتقدم، تتخذ ملامحه شيئاً فشيئاً وضعها الطبيعي. يتحدث مع مدام داي، ثم يدخل معها الشقة التي ظل بابها مفتوحاً منذ ساعات تقريباً.
الدمى التي ترتدي ملابس الشرطة الزرق والملابس المدنية أيضاً، تخرج من باب المصعد.
أحدهم، وهو الذي يرتدي معطفاً من التركال الخفيف الأسود، يمسك بيد ابنة مدام داي.
وجه الابنة، وهو يتضح في المجال المنظور لعين السيكلوب، يبدو محتقناً، مخموشا عدة خمشات. أما هي فمنقادة انقياداً مستسلماً إلى يد الرجل ذي معطف التركال الخفيف الأسود.
رجال الشرطة يغادرون، عن طريق السلم.
الذي قد يكون القوميسار يغادر عن طريق المصعد.
السيارة عند مدخل العمارة تتحرك مبتعدة، بينما يعود الصمت القلق إلى الممرات والغرف.
مدموازيل كرانديوم تحكم إغلاق الباب.
ماريتا في الطابق الأول تدندن أغنية عن الحب، وتطبق الباب أيضاً.
أنا أبتعد عن الباب، وعين السيكلوب، وأدخل الحجرة التي لا يفصلها عن شقة مدام داي سوى قاطع من الخشب المعاكس، ثم اجلس لصق هذا القاطع.
قال الرجل ذو المعطف: مدام. أرجو أن تتركينا وحدنا.
لم اسمع رد مدام داي.
قال الرجل ذو المعطف: هل نزلتِ أنتِ إليه؟
قالت البنت: نعم.
هل نالكِ؟
ـ لا.
ـ هل كنتِ على موعد معه؟
ـ نعم.
في هذه الليلة؟
ـ نعم.
في هذه الليلة، عادت البنت مع أمها، بعد جولتهما اليومية المعتادة. إن البنت لا تخرج إلى شوارع المدينة، ومخازنها، إلا رفقة أمها. الشباب يمرون بهما. يلقون نظرة على البنت، ونظرة أخرى على الأم، ثم تلتقط نظراتهم فتاة أخرى تتمشى وحيدة، أو فتيات أخريات يتمشين معاً متضاحكات.
إنهما تعودان إلى الشقة الضيقة مع الغروب دائماً. ومع الغروب تكون الشوارع الخليفة، وسيقان الأشجار الضخمة في شارع"المقطع"أعشاش حب متناثرة متقاربة.
السنوات تمر. والجولة اليومية تستمر، السنوات تمر. والشوارع الخلفية وسيقان الأشجار تستضيف عشاقاً جدداً يتزوجون أو لا يتزوجون.
السنوات تمر، والبنت تمر مع أمها كل يوم. إنها لم تتوقف مساء ما في ركن معتم من شارع خلفي، أو وراء ساق شجرة... في هذه الليلة سوف تتوقف طويلاً في استوديو العراقي.
قد يكونان اتفقا على الموعد في القرية، أو في الحافلة العائدة منها. إن البنت ما تزال تأخذ راتبها من مدرستها السابقة في القرية.
قال الرجل ذو المعطف: وأمكِ؟
قالت البنت: كانت نائمة.
شقتها الصغيرة، ذات غرفتين ودوش فقط، ودون مطبخ. البنت تنام في الغرفة القريبة من الباب. أما الأم فتنام في الغرفة الداخلية الملاصقة لشقتي.
كل ليلة تغلق الأم باب الشقة، وتحتفظ بالمفتاح تحت رأسها، وتضع طاولة الطبخ، وطباخ الغاز وراء الباب، قبل أن تدلف إلى غرفتها الداخلية، وتنام نوماً غير عميق.
إنهما تعيشان وحيدتين. أقرباؤهما في ولاية >الأصنام< البعيدة لا يزورونهما أبداً. والناس في هذه المدينة يعتبرونهما غريبتين: الأم كانت متزوجة من فرنسي في الفرقة الأجنبية، والبنت لا يعرفون بالضبط من تكون. فأبوها وأمها يعيشان في " الأصنام " البعيدة ومًَن يدري مَن يكونان أيضاً .
لم يدخل شقتهما رجل من المدينة منذ موت المسيو داي. والأمّ مقتنعة بأن دخول رجل أو فتى شقتها، أمر غير مقبول، ولا سليم، فهما امرأتان وحيدتان غريبتان عن هذه المدينة نوعاً ما، رغم السنوات الثلاثين التي قضتها الأم هنا.
البنت في فراشها القريب من الباب تنتظر أن تنام أمها. والفتى في الطابق الأول ينتظر الخطى الخفية.
قال الرجل ذو المعطف: كم حبة منوم تناولتْ؟
قالت البنت: حبتين.
ـ هل اعتادت تناول هذه الكمية؟
ـ لا.
ـ إذن... لماذا أخذتْ حبتين؟
....
حوالي الحادية عشرة، تنصرف الأمّ إلى غرفتها لتنام. وتظل البنت تستمع إلى إذاعة مونت كارلو، وقد تقوم في الوقت نفسه بإعداد أعمالها المدرسية.
ربما لم تنم الأم سريعاً. ربما شعرت بأنها ستكون الليلة فريسة أرق مرهق...
إنها تحتفظ دائماً بزجاجة صغيرة للحبوب المنومة. والبنت هي التي تأتي لها عادة، بالحبة، وكأس الماء.
ربما شكت الأم أرقها.
إن الفتى في الطابق الأول ينتظر الخطى الخفية.
حبتين بدل حبة واحدة...
سيكون النوم عميقاً، مريحاً... وسوف تكون الانفاس هادئة مستسلمة، داعية إلى الاطمئنان.
سوف تستطيع البنت، آنذاك، أن تستل المفتاح، من تحت رأس أمها، دون وجل، وأن تبعد طاولة الطبخ وطباخ الغاز من وراء الباب، غير آبهة بالصرير الذي قد لا يمكنها تجنبه، أثناء تحريكها الطاولة والطباخ... وسوف يكون باستطاعتها أن تدير المفتاح، وتفتح باب الشقة، بثقة شبه تامة.
قال الرجل ذو المعطف: هل كانت تشكو أرقاً شديداً؟
قالت البنت: نعم.
ـ هل اقترحت عليها تناول حبتين؟
ـ نعم.
ألم تعرف أن هذا قد يضر بها؟
ـ لا.
المسيو داي مات بالسكتة القلبية. كان موته سريعاً وفاجعاً بالنسبة لمدام داي وابنتها.
ومنذ موته دأبت مدام داي على استشارة الدكتور فيسيدو الذي يعمل في عيادة قريبة من الفرساي. كانت تذهب إليه كل ستة أشهر ليفحص قلبها.
