شعرية الفلسفة في أشعار أبي العلاء المعري
بقلم : ليلى الدردوري .
مثل أرخيمدس أطلق الشاعر العراقي (محمد مهدي الجواهري) صرخته التي أيقظت عائلته في جوف الليل، جذلان يردد: " وجدته"، تماما كما ردد أرخيمدس اليوناني عبارة (أوريكا) حين انتهى إلى اكتشاف قانون الطفو في نظريته الفيزيائية، والحال أن الجواهري صرخ حين عثر توا على البيت الشعري الملائم تماما لاستهلال مرثيته في شيخ المعرة، أبي العلاء المعري والتي عنوانها (قف بالمعرة) ومطلعها=
قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
ولئن ظلت الى اليوم قصيدته مرثية رائعة وخالدة في الشعر العمودي فلأنه خلد في ثناياها سيرة ذاتية وذهنية للمعري بل خلد بالشعرالشاعر(المعري) قامة فكرية .وشاميا عالج الدنيا بحكمته، وشاعرا مارس هذه الحكمة قولا وسلوكا .والا ما السر في أن يقاطع المعري أهل عصره حتى لقب برهين المحبسين، فقد عاش منعزلا . زاده عزلته و كوزماء، وحصير، ورفوف تحمل الكتب كما تسرد القصيدة في شعرية عمودية شامخة ومحكمة تلك التي توجت (الجواهري) شاعر دجلة. والملفت أن الجواهري قرأ هذه القصيدة بمناسبة الاحتفاء بذكرى أبي العلاء المعري وكان واضعا يده على كتف طه حسين (عميد الأدب العربي) .
وربما لم يكن من المصادفة أن يستلهم عميد الأدب العربي انداك و هو الأول والأخير علاقته بالمعرفة الأدبية والاذعان لندائها الأخاذ أبا العلاء تحديدا على إيقاع نفسي ارادي أوغير إرادي عجيب ومتناغم لولا خيوط هذه الأبوة الابداعية والمعرفية تلك التي ألفت بين الرجلين لوحة سفراعجاب بعيد و عميق هو في الأصل دليل انصهار المريد بالقطب اية في التوحد على الطريق حتى تعانقا معرفيا ونفسيا الى ذاك الحد كله على جراح العاهة وغزو أرض العقل والقلم .
فأبو العلاء المعري الذي ضجت العراق قبلا لفاجعة وفاته سنة( 449 هـ) 20 آيار، ووقف على قبره أكثر من ثمانين شاعراعراقيا يرثونه، ويودعون فيه (فيلسوف الشعراء) .عاش عصره كواحد من العقول الرحبة يمزج الفلسفة بالشعر-والشعر بالفلسفة بخيط من توقذ الذهن وقوة الذاكرة، ومواهب نظرية فريدة تأتت له، وعلوم واسعة حصلها بجده وبحثه وعماه الذي كان بصيرة هزمت الباصرة، وعزلته التي مكنته من التأليف، كل ذلك أتاح أن يبرز إلى حيزالكتابة تآليف كثيرة ناهزت السبعين ما بين منثور ومنظوم، تتناول مواضيع مختلفة من أدب ولغة وفلسفة ودين واجتماع أهمها في الشعر (سقط الزند) وهو ديوان شعري يضم أكثر من ثلاثة آلاف بيت، نظمه أبو العلاء في صباه وشبابه، وسماه كذلك لأن السقط أول نار تخرج من الزند فشبه شعره الأول به .
