مكافحة التعذيب وسوء المعاملة في القانون الدولي
ميرفت رشماوي*
1. مقدمة عامة
بغية مناقشة منع ومكافحة التعذيب وغير ذلك من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، فمن الأهمية بمكان أن نلقي نظرة على الإطار العام المتعلق باستخدام القوة. فمن الناحية المبدئية، يُسمح لموظفي الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون استخدام قدر معين من القوة ضمن ظروف محددة تهدف إلى تمكينهم من أداء واجباتهم الموكولة إليهم. ويرد هذا المبدأ في المبادئ الأساسية التي أصدرتها الأمم المتحدة والمتعلقة باستخدام القوة والأسلحة النارية من قبل موظفي إنفاذ القانون. وإن استخدام القوة خارج نطاق هذه الاختصاصات والأفعال الأخرى أو إغفال القيام بها يشكل انتهاكا لهذه المبادئ الأساسية وجرائم تعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة وجرائم أخرى من قبيل الإعدامات خارج نطاق القضاء. وعندما تُستخدم القوة بهذا الشكل في إطار النزاعات المسلحة، فسوف تشكل حينها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
وعليه وكمبدأ عام، ثمة حدود تُفرض على ما يمارسه وكلاء الدولة من سلطة على الموقوفين في عهدتهم. ولا تتعلق سلطتهم بالمواطنين فقط، بل تنسحب على جميع المقيمين على أراض الدولة أو نطاق الاختصاص الجغرافي التابع لها. ولذلك فلا يمكن القول أن سلطة الدولة هي سلطة مطلقة.
وهناك حاجة لعدد من التدابير التي ينبغي توافرها في كل بلد وأخرى توضع بالتعاون بين مختلف البلدان من أجل ضمان التوصل إلى مكافحة فعالة للتعذيب وسوء المعاملة أو العقوبة. وتتعلق هذه التدابير بضمان منع وقوع التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة والتحقيق فيها متى ما وقعت ومعاقبة مرتكبيها وتيسير احتكام الضحايا لوسائل إنصاف وجبر ضرر فعالة. كما يجب استحداث تدابير تكفل عدم تكرار وقوع التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة، وهي تدابير ترتبط بمنع التعذيب وسوء المعاملة أو العقوبة على المستويات العامة وعلى مستوى فرادى الحالات أو القضايا أيضا.
2. الحظر المطلق المفروض على التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة
ويتجسد منع ارتكاب ممارسات التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة في عدد من المعاهدات الدولية والإقليمية في مجال حقوق الإنسان. ومن الضرورة بمكان أن نشير في البداية إلى أن التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة هي ممارسات محظورة على الدوام وفي ظل جميع الظروف والأحوال وفي حالات السلم وأثناء النزاعات المسلحة وبصرف النظر عن الأسباب. وعليه فينطبق الحظر أو أو المنع على الدول التي صادقت على المعاهدات ذات الصلة وعلى باقي الدول أيضا. ويُعتبر منع التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة أحد مبادئ القانون العرفي الدولي الذي ينطبق في جميع الحالات والأوقات. ولا يمكن تقييد ذلك المنع، أي أنه غير قابل للتقييد أو الانتقاص منه في جميع الظروف أو الأحوال.
ولا ينبغي استخدام المعلومات المنتزعة تحت التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة في أي إجراءات قانونية باستثناء الحالات التي تُستخدم فيها لإثبات ارتكاب جريمة التعذيب نفسها. إذ لا يمكن الوثوق بهذا النوع من المعلومات ما يجعلها تفتقر بالتالي لأي قيمة من أجل تحقيق أهداف مشروعة للحكومة.
3. ما هو التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة؟
تنص المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على منع التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة. وفيما يتعلق بالبلدان العربية تحديدا، فينبغي التنويه بأن المادة 8 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان تتناول هذا الموضوع أيضا.
وتورد اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغير ذلك من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة تفصيلا لمنع التعذيب كونها تورد التعريف التالي لمفهوم التعذيب في مادتها الأولى:
" يقصد 'بالتعذيب' أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو ارغامه هو أو أي شخص ثالث - أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأى سبب يقوم على التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها".