وحين سألته عن الحبوب المنومة، اختار لها نوعاً من الحبوب مناسباً، مشدداً على ألا تتناول سوى حبة واحدة، وقت الحاجة الماسة.
في هذه الليلة، كانت تريد أن تنام فقط. أن تنام نوماً عميقاً. وعندما اقترحت عليها ابنتها تناول حبتين، لم تجد بأساً في مخالفة نصيحة الطبيب، ولو مرة واحدة، بل إنها لم تسأل ابنتها عن الضرر الذي تلحقه بها مخالفةنصيحة الطبيب، ولو على سبيل الاطمئنان.
غداً، ذكرى موت زوجها.
وهي تريد أن تذهب إلى المقرة، في الصباح الباكر، بعد أن تشتري الزهور من أول بائع تجده في السوق.
قال الرجل ذو المعطف: أتحبين أمك؟
قالت البنت: نعم.
إنها تحب أمها. تمسك بيدها، وهما تسيران في الشارع، تقترح عليها الملابس الجميلة المناسبة لامرأة في مثل سنها، وتصحبها إلى صالون الحلاقة، مشاركة إياها في اختيار التسريحة وصبغة الشعر؛ وعندما تسافران إلى مكان ما، تحمل هي حقيبة ملابس أمها، وتعنى بأن تجلسها في المكان المريح من القطار أو الحافلة.
إن أمها الحقيقية، في ولاية"الأصنام"البعيدة، وهي لا تحتفظ بذكريات طفولة عن أمها الحقيقية. إن ذكرياتها الأولى هي مع مدام داي التي كانت تمشط شعرها، وتشتري لها الدمى والملابس والحلوى، وترافقها إلى المدرسة الابتدائية، وهي التي صحبتها ـ بعد أن نالت الشهادة الثانوية ـ في كل معاملات التوظيف الطويلة المتعبة. وهي التي أرتها مدن فرنسا وسويسرا في سفرات امتد بعضها ثلاثة أشهر. وهي التي تعنى بها الآن. وتعرفها على حقائق الحياة.
إنها تحب أمها.
قال الرجل ذو المعطف: والعراقي؟ تحبينه؟
قالت البنت: نعم.
قد تكون فتوته، وغرابة جمال وجهه، هما ما أثارا اهتمامها به، عندما دخلت تلك المدرسة الريفية.
إنه يتلعثم في حديثه قليلاً، ويبدو مهزوزاً نوعاً ما تجاه العلائق الاجتماعية.
أهو خشن؟ لا.
أهومهذب؟ لا.
عيناه جميلتان دون شك، ولهجته العربية غريبة.
ضحكت في سرها من نطقه المغلوط لبعض الكلمات الفرنسية التي يدخلها في حديثه تشبهاً بزملائه من بني وطنها.
سألها عن مسكنها.
وكل يوم كان يتحدث إليها قليلاً، أو ينظر إليها طويلا حين لا يلحظه أحد سواه.
مرة قال لها إنه سوف يسكن المدينة. قريباً منها.
اقترحت عليه أن يسكن ذلك الاستوديو بالطابق الأول، فلقد فرغ منذ أيام.
قال الرجل ذو المعطف: هل وعدك بالزواج؟
قالت البنت: لا.
بغداد 27/11/1972
صباح السبت... مساء الأحد
من مركز مدينة"مَغْنيّة" بالغرب الجزائري، تستطيع أن تسلك ثلاثة طرق واسعة: أما الطريق إلى وهران فيتجه بك شمالاً، والطريق إلى تلمسان يتجه بك جنوباً، أما طريق الغرب فيوصلك بعد أقل من عشرين كليومتراً إلى الحدود الجزائرية ـ المغربية، ومن ثم إلى مدينة وجدة المغربية، حيث تنفتح أمامك، دفعة واحدة، كل الطرق إلى كل القارات.
مركز مدينة مغنية متواضع: مفترق نظيف، وإشارات مرور واضحة جداً، ومقهى حديث افتتح مؤخراً في احتفال أذيع خبره من الإذاعة الوطنية، وفندق "مرحبا" الوحيدومجموعة مطاعم متوسطة وصغيرة، ومحطة الوقود، وموقف سيارات الأجرة.
من مركز المدينة، تتفرع دون تمهيدات، الزقة المزدحمة، ومحلات تصليح السيارات، والأسواق الشعبية حيث تتجول الخراف المعروضة للبيع، وحيث يأتي فلاحون عليهم سمات المغاربة ببضاعتهم ونسائهم شبه المحجبات.
هناأيضاً، باعة المقانق والأكباد المشوية، والبطاطس المهروسة والمقلية بشكل أقراص صغيرة لها لون الزعفران.
* * *
اثنان وجدا نفسيهما، مباشرة، بعد أن دفعا الباب الثقيلة، أمام موظف الاستعلامات في فندق مرحبا. كانت حقيبتاهما خفيفتين، وكان أحدهما ـ وهو الأصغر سناً ـ قلق العينين واليدين، أما الآخر، ويبدو عليه أنه يقارب الثلاثين، فاتجه إلى موظف الاستعلامات، مقدماً جواز سفره، ومتناولاً بطاقتين بدأ بملئهما دون أن يستعين بجواز السفر، وعندما انتهى تناول بطاقتين أخريين، والتفت إلى صاحبه، طالباً منه جواز سفره. بحث هذا في جيوبه كلها، ثم فتح حقيقته شبه مضطرب، ونثر ملابسه وهو يتنفس تنفساً مسموعاً، ثم أخرج جواز السفر. تناول الآخر الجواز، وشرع يملأ البطاقتين. وقع الأصغر سناً، وأخذ موظف الاستعلامات الجوازين والبطاقات الأربع، ثم نال الآخر مفتاح الغرفة.
تمت العملية، ولم يسأل موظف الاستعلامات سوى سؤال واحد:
ـ كم ستقيمان هنا؟
ـ ليلة واحدة. سنغادر صباح الأحد.
* * *
في الشمال الغربي لـمغنية، وعلى مبعدة كيلومترات قليلة، يقع ميناء بورساي الصغير، والبحر المتوسط. كان ميناء بورساي يشكل مع بني صاف أهم مركزين لصيد الأسماك بين وهران ومليلية الإسبانية على شاطيء البحر المتوسط، أما الآن فلم يتبق من أسطول صيد السمك سوى عدد قليل من الزوارق القديمة التي لا تغامر بالتوغل عميقاً في البحر، والتي لا تكاد تكفي حاجة سكان المدينة إلى الطعام البحري الذي ألفوه منذ زمن طويل، والذي لا يستطيعون الاستغناء عنه بسبب غلاء اللحم، إلا أن أعمالاً جديدة توفرت لأهالي بورساي وإن لم تكن بسعة الأعمال القديمة وأمانها، من هذه الأعمال التهريب: تهريب البضائع والأشخاص بين المغرب والجزائر، والاستفادة من فرق العملة بين أرض كانت مشتركة يوماً ما، ولا يفصل بينها ـ حتى الآن طبعاً ـ سوى نهر يستطيع الأطفال عبوره سابحين.