ومولد المعري ونشأته في معرة النعمان، بين حمص وحلب، ومنبته أسرة عريقة في القدم يمتد أصلها إلى نبعة تنوخ من قضاعة من قطحان،وولادته سنة 973 م (363 هـ)، دعي أحمد ، وعرف بأبي العلاء المعري، ولم تمض عليه ثلاث سنوات أصيب بداء الجذري فختم عينيه بخاتم العمى، فانطفأ بصره عن جمالات الكون، إلا أن عاهته لم تقعد به عن طلب العلم وتحصيل الشهرة.فقد تلقى المعري مبادئ العلم عند أبيه في المعرة، فاطلع على أسرار اللغة والنحو، ولم ترو تلك الصبابة نفسه، فحمل عصاه، وراح يجوب البلاد ينشد ضالته، يهم إلى حلب حيث رفع سيف الدولة الحمداني لواء النهضة العربيةالثقافية، فيحدث علمائها ويأخذ عن (أبي سعد النحوي) تلميذ (ابن خالويه)، ثم يولي وجهه شطر (أنطاكية) وهي بعد بأيدي الروم، فيزور مكتبتها الشهيرة، فيختلف إلى دور العلم فيها ويسمع ويسأل، ويمر باللاذقية وبعدئد نزل بدير وأخذ فيه آراء كثيرة عن راهب كان له باع في الفلسفة والعلوم الدينية. ثم انتقل إلى (بغداد) التي كانت كما قيل: ( وسط الدنيا والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعة وكبرا وعمارة" و "أهلها ليس عالم أعلم من عالمهم، ولا أروى من نحاتهم، ولا أصلح من قارئهم). فسكن أبو العلاء المعري حيا قديما يدعى (سويقة ابن غالب)، فلايدع بيت علم إلا ولجه، ولا مجلس أدب إلا حضره، ولا بيئة من بيئات الفلسفة إلا اشترك فيها، فعلا له صوت مسموع، وبادره الناس بالتجلة والإكرام لسعة معارفه .
أما عزلته ولزومه بيته فكان بسبب جزعه على وفاة والدته، مما ضاعف سواد الدنيا في عينيه، كما تروي عنه كتب( تاريخ الأدب) .فقد انتقلت القتامة من عينيه إلى قلبه فمال إلى الزهد، ولزم بيته و سمى نفسه (رهين المحبسين) حبس نفسه في منزله، وحبس النظر إلى الدنيا بالعمى، بل سمى نفسه أحيانا( رهين المحابس الثلاثة): العمى 'والمنزل 'ومحبس جسده المتبرم بروحه. وهي الفترة التي شرع فيها في التصنيف، فنظم (لزومياته) وألف (رسالة الغفران) وكتبا أخرى، فملأت شهرته البلاد، وقصده الطلاب، وكاتبه من لم يصل إليه من علماء ووزراء من ذوي الرتب .وكتابه (اللزوميات)، أو (لزوم مالا يلزم) أو (اللزوم) ديوان شعر كبير مرتب على حروف الهجاء، وسمي كذلك لأن صاحبه التزم قبل الروي حرفا إذا غيرلم يكن مخلا بالنظم، وقد نظمه الشاعر بعد عودته من بغداد وقد اكتملت شخصيته ثقافيا وشعريا وفلسفيا. ويمثل كتاب (اللزوميات) حياة عقل أبي العلاء، ووجدانه وخلقه تمثيلا صادقا، و آراءه التي كان يلقي بها إلى طلاب العلم .