وينبغي التأكيد على أن هذا المفهوم لا يقتصر على الأعمال التي تشكل تعذيبا وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة بل يتعلق أيضا بالعقوبات التي تحمل نفس خصائص أعمال التعذيب. وبوسع المرء أن يدرك السبب وراء حظر هذه الأفعال إذا ارتُكبت في سياق التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة ولكنها مستثناة من الحظر إذا جاءت ضمن تنفيذ أشكال العقوبات المختلفة. وتنص المادة 8 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان على "حظر تعذيب أي شخص بدنياً أو نفسياً أو معاملته معاملة قاسية أو مهينة أو حاطة بالكرامة أو غير إنسانية". وعليه فإن الميثاق العربي يحظر التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة ولكنه لا يشمل حظر هذا النوع من العقوبات.
4. عناصر التعريف
لا توجد قائمة محدد تورد الأفعال التي تشكل تعذيبا وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة، ولكن ثمة عناصر تدخل في تعريف التعذيب تساعد على تحديد الأفعال المحظور ارتكابها أو الامتناع عن ارتكابها. وترتبط هذه العناصر بالأسئلة المتعلقة بنوع الأفعال وهوية مرتكبيها وأسباب ارتكابها.
أ) ما هو نوع الأفعال المحظورة؟
الفعل العمد: يُقصد بهذا المصطلح الأفعال المرتكبة عن قصد أو تلك التي يمتنع الشخص عن ارتكابها. وعليه فإن الإحجام عن القيام بفعل ما أحيانا من قبيل الامتناع عن تقديم الطعام أو الماء للمحتجز أو منعه من الاستحمام أو الاتصال بالعالم الخارجي أن يفضي إلى ألم شديد أو معاناة كبيرة بما يجعلها أفعالا تُعد بمثابة التعذيب. وإذا لم تشكل هذه الأفعال تعذيبا، فسوف تُعتبر بمثابة شكل من أشكال سوء المعاملة إذا ارتُكبت في سياق الحجز.
– الأفعال التي تسبب ألما ومعاناة/ عذابا كبيرين: ينبغي التنويه هنا بعدم وجود مستو مطلق يُطبق على جميع الأفراد لقياس الألم والمعاناة/ العذاب. إذ تختلف ردود أفعال الأشخاص على الأعمال المختلفة التي قد تسبب الألم وذلك بالاعتماد على عدة عوامل من قبيل الحالة الجسدية والعقلية للشخص والفئة العمرية والنوع الاجتماعي والظروف الصحية وما إلى ذلك. وعليه، فقد لا تتسبب صفعة على الوجه في ظل ظروف معينة بألم أو معاناة كبيرة لشخص بالغ، ولكن يُمكن اعتبارها بالمقابل مؤلمة وتحمل معاناة كبيرة لطفل أو شخص بالغ ضعيف يشكو من مرض معين.
ومن الأهمية بمكان أيضا أن نشدد على أن المقصود بالألم والمعاناة هنا لا يقتصر على المفهوم الجسدي بل يشمل البعديْن النفسي والعقلي أيضا.
ب) لماذا؟
الهدف: وفق هذا التعريف، يمكن أن يُعتبر الفعل تعذيبا إذا ارتُكب لتحقيق أهداف عدة. ولا تقتصر هذه الأهداف على مجرد انتزاع الاعترافات من الشخص المعني كما هو معتقد عموما. بل إن ممارسات التمييز التي تتسبب بألم أو معاناة كبيرين تندرج أيضا تحت أفعال التعذيب. والأمر نفسه ينسحب على الأفعال التي تهدف إلى معاقبة شخص أو ترويعه أو إكراهه على الإتيان بأمر ما؛ فهي تندرج تحت بند الأفعال المحظورة عندما تُرتكب بحق شخص محتجز. ولا يُشترط أن تكون تلك الأفعال متعلقة بالشخص مباشرة، بل يمكن ارتكابها من أجل انتزاع إفادة أو اعتراف من شخص آخر. وتشكل كل هذه الأفعال شكلا من أشكال التعذيب.
ومن الأهمية بمكان أن نؤكد على أن هذه القائمة ليست شاملة، حيث يُحتمل وجود أهداف أخرى من شأنها أن تساهم في جعل فعل ما أو الامتناع عن القيام به عملا من أعمال التعذيب.