* * *
جوازا السفر مغربيان.
من السهل معرفة الأمر بمجرد التقاط العين لون الغلاف الأخضر الشاحب الصقيل.
في الصباح كان موظف الاستعلامات في فندق مرحبا يقلبهما، وهو تحدث إلى أحد رجال الكمارك:
ـ مضت عليهما سنتان دون أن يدخلا المغرب.
ـ هل غادرا الجزائر؟
أعاد موظف الاستعلامات تقليب الجواز الأول:
ـ بن عمر سافر إلى هافانا عام 1965. هذه هي سفرته الوحيدة.
* * *
الطائرة التي يجلس فيها بن عمر، لصق النافذة، هي طائرة التوبوليف التي تتوقف عادة في مطار العاصمة الجزائرية، في رحلتها الطويلة من موسكو إلى هافانا. كان الجو داخل الطائرة أقل من دافيء، وكان بن عمر يشعر بنوع من الخدر الخفيف. مال بصدغه على الزجاج، فبعثت الاهتزازات السريعة العميقة شعوراً أكثر بالخدر في رأسه. عدل جلسته، وألقى برأسه إلى الخلف، مغمضاً عينيه، محتفظاً بآخر صورة التقطتها عيناه من داخل الطائرة: فتاة واسعة العينين ذات سروال واسع وشعر طويل أسود ناعم جداً.
إنه يرى الفتاة، الآن في مساء بالدار البيضاء. عيناها واسعتان، لكن شعرها الطويل الناعم يختفي تحت غطاء الرأس الذي يشكل جزءاً من الجلابة.
الفتاة تحدثه، تمسك بيده، ويسيران معاً، نحو الميناء، حتى إذا بلغا مرسى الزوارق، انحرفا. وتابعا مسيرهما. افتربا من مقهى سجلماسة، حيث اعتادا أن يجلسا، مواجهين البحر، في قاعة داخلية ذات زجاج ملون وزخارف خشب.
عندما بلغ المقهى، لمح رجلين في الممر الجانبي. كان وجه أحد الرجلين معروفاً، أما الآخر فقد اندفع نحو بن عمر. صرخت الفتاة صرخة واحدة، ثم اختفت عن عيني بن عمر في استدارة الممر الجانبي مع حركة الرجل الأول.
مرات عديدة، استطاع بن عمر أن يتخلص، كما تخلص هذه المرة، إلا أنه في هذا المساء، حزن حزناً عميقاً. إن مليكة لن تكون معه، حتى لو عادت إلى منزلها بالدار البيضاء بعد يوم أو بعد سنة. مليكة سوف تخجل من النظر في عينيه.
مدن عديدة، تنقل بن عمر بينها، لكن مدينتين ظلتا تنبضان في نفسه: الدار البيضاء وفاس.
في فاس، سكن عَدْوَة الاندلسيين.كان مسكنه، مثل مساكن الطلبة بجامعة القرويين، غرفة صغيرة ذات نافذة واحدة تطل على زقاق من تلك الأزقة التي تطول وتلتوي وتصعد وتهبط لتعود بالمرء إلى منطلقه الأول بعد أن تطوف به المدينة.
في هذه الغرفة الصغيرة، أقام بن بركة ليلتين. كان يجيء قبيل انتصاف الليل، مرتدياً برنساً خشناً، مع شابين يتركانه حين يبلغ الباب. وكان بن بركة يبدو مثقلاً ومرهقاً، واثقاً وقلقاً في آن واحد.
في الليلة الثانية أجاز بن عمر لنفسه أن يوجه سؤالاً إلى بن بركة:
ـ ممن نتعلم؟
أجاب بن بركة: من انفسنا ومن كوبا.
الحرارة داخل طائرة التوبوليف المتجهة إلى هافانا، ترتفع. يفتح بن عمر عينيه ويوجه منفذ التهوية نحوه، دون جدوى. يغمض عينيه مرة أخرى، ويعود إلى أزقة فاس الطويلة الملتوية الصاعدة الهابطة. ويبلغ
عدوة الاندلسيين ثم يدخل غرفته الصغيرة.
ـ ممن نتعلم؟
ـ من أنفسنا، ومن كوبا.
* * *
موظف الاستعلامات في فندق مرحبا أخذ يقلب الجواز الثاني:
ـ عبد الكريم سافر إلى مرسيليا عن طريق ميناء وهران عام 1966.
* * *
سفينة الركاب ، القيروان ، من أقدم السفن التي تعمل في المتوسط ذات خط واحد: وهران ـ أليكانت ـ برشلونة ـ مرسيليا، وبالعكس، والقيروان سفينة قديمة المواصفات أيضاً، فركاب الدرجة الأولى معزولون تماماً عن ركاب الدرجة الثانية، أما ركاب الدرجة الثالثة فليس لهم من سبيل إلى أي من الدرجتين.
كان عبد الكريم متمدداً على كرسي قماش طويل في السطح المغطى بمشمع ثخين. إنها سفرته الأولى منذ مغادرته المغرب ليدرس في جامعة وهران حيث التقى بابن عمر في النادي مع أحد الطلبة المغاربة. يومها وجد عبد الكريم أنه أحب الشخص الذي يراه لأول مرة، حباً سببه حديثه الجارح عن مسائل المغرب، ومعرفته العجيبة بالمدن والناس هناك.
هبات عنيفة من الريح والموج تحمل رذاذاً كثيفاً إلى جوانب الدرجة الثالثة، بحيث اضطر عدد من المسافرين إلى مغادرة أماكنهم واللجوء إلى وسط القاعة. بينما بدأ عمال القيروان بتوزيع البطانيات على المسافرين. كانت الأرضية الخشب رطبة إلى حد توشك فيه أن تنِزَّ ماء.
استسلم عبد الكريم إلى دفء البطانية غير المنتظر. كان متعباً. إذ نام متأخراً البارحة، واستيقظ فجراً، ليجمع حوائج السفر، ويصل رصيف الميناء، فسفينة القيروان تقلع الساعة العاشرة صباحاً، وعليه أن يكون داخلها في الساعة التاسعة، بعد أن يتم السلسلة الطويلة من إجراءات السفر.
قال لي بن عمر: حين تصل مرسيليا اذهب إلى بار رويال، أول بار تبلغه سائراً عند تقاطع الطرق الأول، بعد مغادرتك منشآت الميناء مباشرة. سل عن سيدي أحمد. قل له إن بن عمر أرسلني. سيدي أحمد سوف يدبر أمر الرحلة بالقطار من مرسيليا إلى ألمانيا، وسوف يدلك على من تتصل به في ألمانيا، وهناك تعرف كل شيء.