هكذا تحول المعري الى قبلة قاصديه، واعظا باللسان والعقل يطبق علمه على عمله، أما آراؤه الفلسفة فهي مأخوذة من أصول قديمة، اقتنع بها، أو هي تأملات في الحياة تستند إلى تجارب وأحداث انتهت به عند أفكار عامة سماتها الحيرة والتناقض.فالمعري عقل كبير يمتلك زمام الذاكرة بالتعمق فيما يسمع من المذاهب المتباينة والآراء الفلسفية المختلفة التي كان يضطرم بها عصره من آراء المعتزلة والمذهب الفاطمي،وفي ذاك كله يعلى من شأن العقل و يحكمه في كل شيء، ولكنه شك وتقلب في معالم طريقه حتى وصل إلى أن الإنسان لا يرى الحقيقة بعد أن أثبت أن العقل نبي وأن ما لا يدرك بالعقل أنما يتحقق بالحدس باعتباره مقاما من مقامات المعرفة العقلانية وفي ذلك قوله =
أما اليقين فلا يقين، وإنمــــــــا أقصى اجتهادي أن أظن أو أحدسا
وفي الميتافيزيقا رآى المعري أن الجسم وعاء دنس للنفس، وأن النفس تحب الموت ولا تخافه،وبذلك فتح الباب على مصراعيه للتأمل في قضية الموت بمنظار الغرابة وهو تأمل لاتزال جولات المعري فيه الى اليوم حديثا ذي شجون من باب ما يثيره من مسالة أن فالنفس تطهر بترفعها عن الجسد وتغتسل من أردانها لتعود الى ثوبها الأصلي بدليل قوله=
جسدي خرقة تخاط الى الأرض فيا خائط الأكوان خطني
والمعري اتخذ من آراء أفلاطون منفرجا، وقطع الشك حول القدر بيقين الجبرية وقال: "إن الإنسان يولد مكرها، ويهرم مكرها، ويعيش مكرها، ويقيم مكرها" وفي ذاك يبدي المعري تناقضا يخرجه عن حدود المحسوس فيه من القلق والاضطراب ما ينعت موقفه بالعدمية
وهو موقف أغرب من أن يقف عنده القارئ ليقتنع فقط أن المعري كان فيلسوفا متشائما على الحد الذي تقف عنده المعرفة السطحية بل ان.أرائه تأملات قوية تعكس الحدود المشتركة بين الأديب و_الفيلسوف بقدرما تفضي الى أن من حق الشاعر أن يتأمل تماما كما يتأمل الفيلسوفعلى ضفاف أم العلوم (الفلسفة) فالمعري فيلسوف شاعر_ وشاعر فيلسوف وفق ما يبرربه قوله وهو يتامل في قوةالقدر على نهج القدريين وهم موقف يخالف الدين لكنه يدل على يدل الاطروحات الفلسفية التي طرحت في عصره وادى فيها بدلوه بصوت جهير =
ولا إقامة إلا عن يدي قــــــــــدر ولا مسير إذا لم يقض تيسير
والمعري يسيء الظن بالأنثى فهي في نظره غادرة متهالكة على لذاتها وهي حبل غي بها يضيع الشرف التليد، وهو يطلب حجاب المرأة وعدم انصرافها إلى التعلم. وهوموقف يطرح تساؤلات حول ان كانت للمعري خلفيات تبرر موقفه القاسي من حواء.أم أنه جزء من موقفه من المجتمع ككل الذي قاطعه المعري فقد اعتبره فاسدا يسود فيه الهوى والجهل والغرور ولا يرى أرباب السلطة إلا أهل مطامع مما لم يبق معه للمثقف إلا الإنعزال وممارسة الفضيلة ومقاطعة الدنيا. والمعري مع كل ذلك رقيق القلب دقيق الشعور، سريع الانفعال، شديد الحياء، وافر الحرص على سمعته، خبيربمواقع النقص في البشر، ومدرك لطرق السخرية بهم، كاره للدنيا، فمزاجه العصبي جعله متقلبا، كثير الشكوك، ميالا إلى التشاؤم، صاحب مواقف من الحياة فقد عاش شاعرا نباتيا زاهدا ، طعامه العدس والتين لا يأكل أصناف اللحوم والصيد والبيض واللبن والعسل وحيوان البحر، ولا يستبيح الخمرة،حريصا على الصلاة يحض عليها.
ترك المعري أعمالا عديدة في النثر كما في الشعرمن أهمها ( رسائل أبي العلاء)، (رسالة الغفران)، ورسالة (ملقى السبيل) وكتاب (الأيك والغصون) ويسمى أيضا (الهمزة والردف) وفيه أدب وأخبار وموعظة وزهد، و(رسالة الملائكة ) وكتاب (الفصول والغايات) وكتاب (معجز أحمد) وهو شرح شعر المتنبي، وكتاب (ذكرى الحبيب) وفيه قال (ياقوت) : (إنه مختصر في غريب شعر أبي تمام) وكتاب ( عبث الوليد) والأشهر أنه شرح لشعر البحتري وتعليقات عليه. وأكثرآثارالمعري ضاعت وبقي قسم منها مخطوط.