ج) من؟
يوضح التعريف أن الأفعال تُعتبر أفعال تعذيب عندما يرتكبها مسؤول حكومي بصفته الرسمية أو يحرض على ارتكابها أو يغض الطرف عنها. وعليه، فلا يُشترط أن يرتكب الشخص هذه الأفعال بشكل مباشر. وعندما يعلم المسؤول الحكومي عن ارتكاب فعل دون أن يحرك ساكنا، فيصبح المسؤول حينها متواطئا بما يجعله مسؤولا من الناحية القانونية أيضا. إذ يُحتمل أن يكون المسؤول هو الذي أوعز أو أصدر الأوامر بارتكاب التعذيب أو أبدى موافقته على الأوامر الصادرة أو الأفعال المرتكبة دون أن يقوم هو بشخصه بارتكاب تلك الأفعال. وفي جميع هذه الحالات، يُعتبر هذا الشخص مسؤولا عن ارتكاب التعذيب.
كما أن الدولة مسؤولة عن توفير الحماية للأشخاص من التعرض للتعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو العقوبة التي يرتكبها آخرون بصفتهم الشخصية أو الخاصة.
5. الفرق بين التعذيب وسوء المعاملة
ويحاجج المقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب بالقول أن "عجز الضحية في حالة معينة، هو الذي يجعلها شديدة التأثر بأي شكل من أشكال الضغط الجسدي أو العقلي. والتعذيب، الذي يجسد أخطر شكل من أشكال الإخلال بحق الفرد في سلامة شخصه وفي الكرامة، يفترض حالة تكون فيها الضحية عاجزة، أي تحت السيطرة الكاملة لشخص آخر. وهكذا يكون الأمر عادة في حالة حرمان الفرد من حريته".[1] وعليه، يخلص المقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب إلى أن أحد أوجه الاختلاف الرئيسية للتمييز بين التعذيب وغير ذلك من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (أي سوء المعاملة) تكمن في مسألة عجز الضحية. وإذا لم يكن الشخص محتجزا أو خاضعا للسيطرة الفعلية لشخص آخر، فإن مبدأ التناسبية في استخدام القوة يصبح العامل الرئيس الذي يحدد مشروعية استخدام القوة عملا بأحكام القانون الدولي. ومع ذلك، فإذا احتُجز الشخص أو وقع بحكم الأمر الواقع تحت سيطرة شخص آخر، فيصبح الشخص الأول عاجزا بما لا يتيح تطبيق مبدأ التناسبية. وفي هذه الحالات، يصبح الحظر المطلق المفروض على التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة هو المعيار النافذ.
وثمة تمييز آخر عام تجب مراعاته بين التعذيب من جهة، والمعاملة القاسية واللاإنسانية من جهة أخرى فيما يتعلق بمستوى الألم الناجم عن الفعل المرتكب. ولكن حتى في الحالات التي يكون الألم فيها شديدا، فلا يعني ذلك أنها ترقى حكما إلى مصاف التعذيب إذا لم يتوفر هدف محدد مصاحب لارتكاب القوة (أو الامتناع عن ارتكابها).
6. منع ممارسات التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة وتجريم ارتكابها
وتضطلع الدولة بواجب ضمان سن تدابير تشريعية وإدارية وغير ذلك من التدابير القانونية بما في ذلك التدابير الإدارية لتوفير الحماية بحيث تكفل عدم تعرض الشخص لأفعال تندرج تحت باب التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة على أيدي أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية أو الشخصية.
ولا تقتصر واجبات الدولة على منع التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة وضمان عدم وقوع مثل هذه الممارسات (أي الالتزام السلبي أو غير المباشر)، بل تتضمن أيضا ضمان معاملة الواقعين تحت سيطرتها معاملةً إنسانية مع مراعاة كرامتهم (الالتزام الإيجابي).