كان وجه عبد الكريم، خارج البطانية الداكنة، مثل وجه صبي متعب من طول اللعب، وكانت خصلة دقيقة منحدرة على جبينه تكاد تغطي إحدى عينيه المغمضتين.
الريح تزداد عنفاً.
والقيروان تتعثر في رحلة أخرى مرهقة، تزيد آلاتها العتيقة تآكُلاً، وتمضي بها، خطوة فخطوة، عبر البحر المتوسط، إلى أليكانت، فبرشلونة، فمرسيليا حيث بار رويال، وسيدي أحمد، والطريق الطويل الذي ينتظر هذا الصبي النائم المتعب.
* * *
سأل رجل الكمارك في فندق مرحباً:
ـ كم بقي بن عمر في هافانا؟
فتح موظف الاستعلامات إحدى صفحات الجواز الأول، وقال ببطء:
ـ أقل من عام... من شهر جويلية 1965 إلى شهر مارس 1966.
سأل رجل الكمارك:
ـ والثاني؟ كم استمرت سفرته؟
ـ أكثر من عام.
ـ هل أقام في فرنسا فقط؟
تأمل موظف الاستعلامات عدداً من صفحات الجواز الثاني ثم قال:
ـ أقام فترات في ألمانيا الغربية ويوغوسلافيا.
ـ ما مهنتاهما؟
ـ طالبان.
كان الشاي المائل إلى الخضرة. يبدو أكثر خضرة من حقيقته، بسبب أوراق النعناع الكثيرة التي تملأ النصف الأعلى من الكأس الصغيرة... أرتشف رجل الكمارك رشفة سريعة ثم أعاد الكأس إلى مكانها من مكتب الاستعلامات الذي يشبه حدوة حصان متسعة وقال:
ـ هؤلاء المغاربة يدبرون رؤوسهم.
سأل موظف الاستعلامات:
ـ هل تظن الأمر سهلاً؟
نظر رجل الكمارك إلى علبة دخان الكولواز الزرقاء المربعة على المكتب. وتناول منها لفافة لم يشعلها، وإنما ظل يتلمسها بأنامله. كان موضع الأظفر في أحد أصابعه مشوهاً:
ـ الشعب يدبر.
قال موظف الاستعلامات وهو يضم الجوازين إلى بعضهما، ويضعهما إلى جانب لوحة المفاتيح:
ـ إنهما خارج البلاد.
ـ لا بأس.
ـ ماذا يستطيعان أن يفعلا خارج البلاد؟
ـ أين كانت اللجنة السرية وقت الثورة؟
ـ في سويسرا.
أشعل رجل الكمارك لفافة الكولواز، وتنهد قليلاً، وهو يستمتع بطعم الدخان الثقيل ورائحته النفاذة وهي تملأ تدريجاً القاعة الصغيرة.
* * *
إحفير ـ بَركان ـ الناضور.
ثلاث محطات بين وجدة المغربية، ومليلية الإسبانية. تتجه نحو البحر في خط عمودي. يخترق السهل. أولاً ثم منطقة التلال المتموجة. قبل أن ينحدر سريعاً. نحو الشريط السهلي الضيق على الشاطيء.
إن هذا الخط العمودي الذي يبلغ طوله مائة كيلومتر تقريباً. يحصر إلى شرقه قطاعاً ضيقاً يوازي خط الحدود شبه المستقيم بين المغرب والجزائر. هذا القطاع الضيق الذي يضم مجموعة كبيرة من القرى الزراعية، يتكون أغلب سكانه من عوائل مغربية ـ جزائرية، وقد يقيم عدد من أفراد الأسرة الواحدة في الجانب الآخر من الحدود.
إن سلطات الحدود في كلا البلدين لا يمكنها إلا أن تبدي نوعاً من التساهل تجاه انتقال الأشخاص والبضائع، شأنها شأن معظم سلطات الحدود، في مناطق أخرى مشابهة من العالم، لكن التساهل يختفي أحياناً، عند حدوث اضطرابات أو أحداث معينة، وغالباً ما يكون هذا في الجانب المغربي. غير أن التشدد لم يصل يوماً إلى حد إطلاق النار.
أقرب المحطات الثلاث إلى مليلية الإسبانية ـ حيث يتم الانتقال إليها بالهوية الشخصية، وأحياناً دون هوية ـ هي بلدة الناضور الواقعة على شبه خليج. إن الناضور التي تضم عدداً من الفنادق، ومطاراً صغيراً محاطاً بالأشجار، وحامية عسكرية في ثكنات من الحجر الجبلي، وتسهيلات متواضعة لقوارب الصيد المغربية، والقوارب الإسبانية التي قد تلجأ إلى الخليج أثناء العواصف والطوارئ ـ تعتبر واجهة مغربية أمام المنطقة الإسبانية الملاصقة.
والطريق من بورساي إلى الناضور ليس سهلاً كما يتصور المرء، فحين يعبر المرء النهر الفاصل بين بورساي والأرض المغربية، عليه أن ينحدر جنوباً، ويظل ينحدر، مخترقاً العديد من القرى والمزارع والتلال المتموجة، ليبلغ إحفير أو بَركان. ومن هاتين البلدتين الصغيرتين، يبدأ من جديد رحلة نحو الشمال، بوساطة الحافلات أو سيارات الأجرة، حتى يصل الناضور.
إن الرحلة إلى الناضور، عبر إحفير وبَركان شديدة البطء إذ أن هذا الخط العمودي الذي يبلغ طوله مائة كيلومتر تقريباً، ويمتد بين وجدة ومليلية، يعتبر منطقة تهريب، ومنطقة كمركية موحدة، تنشط فيها الدوريات من كل صنف: دوريات الكمارك، دوريات الشرطة السيارة، دوريات شرطة الدراجات النارية. ودوريات الأمن ذات الملابس المدنية المتنوعة.
ليس التهريب وحده، وراء هذه الدوريات، فالمنفيون المغاربة في أوروبا. وبربر الشمال، المهتمون بالسياسة، ذوو الميول الجمهورية في مدينة وجدة هم أيضاً... وراء هذه الدوريات.
* * *
في حوالي الساعة الرابعة من عصر الأحد، عاد المغربيان، ليواجها موظف الاستعلامات في فندق مرحبا.
كان رجل الكمارك الجزائري ما يزال جالساً في القاعة المعتمة.
وضع المغربيان حقيبتي السفر متلاصقتين إلى جانب الحائط أسفل المكتب، فبدأهما موظف الاستعلامات مستفهماً:
ـ ألم تسافرا؟
قال بن عمر: لم نستطع.