وأما (رسالة الغفران) فهي الرسالة التي كتبها المعري إلى علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح جوابا على رسالة بعث بها إليه لتذكير شوقه إلى لقائه، ومسائلا إياه عن عدة مسائل تتعلق بالأدب والفلسفة والتصوف والتاريخ وأمور الدين والفقه والنحو واللغة ، وهي أشبه بكوميديا إلهية مسرحها الجنة / والنار، وهي رسالة تدل على قوة خيال صاحبها، وعظم ابتكاره وسعة معارفه، ملاى بستار التوريات والغريب من الألفاظ. بل هي رحلة متخيلة في العالم الأخر يمر فيها المعري بعدد كبير من الشعراء ورجال الأدب، فيرى في الجنة جماعة ممن كان ينتظر أن يراهم في النار، ويرى في النار جماعة من الذين كان ينتظر أن يراهم في الجنة، فيسأل الأولين عن سبب الغفران، والأخرين عن منع الغفران، فيجيبونه مفصلين رواية حالهم و أسباب الغفران أومنعه ولذلك سمى الكتاب (رسالة الغفران).
أما شعر المعري فهو عناية بايجاد الصورة الشعرية عن طريق المقارنة واستخدام المحسوس، وصقل المعاني فديوانه (سقط الزند) يضم أيضا (الدرعيات) وهي قسم في وصف الدروع وذكر بلائها في تلثيم السيوف وتحطيم الرماح و يشتمل المدح والفخر والرثاء والوصف والغزل إلا أنه لا يخلو من الهجاء والمجون والعبث والصيد، يحاول فيه صاحبه تقليد من سبقه بمجاراة أبي تمام، في استنباط المعاني،(المتنبي) في كثرتها و(البحتري) في دقة التصوير وبعد الإيحاء، أما الرثاء فكان عالما أجاد فيه المعري جامعا بين صدق اللوعة وعمق موقفه أمام قضية الموت وهو موقف شاعر متشائم يستعجل الموت وهي القصيدة الوحيدة المتداولة بين قراء اليوم على أنها لا تقدم للقارئ معرفة كافية بالمعري شاعر وفيلسوفا وتلك تحديداهي داليته الشهيرةفي رثاء أبي حمزة الفقيه الفذ والتي مطلعها:
غير مجد ملتي واعتقــــــــــادي نوح باك ولا ترنم شــــــــاد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحـــــــــب فأين القبور من عهد عــــاد
خفق الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هــــــذه الأجســـــــــــــاد
تعب كلها الحياة فما أعــــــــ جب إلا من راغب في ازياد
ولعل أسلوب أبي العلاء يستحق بطرافته لما فيه من حوار وظرف وفكاهة، قراءة عميقة فهوأسلوب يكشف عن مقدرة الرجل على التعقيد والإغراب اللغوي، والتزام السجع و هي مميزات شعره ونثره، أما معاصروه فكانوا فيه فريقان: فريق يرفعه إلى أسمى مراتب التبجيل والتكريم مندهشين لأقواله وأفعاله، وعمق نظره في الحقائق . وفريق آخر يعتقدون أن آثار الرجل مزيج من حق وباطل وشك ويقين حول الحقيقة الهاربة منه و التي حيرته. ومهما يكن من أمر أبي العلاء فله شأن كبير في تاريخ الفكر العربي القديم، وله من عمق الاعتبار الفلسفي ما بوأه مرتبة عقل كبير، وشاعرية حكيمة لقحت شعوره وشعره بالتأمل الفلسفي العميق،فجاورت فيه المادة بالروح، والتبست فيه علاقة الخير بالشر، في موقف نفاذ ساخر تارة و في موقف الشيخ الفيلسوف تارة أخرى مما لا يسع معه إلا الإعجاب بما خلفه من آثار جليلة ناطقة بعظمة فكره ظلت ولاتزال جديرة بالمدارسة و القراءة بعين ثالثة. .