ويعني ذلك أنه ينبغي لإجراءات اعتقال الأشخاص ومحاكمتهم واحتجازهم وظروف سجنهم أن تراعي كرامة المحتجزين وتكفل سلامتهم. كما ينبغي التنويه بأن ظروف السجن القاسية التي تستهدف سجينا دون غيره كإجراء عقابي بحقه أو زجه في الحبس الانفرادي لفترات طويلة من الزمن أو حرمانه من العلاج من بين جملة إجراءات أخرى يمكن أن تُصنف كممارسات تعذيب وليس كضروب من سوء المعاملة فقط. وتنبغي الملاحظة أن المقرر الأممي الخاص المعني بمسألة التعذيب يصنف الحبس الانفرادي لفترة تزيد على 15 يوما على أنه حبس انفرادي لفترات مطولة. إذ يزيد الحبس الانفرادي بحد ذاته من مخاطر ارتكاب التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة فضلا عن أثره الجسدي والعقلي على الضحية. بل إن أثر الحبس الانفرادي قد يصل إلى مستويات قاسية جدا أحيانا؛ فإذا استُخدم الحبس الانفرادي لتحقيق الأهداف الواردة أعلاه ضمن تعريف التعذيب، وعندما يفضي إلى إلحاق ألم أو معاناة شديدة بالشخص، فيرقى حينها إلى مصاف التعذيب. وعليه، يجب أن يقتصر استخدام الحبس الانفرادي على الظروف الاستثنائية ولأقصر مدة زمنية ممكنة. ويشكل إيداع الأطفال في الحبس الانفرادي خرقا للحظر المفروض على سوء المعاملة في جميع الحالات وقد يرقى أيضا إلى مصاف التعذيب. كما يرى المقرر الأممي الخاص أنه يتعين حظر الحبس الانفرادي الذي تتجاوز مدته 15 يوما حظرا مطلقا.[2]
وبالإضافة إلى الحرص على حظر التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة في واقع الممارسة العملي، وإنشاء ضمانات وقائية تحول دون وقوع مثل هذه الممارسات، ثمة مسؤولية واضحة تقع على كاهل السلطات الحكومية كي تحرص على حظر التعذيب حظرا مطلقا في النصوص والأحكام القانونية النافذة. وعليه، ينبغي تعريف التعذيب بطريقة تتسق وأحكام المادة 1 من اتفاقية مناهضة التعذيب.
ولا يعني منع التعذيب وسوء المعاملة أن استخدام القوة محظور على أجهزة إنفاذ القانون في جميع الأوقات. فاستخدامها من لدن هذه الأجهزة ليس محظورا على الدوام. إذ يمكن استخدام القوة في حالات الضرورة من أجل تحقيق هدف قانوني مشروع على أن يقتصر ذلك على الطريقة التي تتناسب وحجم التهديد القائم. ولكن ينبغي سن تشريعات تكفل العمل بضمانات وقائية تشمل الفترات السابقة لعملية إلقاء القبض على الشخص وخلالها وفي المراحل الأولى من الحجز والاستجواب وأثناء المحاكمة وعقب صدور الحكم. وينبغي ضمان استحداث ضمانات وقائية واضحة المعالم تحكم سلوك موظفي أجهزة إنفاذ القانون ورؤسائهم بحيث تبين لهم ما هو مباح وما هو محظور توخيا لتفادي ارتكاب التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة.
وتقع على كاهل القضاة مسؤولية ضمان سلامة التحقيق في كل ما يتناهي إلى علمهم بشأن ارتكاب التعذيب أو سوء المعاملة وأن يحرصوا على عدم الاستشهاد بأي أدلة تدفع على الاعتقاد بأنها انتُزعت تحت التعذيب أو سوء المعاملة. وتنص المادة 15 من اتفاقية مناهضة التعذيب على أن "تضمن كل دولة طرف عدم الاستشهاد بأية أقوال يثبت أنه تم الإدلاء بها نتيجة للتعذيب كدليل في أية إجراءات، إلا اذا كان ذلك ضد شخص متهم بارتكاب التعذيب كدليل على الإدلاء بهذه الاقوال". ويوضح المقرر الخاص المعني بمسألة التعذيب في تقريره الذي يركز على قاعدة الاستثناء قائلا: "تنطوي قاعدة الاستثناء على عدة أوجه وتتضمن هدف السياسات العامة المتمثل في إزالة أي دافع يشجع على ارتكاب التعذيب في أي مكان في العالم من خلال ثني أجهزة إنفاذ القانون عن اللجوء إلى استخدام التعذيب. وعلاوة على ذلك، لا تُعتبر الاعترافات وغيرها من المعلومات المنتزعة تحت التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة معلومات تتمتع بالموثوقية الكافية لجعلها مصدرا للأدلة المقبولة في سياق أي إجراءات قانونية. وأخيرا، فإن قبول الاسترشاد بهذه المعلومات يشكل خرقا للحق في مراعاة الإجراءات القانونية حسب الأصول والمحاكمة العادلة".[3] ويستدعي ذلك بذل المزيد من الجهود أثناء مرحلتي التحقيق والاستجواب بغية الحصول على الأدلة التي تعزز من أي اعترافات تأتي لاحقا. إذ لا ينبغي الاستمرار في اعتبار الاعتراف على أنه "سيد الأدلة" أو الدليل الرئيسي.