نهض رجل الكمارك من كرسيه الخيزران، وخطا خطوتين باتجاه المكتب، ووضع إحدى يديه عليه، وقال موجهاً الحديث إلى عبد الكريم:
ـ هل كنتما في بورساي؟
التفت عبد الكريم إلى رفيقه مستفهماً.
أجاب بن عمر:
ـ نعم، ولم نستطع اختراق الحدود.
قال رجل الكمارك:
ـ أكان ذلك بسبب الجزائريين؟
ـ نعم...
سأل رجال الكمارك:
ـ أتظن للأمر علاقة بمعاهدة إفران( )؟
فكر بن عمر لحظة، ثم أجاب:
ـ لا أدري إن كانت هناك لصوص سرية للمعاهدة تتعلق باللاجئين السياسيين؟
قال رجل الكمارك:
ـ إنك تتذكر اتفاقيات إيقيان( )...
لم يجب المغربي، واكتفى بهز رأسه مواقفاً.
كان صمت متوتر يسود القاعة الصغيرة: المغربيان، ورجل الكمارك، واقفون أمام المكتب، وهم يبدون عاجزين عن أي شيء، بينما يتابع موظف الاستعلامات جلسته الثابتة التي تظهره من أمام المكتب، مثل تمثال نصفي لجندي جزائري شاب من المنطقة الغربية.
أخيراً قال موظف الاستعلامات، وهو يميل بصدره على حاجز المكتب:
ـ لمَ لم تسافرا بوثيقة سفر اللاجئين السياسيين؟
أجاب بن عمر:
ـ لأننا نريد البقاء في المغرب.
ـ ألا تستطيعان السفر بها إلى مليلية، ومن هناك تدخلان المغرب سراً؟
ـ سوف يسلمنا الإسبان.
الصمت المتوتر يسود القاعة الصغيرة، من جديد. لكنه ينقطع فجأة. كان رجل الكمارك هو المتحدث:
ـ سوف أصحبكما إلى بورساي.
بغداد 11/12/1972
( ) معاهدة إفران: بين الجزائر والمغرب.
( ) اتفاقيات إيفيان: اتفاقيات الاستقلال بين الثورة الجزائرية وفرنسا.
ذوو القبضات العالية
مدام بيجوس تقول لم تستطع النوم البارحة. تقول إن أصدقاءك الذين سهروا معك كانوا صاخبين، وبخاصة عازف القيثار. تقول أيضاً إن اغنياته لم تعجبها
زهرةالتي يدعونها في محل حلاقة مدام بيجوس زهريت تعجبني، إنها تصر على التحدث معي باللغة العربية، تلوث الكلمات. وتلثغ. لكنها تتوصل، برغم كل شيء، إلى جملة عربية. السواد الفاحم اللامع كان لون شعرها وعينيها الواسعتين. وحين تتحدث تأتي كلماتها خفيضة ومليئة معاً، وكأنها تهمس دائماً بالأسرار.
الشاب الإنجليزي الذي كان يغني رأيته اليوم. التقينا في السلّم. كنتُ صاعدة من محل الحلاقة إلى أمي لأتناول قهوة أخرى. قال لي: صباح الخير، وكادت قيثارته تضربني، لكنها لمستْ شَعري فقط. اعتذرَ ضاحكاً، وتابع نزوله.
الشقة التي اسكنها، شقة قديمة أنيقة الداخل. إلا أن خارجها: ـ النافذتين، والباب، والستائر الخشبية، والزجاج العتيق، وقرميد السقف الناصل ـ يعطيك انطباعاً بأنك داخلٌ كوخاً في غابة. وهي واحدة من ثلاث شقق في الطابق الأول. البناية ذات طابق واحد فقط ـ تطل على حوش فيه مضخة ماء يدوية لم تعد تستعمل بعد أن دخل ماء الأنابيب البناية. قرب المضخة المتآكلة كان الباب الخلفي لصالون مدام بيجوس التي تسكن الطابق الأرضي، مع عشيقها العجوز، وأختها.
اليوم أحد. لكنني أعمل. مدام بيجوس تصر على أن أعمل الأحد، تقول إن النساء يأتين إلى المحل، بكثرة يوم الأحد، وهي لا تمنحني أجراً إضافياً، أجري الشهري لم يتغير منذ خمسة أعوام. ومساء البارحة تأخرتُ في المحل حتى الساعة الثامنة، وحين ارتقيتُ السلّم كانت رجلاي تؤلمانني، أعدتْ لي أمي شاي أعشاب، فأحسستُ بشيء من الراحة. ثم بدأت الأغاني والقيثارة في شقتك، أردتُ المجيء لكن أمي لم تقبل، قالت إن الوقت ليل. فوضعتُ كرسياً قرب نافذتك، وجلستُ استمع برغم دخان السجائر المتسلل من النافذة.
مدام بيجوس تسكن البناية منذ ثلاثين عاماً. جاءت المدينة مع اختها الصغرى، ساقيتين في مشرب بمركز المدينة. كانتا تعاشران في السنوات الأولى ضباط الفرقة الأجنبية من الفرنسيين. وانتقلتا مع مر السنين، إلى اذرع نواب الضباط ورؤساء العرفاء من الفرنسيين والألمان والكورسيكيين أحياناً، ولم يحدث لهما، ليلة ما، أن وجدتا نفسيهما مع غير البيض من أفراد الفرقة الأجنبية... ومع مر السنين أيضاً، كانت المشارب التي تعملان فيها، تنتقل، هي الأخرى، مبتعدة عن المركز. إلى الشوارع المتصلة به، فالضواحي القريبة، حتى وجدتا نفسيهما أخيراً، في مشرب يبعد /5/ كيلومترات عن مركز المدينة، مشرب على نهر صغير يخترق عدداً من المزارع، ويقع على الشارع العام الذي تسلكه السيارات المتجهة، في أمسيات السبت، دائماً إلى المغرب، حيث المنطقة الإسبانية على مبعدة ثلاثمائة كيلومتر فقط. من هذه المنطقة جاء السنيور بيجوس [السنيور الآن]، عشيق مدام بيجوس، ولم يعد إلى منطقته أبداً. لقد هيأت له السيدة ـ الثرية الآن شيئاً ما ـ حياة رخية.
هل عرفت؟ شقة سي محمد فرغت. ذهب سي محمد إلى الحي العربي، لأن زوجته تتضايق من رؤية مدام بيجوس وأختها وهما تقددان لحم الخنازير الذبيحة على السطح. والمفتاح الآن بيد مدام بيجوس، لقد دفعت إيجار الشقة مقدماً، لمدة عام كامل، وأغلقتها، مثلما فعلت بالشقة التي فرغت بالطابق الأرضي في العام الماضي. أكثر مفاتيح البناية الآن بيد مدام بيجوس: صالون الحلاقة، شقتها، شقة أخيها، محل عشيقها الذي يؤطر فيه الصور ويلعب الشطرنج مع روميرو مصلح البنادق. شقة سي محمد، والشقة المغلقة في الطابق الأرضي.
امرأة إسبانية، متوحدة، في الخمسين، تسكن البناية أيضاً، في حجرة كبيرة رطبة ذات نافذة واحدة، بالطابق الأرضي. لويزيت تغسل المناشف والفوط والصدريات العائدة إلى محل الحلاقة، وتغسل كذلك كلب مدام بيجوس القزم ذا اللون البني. وكل يوم، في الساعة الثانية عشرة دائماً، حين تأتي مدام بيجوس بالخبز، تفتح لويزيت باب حجرتها، وتنتظر بعينين قلقتين كل يوم تمد مدام بيجوس يدها، برغيف واحد شديد الانضاج، إلى لويزيت المنتظرة عند الباب.
مرة، تأخرتُ، نصف ساعة، كانت أمي مريضة، فسهرتُ إلى جانبها حتى ما بعد منتصف الليل. لم تهيء لي قهوة الصباح، طبعاً، ولم أكن اعتدتُ تهيئة القهوة. ذهبتُ ذلك الصباح، مسرعة إلى ممرضة نعرفها. شربتُ معها القهوة. وعدتُ بها إلى البناية. وحين دخلتُ المنزل مع الممرضة،وجدتها ـ مدام بيجوس ـ تتخاصم مع أمي. بصوت حاد. كانت أمي لا ترد، وعندما اقتربتُ من فراشها نظرتْ إلي بعينين دامعتين. تأخرتُ عن العمل نصف ساعة فقط. أتقدر كم خصمتْ مني؟ أجرة نصف يوم! سأنزل الآن إلى المحل.
زهرة تدخل السلم المسقوف، وشعرها اللامع يكاد يلامس السقف المتآكل من الرطوبة. عدت إلى شقتي: فتحت النافذة، ورفعت الستائر الخشب، كان الهواء المشبع بالندى والكالبتوس يندفع مثل موجة باردة، محركاً الستائر الضيقة الملتصقة بالزجاج، وعدداً من الأوراق المثبتة على الطاولة المستديرة الآن، أما في الشرفة الصغيرة... الشارع يتطامن أسفل الشرفة، لامعاً، مغتسلاً برطوبة الليل الخفيفة، وفي الشقة المقابلة، في الجانب الثاني للشارع، أرى سي العربي. يرتدي ملابسه المدنية. متلكئاً؛ قرب الهاتف. إنه اليوم الوحيد في الأسبوع الذي يرتدي فيه الملابس المدنية.
عندما استدرت مغادراً الشرفة: رأيت التظاهرة تقترب.
ـ إلى أين تذهبين يا زهريت؟
ـ إلى الخارج.
ـ لكن لدينا عملاً اليوم.
ـ إنه يوم عطلة.
ـ أوه... أوه! سأستدعي أمك.
اجتازت التظاهرة الشارع المؤدي إلى وسط المدينة. كانت تظاهرة صغيرة مسرعة، غير أنها عنيفة، تردد هتافاً واحداً سريعاً. كان المتظاهرون شباباً ذوي لحى، وفتياناً لم يلتحوا بعد، وفتيات غير متأنقات. كانوا يقتربون من شارعنا، مجتازين وسط المدينة، حيث المسرح، والمحكمة، والأشجار ذوات اللحاء المتجلد. وحين وصلوا إلى محل الحلاقة، اندفعت فتاة من التظاهرة.
زهرة! زهرة!
دخلت لويزيت شقتي، لأول مرة، وهي تمسح يديها بصدريتها الزرقاء.
كانت شبه مذهولة: الحمر! الحمر! ذوو القبضات العالية!
ـ إنني خارجة. مدام بيجوس.
ـ لكن لدينا عملاً اليوم.
إن صديقتي تناديني.
ـ تريدين الذهاب إلى الحمر؟
ـ نعم.
ـ وهل ستعودين إلى المحل؟
ـ .................
القلعة الرومانية
من النافذة يبدو الجبل. كان أعلى من أعلى العمارات، ملتصق السفح بأشجار متصلة، تشكل شبه غابة قصيرة القامة.
كان الكرسي المنحرف في آخر المكتب، يمنحه القدرة على الاستغراق في النظر. وكانت عيناه المتعبتان من وهج الخريف تتأملان هذا الجبل المائل أمامه، فجأة، في طرف بغداد، قرب سينما الأرضروملي.
فتح النافذة الزجاجية، وهو ما يزال جالساً، كان يرسم بأصبعه، على السماء المغبرة الزرقة، الدرب الدائر المتسلق إلى قمة الجبل الباردة، والسحب المتقطعة القريبة من القمة القادمة من البحر الذي يبعد عن الجبل ثمانين كيلومتراً.
تنفس ملء رئتيه هواء الجبل الخفيف.
قال الزاهي محمد: إنها القلعة الرومانية.
إنهما يسيران، منذ الصباح الباكر يسيران، لقد انتهت الآن كل علائقهما، وعلائق ما حولهما، بالمدينة، حتى الطريق المعبدة صارت طريقاً حجرية ضيقة، ينتصب في أولها آخر عمود كهرباء.
انعطفت الطريق الحجرية انعطافة حادة ازدادت فيها ضيقاً. بحيث كان السائران يتفاديان بصعوبةٍ أشواكَ الأرض ـ شوكي البري التي تحاصر. مع الأعشاب العالية، الطريق المائلة إلى الارتفاع الآن.
الشمس تضحي أكثر حدة، وما يزال الدرب إلى قمة الجبل طويلاً.
قال الزاهي محمد: نستريح هنا قليلاً.
أجابه الآخر: كما تريد.
جلسا على صخرتين، مستندين إلى سياج مزرعة. حيث تكون شجرة صنوبر ضخمة جزءاً من هذا السياج، وحيث كان ديك متكبر يبتعد، بطيئاً، عنهما، ليدخل من ثغرة في السياج إلى الكوخ الحجري، البناء الوحيد المائل فيما حولهما.
أخرج الزاهي محمد من جيبه ليمونتين ممتلئتين، قدم إحداهما إلى الآخر، وتناول شوكة من أشواك الأرض ـ شوكي البري ثقب بها ليمونته، وفعل الآخر فعله بمهارة أقل، ثم شرعا يمتصان الحموضة اللاذعة.
قال الزاهي محمد وهو يشير مبتسماً إلى قمة الجبل حيث ترتفع جدران حجرية ذات أبراج محكمة:
ـ إنها القلعة الرومانية.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يرى فيها الآخر الجبل وقمته فأينما يذهب المرء ابتداء من وسط المدينة يمكنه أن يرى جبل تسالة وقمته الغائمة في أكثر الأيام وأحياناً حينما يفتح الاخر النافذة الواسعة ويقف في الشرفة تلتقط عيناه، أول ما تلتقطان، الجبل وهو يبدو وحيداً غريباً مثقلاً في مثل هذا السهل الزراعي الواسع بين الأطلس البحري والأطلس الوسيط.