ويستلزم ذلك وجوب قيام السلطات المختصة بإجراء تحقيق محايد في أقرب فرصة كلما توافرت أسس تدفع إلى الاعتقاد بارتكاب التعذيب في الأراضي التابعة لنطاق الاختصاص القانوني لتلك السلطات (المادة 12 من اتفاقية مناهضة التعذيب). وبالإضافة إلى ذلك، فلكل شخص يزعم تعرضه للتعذيب الحق في تحرير شكوى بهذا الخصوص وأن تقوم السلطات المختصة بمراجعة قضيته بأسرع وقت وبشكل محايد. ويتعين القيام بخطوات تكفل توفير الحماية للمشتكي والشهود من التعرض لجميع أشكال سوء المعاملة أو الترهيب أو الانتقام جراء تقدمهم بشكوى أو إبرازهم أدلة ذات صلة (المادة 13 من اتفاقية مناهضة التعذيب). ومتى ما تم إثبات ارتكاب التعذيب أو سوء المعاملة، يترتب على الدولة حينها واجب جبر الضرر الذي لحق بالضحية. وينبغي أن يكفل القانون الجنائي هذه الإجراءات أيضا وعدم الاقتصار على إدراجها ضمن الدعاوى المدنية للمطالبة بالتعويضات. وينبغي أن يتضمن جبر الضرر التعويضات المالية وإعادة التأهيل أو رد الاعتبار وتوفير ضمانات بعدم تكرار وقوع مثل هذه الحالات أو القضايا.
وثمة أسلوب رئيسي لمنع التعذيب يتمثل في استحداث آليات مستقلة من الخبراء تُخول صلاحية القيام بزيارات مفاجئة لجميع أماكن احتجاز المحرومين من حريتهم، على أن تتمتع بطائفة واسعة من حقوق الاطلاع على المعلومات وإجراء المقابلات مع المحتجزين على حدة. وغالبا ما تضطلع بهذه المهمة المؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان التي يجب استحداثها وفق ما نصت عليه مبادئ باريس.
وثمة آلية أخرى هامة تم استحداثها عملا بأحكام البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب. إذ نص البروتوكول المذكور على تشكيل لجنة فرعية تُعنى بمنع التعذيب وتتمتع بتفويض يخولها زيارة مراكز الحجز في مختلف الدول الأطراف من أجل تحديد ملامح الأوضاع التي يعيشها المحرومون من حريتهم وإعداد توصيات سرية موجهة للسلطات والشروع في حوار معها بشأن سبل تنفيذ تلك التوصيات. وفي لفتة هامة، يشترط البروتوكول الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب على جميع الدول الأطراف القيام بتأسيس "آلية وطنية لمنع التعذيب" في غضون عام واحد من انضمامها للبروتوكول، على أن تكون هيئة وطنية مستقلة بالكامل وتتمتع بنفس الصلاحيات على صعيد زيارة أماكن الحجز ضمن نطاق الاختصاص القانوني التابع للدولة المعنية والحرص على تمكنها من الاطلاع على جميع المعلومات والسجلات ذات الصلة وإعداد التوصيات التي تتمخض عن الزيارات التي تقوم بها.[4]
7. معاقبة مرتكبي التعذيب وسوء المعاملة
يتطلب ضمان معاقبة مرتكبي أفعال التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة عند ارتكابها القيام بعدة خطوات. فيجب أولا تجريم التعذيب وسوء المعاملة وفق أحكام القوانين الوطنية. وتنص المادة 4 من اتفاقية مناهضة التعذيب على وجوب أن تحرص الدول على تجريم أفعال التعذيب في قوانين العقوبات. ولا يقتصر ذلك على ارتكاب أفعال التعذيب وسوء المعاملة وحسب، بل يتجاوزها إلى شمول جميع محاولات الشروع في ارتكاب التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة أو التواطؤ بشأن ارتكابها أو المشاركة فيها. وثمة مسؤولية واضحة تتحملها الدولة من خلال وجوب النص على العقوبات الملائمة لهذه الأفعال آخذة بالحسبان فداحة هذه الجرائم وطبيعتها. ولذلك شدد المقررون المعنيون بمسألة التعذيب غير مرة على وجوب معاقبة التعذيب حاله كحال الجرائم الخطيرة الأخرى التي تعاقب القوانين الجنائية عليها. وعليه فإن النص على اعتبار التعذيب جنحة وليس جريمة، كما هي الحال في معظم البلدان العربية، لا يتسق ومتطلبات اتفاقية مناهضة التعذيب. كما ينبغي أن يستلزم ذلك توصيف أفعال التعذيب كجرائم تعذيب، لا أن يتم إدراجها تحت جرائم أخرى تنص القوانين الوطنية عليها من قبيل جرائم التسبب بالإصابة أو الأذى البدني.