لكنه اليوم مع الزاهي محمد، كان يحس أنه يكتشف الجبل للمرة الأولى وأن القلعة الرومانية في قمته سوف تنفتح أمامه بممراتها وأبراجها وجدرانها الحجر، كما تنفتح باب منزل الزاهي محمد في كل زيارة يقوم بها إلى المزرعة التعاونية لقدماء المجاهدين الواقعة على الطريق العام بين سيدي بلعباس وتلمسان.
ـ لم تبق سوى هذه الدورة.
اصطدما، بغتة، بحرج صنوبر صغير، عندما أكملا الدورة الأخيرة، وبدت القمة للآخر غير قمة. إنها هضبة محدودة منبسطة، ذات ود مستغرب.
في الأسفل، ناحية اليمين، كانت المزارع خضراً، صفراً، بنّيةً، وسوداً أحياناً. تمتد عبرها خطوط الزيتون والكروم المنتظمة. وفي البعد: سايلو الحبوب، وقبة السوق المركزي، وعمارات المدينة. ومن الشمال يستطيع المرء أن يرى طريق السيارات الرئيس الموصل إلى وهران، واضحاً، ملتوياً بعض الشيء، حتى ريو سالادو حيث يغيم الطريق، ويتلاشى، بين أشجار ومزارع الجانبين التي تطبق عليه تدريجاً.
قال الآخر: لنجلس.
جلس الاثنان على الحافة الآمنة لحرج الصنوبر، وتململ الآخر قليلاً بتأثير إبر الصنوبر التي تغطي الأرض، ثم استقر في جلسته، وشعر بالعرق البارد المتصبب على صدره ينشف، فيغدو أكثر برودة، مع نسيم القمة. وارتجف ارتجافة لذيذة.
قال الزاهي محمد وهو يغرز عوداً يابساً في طبقة الإبر الصنوبرية الهشة:
ـ نستريح هنا قليلاً قبل أن نذهب إلى القعلة الرومانية.
ـ ولكن... أين القلعة الرومانية؟
ـ لا تستطيع أن تراها من هنا.
ـ أليست في القمة؟
ـ بلى. إنها مختفية وراء تلك الصخرة. التي تعين النصف الثاني من القمة... حين تنهض وتسير خطوات متجاوزاً الصخرة ترى نفسك داخل القلعة الرومانية.
ـ الفرنسيون أذكياء.
ـ ملعونون.
أخرج الزاهي محمد نصف رغيف بيتي سميك قسمه طولياً بسكين صغيرة حادة وناول الآخر قطعة ثم مثلثاً من الجبن الطري.
قال الآخر وهو يقدم إلى الزاهي محمد قنينة ماء بلاستيكية صغيرة:
ـ مكان ستراتيجي.
ـ يستطيع الفرنسيون أن يسيطروا من القلعة الرومانية على منطقة واسعة بين وهران وسعيدة وعين تيموشنت وغليزان، وهي منطقة تلال خفيضة وغابات. كان في القلعة جهاز مراقبة وإرسال، يوجه طائرات الهيلكوبتر والدوريات التي تتجول ليل نهار.
من هنا يستطيع المرء أن يشرف على كل شيء. انظر!
انظر إلى الجسر!
تتبع الآخر يد الزاهي محمد المتجهة وجهة طريق السيارات الرئيس، الموصل إلى وهران، حيث يبدو جسر قصير مقام على جدول.
ـ انظر. إلى ما تحت الجسر! أترى شيئاً!
ـ طفلاً يصطاد السمك!
ـ الفرنسيون ملعونون.
الأبراج الأربعة التي تعلو سور القلعة المربع عند كل زاوية من زواياه، ما تزال موجودة،وإن بدأت تتخذ صورة الآثار التي لعبت يد الصيانة دوراً ملحوظاً في الحفاظ عليها. أما السور المنخفض فيشكل حاجزاً صعب الاقتحام بسبب الانحدار الحاد للجبل والأشجار المحروقة، هذه التي أخذت تنمو الآن من جديد.
في القلعة أربع قاعات طويلة مبنية بالحجر والأسمنت، وساحة العرضات الصغيرة التي تتوسطها قاعدة الصارية مرصوفة بالحجر الجبلي أيضاً، حتى الممرات الضيقة ما تزال ظاهرة بين صفّي الحصى الغليظ الذي فقد الآن طلاءه الأبيض.
اقترب الزاهي محمد من البرج الغربي وقال:
ـ كنت مكلفاً بهذا البرج.
كانت فرقتنا مكونة من ستة عشر جندياً بينهم سي قدور وهو المسؤول عن العملية. وكانت الخطة أن يصعد أربعة منا إلى القلعة ليلاً كل واحد من ناحية ويكمن ثلاثة أسفل كل برج من الأبراج الأربعة خارج القلعة في المنحدر متشبثين ببقيايا الأشجار المحروقة. حين يصعد الأربعة ويأخذون مكامنهم قرب الأبراج يلقي كل واحد منهم قطعةحصى غليظة خارج سور القلعة قريباً من البرج. وحين يتجه الحارس نحو مصدر الصوت يتلقى طعنه من الخلف. آنذاك نقوم بتسلم الأسلحة والتجهيزات التي استولى عليها رفاقنا ونبتعد عن القلعة ولا يتخلف عنا إلا سي قدور ليرافق الأربعة الباقين.
هكذا كانت الخطة.
وفي ليلة العملية تطوعت مع ثلاثة جنود واحد منهم يوسف صاحب مطعم الواحة، لنكون الصاعدين إلى القمة. رفض سي قدور أن يكون يوسف من بيننا قال إنه ما زال صغيراً وقد يتردد في توجيه طعنة مميتة أو يضطرب لحظة توجيهها. أخيراً قرر سي قدور أن يكون هو أحد الأربعة. كان يوسف بانتظارنا. كانت أصعب المراحل في مهمتنا مرحلة اختراق المنطقة لنصل إلى بقايا الشجار المحروقة في المنحدر أسفل القلعة، فدوريات الفرنسيين كانت منتشرة في المنطقة، ليل نهار. طبعاً في العودة تكون المسألة أسهل، لأننا سنحصل على أسلحة تقاتل بها هذه الدوريات.
تمت العملية، ونجونا بجلودنا والأسلحة. ربما لأننا من القرى القريبة. ربما لأن سي قدور تعلم هذه الأمور عندما كان في الفيتنام.
لم تطلق حتى رصاصة واحدة.
إنني ما زلت أحتفظ بشيء من تلك العملية.
أخرج الزاهي محمد السكين الصغيرة الحادة من جيبه وقال:
كانت في جيب الحارس.
* * *
عندما بلغا الكوخ، عند التقاء الطريق الحجرية، بالطريق المعبدة، بعد هبوطهما من القلعة الرومانية، كان الآخر متعباً جداً، لكن الزاهي محمد لم يقترح شيئاً، وإنما استمر في مشيته الواثقة، منعطفاً نحو الطريق المعبدة. كان صامتاً معظم الوقت الذي مر عليهما، وهما ينحدران من القمة.
بعد مسيرة ربع ساعة. بلغا النبع المتدفق، هادئاً صامتاً، بين صفصافات ضخمة مرتوية الأوراق إلى جانب الطريق.
قال الزاهي محمد: لنشرب.
حين جلس على حافة النبع مدلياً قدميه العاريتين في مجرى الماء المترقرق عن حصى أسود وبني أحسَّ بعضلات رجليه ذائبة رخية كالعجين. ودّ لو بقي حتى المساء في جلسته هذه.
التفت إليه الزاهي محمد قائلاً:
ـ لم يدفعوا أجورنا منذ شهرين. الجنود الذين يعملون معي في المزرعة أرسلوني لمقابلة الوالي لكنه رفض. إنه يكره الجنود.
ـ لم لا تذهبون إلى الحزب؟
ـ إنهم بورجوازيون كانوا جميعاً في المغرب.
الجبل المائل في طرف بغداد عند سينما الأرضروملي يختفي تدريجاً في السماء المغبرة الزرقة بين السقوف المسطحة والعمارات الوطيئة والشجر القميء.
وأحس بنوع خفيف من التشنج في رقبته فعدل كرسيه ودبر لنفسه جلسة أكثر راحة.
الحية
ـ يا سعدي!
ـ؟
إنه صوته بلا شك، صوته هو بمخارج حروفه الصافية، ونعومته، ووقاره المبكر، ومرحه. زيد بن صقر، رجل في الثانية عشرة. إن عينيه تطلان حتماً، الآن، من الباب الصغير المثبت في الباب الكبير، عينيه السوداوين حتى التفحم، اللامعتين حتى الماس.
ما الذي يريده مني زيد بن صقر في هذه الساعة المبكرة؟
الدوام يبدأ بعد ساعتين، وأستطيع أن أنام ساعتين إلا ربعاً، مستنفداً بقايا الفجر الصحراوي البارد.
فتحت عينيّ بعد إخلاص جُهدٍ.
كان الشعير الأخضر الذي زرعته حين بدأت أولى الأمطار تزور ساحة البيت الرملية... يهتز، والبئر المرة في الجانب الأيمن من البيت ما تزال مغطاة بقطعة الخشب ذات الحروف اللاتينية السود الكبيرة. كانت النسمات باردة حقاً. وأغمضت عيني.
ـ يا سعدي!
ـ ...............
غمغمت، وعيناي ما تزالان مغمضتين: ما الذي يريده زيد بن صقر؟
ما الذي يريده في هذه الساعة؟
حين جئت هذه القرية قبل ستة شهور، كان زيد بن صقر أول من تحدث إلي. لقد وصلتُ القرية ظهراً، وكنت أبحث عن بيت المدير، بعد أن وجدت المدرسة مغلقة وراء باب حديد تنفتح عليه حديقة صغيرة شاحبة الخضرة. وكان الشارع خالياً، إلا من الشمس، والريح، والرمل، والجدران غير المصبوغة، والسيارة، والسائق، وحقيبتي، ونظراتي القلقة. وفجأةً رأيت زيد بن صقر، أمامي، مبتسماً، يلهث قليلاً. كان وجهه أقرب إلى الطول، وكانت كوفيته شديدة البياض، تعطي وجهه شيئاً من استدارة. لقد هبط زيد بن صقر من الجدار بخفة طائر، مثيراً غيمة صغيرة من الغبار.
ـ أعراقي؟
ـ نعم.
ـ أنا زيد بن صقر.
ـ نعم.
ـ وأنت؟
ـ سعدي.
ـ المدير ما هو بالدوغة.
ـ وين راح؟
ـ هو وجماعته راحوا بالسيارة.
ـ متى يرجعون؟
ـ طلعوا للقنص.
ولا أدري كيف اختطف زيد بن صقر حقيبتي من السيارة، راكضاً بها. إلى أقرب بيت.
وحينما عاد إلي كان يضحك بنعومة، فارغ اليدين: المدير بالبيت يسلم عليك.
ـ يا سعدي!
ـ ...................
ـ يا سعدي!
وأغمضتُ عيني. شعرتُ بالوسادة صلبة، فمّسدتُ عليها قليلاً، كانت هبات النسيم ما تزال باردة. وكنت أحس بصفاء وهدوء لا حد لهما، وبهبّات نسيم باردة على جبيني. وفتحت عيني حانقاً. ما الذي يريده مني زيد بن صقر؟ ما الذي يريده هذا اللعين؟ ونظرت إلى ساعتي، وعيناي نصف مغمضتين.
لقد بقيت ثلاثة أرباع ساعة على بدء الدوام. فكرت بالنهوض من الفراش، والذهاب إلى الباب، حيث يقف زيد بن صقر منادياً. كانت النسمات الباردة ما تزال تهب، وجبهتي التي بدأ العرق ينبت فيها تمثل ببرودة نادرة، وكنت مسترخياً، أشعر بصفاء ناعم، بارد، مثير، مسكر.
حدثني زيد بن صقر مرة عن القنص، قال لي إنه يذهب مع أبيه وأشقائه كثيراً إلى القنص، ومع أنه يحب طرد الغزلان إلا أنه يحب أيضاً اقتناص حيوانات صحراوية أخرى، وخاصة الضب. إنه يعرف الطريقة، ويكتشف بسهولة، مكامن الضب ومساربه.
جاءني بضبّ يوماً، وفي اليوم التالي جاء بضب ثان، فثالث، فرابع. حتى اصبحت ساحة بيتي الرملية مزرعة للضباب، وحتى فكرتُ جدياً، بأن أؤلف كتاباً عن عادات هذا المخلوق الأصفر القاسي.
ـ يا سعدي!
ـ ................
ـ يا سعدي!
كان صوت زيد بن صقر يخزني كابرة حادة.
وقفزتُ غاضباً من الفراش، وأسرعتُ راكضاً إلى الباب، وهناك كان زيد بن صقر، يبتسم ماكراً، ويداه خلف ظهره.
ـ ماذا تريد يا زيد؟
وفجأة. انطلقت يداه من وراء ظهره. ونظرتُ مرتعباً إلى التماع جلد الأفعى القريب من الصفرة. كانت الأفعى تحاول الالتفاف على يده اليمنى الممسكة بالرأس المثلث، بعد أن أطلق ذنبها من يده اليسرى:
ـ لقد اقتنصتُ لك هذه الحية!