وتقع على السلطات العامة بما في ذلك الشرطة ومدراء السجون وموظفيها والحكام الإداريين وغيرهم مسؤولية ضمان احترام جميع الضمانات الوقائية والتحقيق في أي خروج عليها أو انتهاك لها من خلال هيئة مستقلة وإحالة المتهمين للمحاكمة التي تراعي ضمانات المحاكمة العادلة وفرض العقوبة المناسبة.
8. التعذيب كجريمة دولية
يُعد التعذيب جريمة خطيرة بحيث يتعين على المجتمع الدولي الاضطلاع بمسؤولية التصدي لها بشكل جماعي. وينص القانون الدولي على مسؤولية واضحة تقتضي إما تسليم المتهمين بارتكاب جريمة التعذيب أو محاكمتهم جنائيا. وتُعد هذه المسؤولية مسؤولية عابرة لحدود الدولة. وتشترط المادة 7 من اتفاقية مناهضة التعذيب على كل دولة تعثر على شخص ارتكب على أراضيها أو ضمن نطاق اختصاصها القانوني أفعالا تُعد تعذيبا القيام بتسليمه أو تحريك قضية لدى السلطات المختصة من أجل ملاحقته جنائيا. وتشترط المادة 8 من الاتفاقية وجوب اعتبار أفعال التعذيب ضمن الجرائم الخاضعة لاتفاقيات تسليم المجرمين بين الدول.
وبالإضافة إلى ذلك، يتيح مبدأ الولاية القضائية العالمية للدول إصدار تشريعات تتيح لها ممارسة هذا المبدأ، أو بعبارة أخرى، إصدار قوانين تجيز لها تفعيل ولاياتها القضائية على الجرائم التي تخالف أحكام القانون الدولي حتى لو ارتُكبت بحق أشخاص من غير مواطنيها أو على أراضٍ من غير أراضيها. فالتعذيب جريمة خطيرة وأضحى من الممكن اليوم ملاحقة مرتكبيها في أي بلد عملا بأحكام قوانين الولاية القضائية العالمية.
وأخيرا، ينبغي التنويه بأن المادة 7 من نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية تنص على اعتبار التعذيب جريمة ضد الإنسانية إذا ارتُكبت كجزء من هجوم أوسع نطاقا يستهدف أي مجموعة من المدنيين مع العلم المسبق بوقوع هذا الهجوم. وعلاوة على ذلك، تنص المادة 8 على أن التعذيب وغير ذلك من ضروب سوء المعاملة تشكل جرائم حرب عند ارتكابها كجزء من خطة أو سياسة عامة أو حملة واسعة النطاق لارتكاب هذا النوع من الجرائم. وعندما تُرتكب جريمة التعذيب أو سوء المعاملة في سياق النزاعات المسلحة غير الدولية، فسوف تشكل خرقا لأحكام المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع الصادرة عام 1949. كما يشكل التعذيب وسوء المعاملة خروقات خطيرة لاتفاقية جنيف الصادرة في 12 أغسطس/ آب 1949، وذلك وفق تعريفها الوارد في المادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في أوقات الحرب. وتشكل الخروقات المرتكبة لاتفاقيات جنيف جرائم حرب عملا بأحكام المادة 8 من نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية.