عناية المرابطين بالتعليم
اهتم المرابطون بالتعليم ونشره منذ اللحظة الأولى التي ارتبطوا بها بدعوة عبد الله بن ياسين، وأخذوا يقبلون على الكتاتيب والمدارس في شغف، واعتنوا بنشرها في أنحاء المغرب، وليس أدل على ذلك من أن ابن تومرت قبل سفره للمشرق قد حفظ القرآن الكريم وجوده وألم بقدر من علوم الدين واللغة بمسجد قريته إيجلي الواقعة بجبال الأطلس ببلاد سوس، مما يدل على انتشار معاهد العلم.
وعندما احتك المرابطون بحضارة الأندلس، تفتحت أمامهم آفاق جديدة في العلم ، وبدأوا يتعلمون من الأندلسيين الذين عرفوا بحبهم للعلم وشغفهم الكبير بالتعلم، فاهتموا بتربية وتعليم أبنائهم منذ نعومة أظافره، ولم يكن التعليم مقصورا على الأولاد، بل شمل البنات أيضا.
المحضرة مدرسة التعليم
ولم يطرأ أي تغيير على النظام الذي كان معمولا به قبل، إذ كانوا يرسلون أبناءهم إلى الكتاب الذي يسمونه بالمحضرة، أو الحضارة أو المسيد؛ لحضور التلاميذ إليه ولكونه يحضرهم ويهيئهم للتعليم المتوسط أو العالي، وكلمة المحضرة أو الحضارة مازالت مستعملة إلى اليوم.
وبرغم اهتمام المرابطين بالتعليم، إلا أنه لم يكن عندهم مدارس خاصة لتلقي العلم كما كان الحال بالمشرق، بل ظل المسجد هو المكان المخصص للدارسة، فإن لم يكن المسجد فبيت الأستاذ نفسه، وطالب العلم هو الذي ينفق على نفسه، وربما ترك عمله الذي يعيش منه من أجل تلقي العلم، يقول المقري: "ومع هذا فليس لآهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم، بل يقرؤون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرؤون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جاريا، فالعالم منهم بارع، لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه، يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، ينفق من عنده حتى يعلم".
وكان ابن عبدون ينهى عن تعليم الأطفال في المساجد، ويأمر بأن يكون لهم محضرة خاصة بهم، وإن كان لابد في المسجد، فكون السقائف، خشية أن يتسبب الأطفال في نجاسة المسجد .
آداب المؤدب والمتأدب في المحضرة
واهتموا بالمحضرة والشخص الذي يقوم بتأديب الصغار، واشترطوا فيه شروطا عديدة، لأنه مسؤول عن ترويض الصغار، فكان يشترط في المؤدب "ألا يكون عزبا ولا شابا، بل يكون شيخا خيرا، دينا عفيفا، وقليل الكلام والشهوة إلى استماع ما لا يعنيه، وأن لا يحضر الجنائز البعيدة، ولا يكثر من البطالة، ولا يهمل الصبيان، ولا يتغيب عنهم إلا لأخد الغذاء والوضوء، ويكون راتبا في مكانه، محافظا على حوائج الصبيان".
وبالرغم من الاشتراط على المؤدب بألا يكثر من عدد المتأدبين عنده، حتى يستطيع أن يؤدبهم ويعلمهم، إلا أن كثيرا من أصحاب هذه الكتاتيب لا يلتزمون بهذا الشرط، وكان الفقيه الزاهد أبو العباس ابن العريف ( ت 536هـ/ 1141م) يرى أن يباح للمؤدب المشهور له بالصلاح أن يعلم عددا كبيرا من الصبيان، إذ يرى في تعليم الصغار القرآن ثوابا وأجرا، فيقول: "إذا علم المعلم من نفسه علم يقين أنه ليس بحريص على حظ نفسه من المال والجاه، وأمكنه أن يستكثر من الصبيان بوجه مباح صحيح فعل من ذلك الغاية، فإن أولى الناس بتعليم الخير أقربهم من القبول".
وكانوا يراقبون تعليم أولادهم ويختبرون حقهم، ولا يقبلون عذر المؤدب إذا أهمل أو قصر ويجلس بعض الآباء من بالقرب من المحضرة ينتظرون خروج أولادهم، ومنهم من يدخل بين الفينة والأخرى يسأل عن شيء مما يشوش على المؤدب ويزعجه، ويرون ضرورة استعمال السيرة في تعليم هؤلاء الصغار حتى يتعودوا من صغرهم على العلم.
ويرى ابن عبدون ألا يؤدب الصبي بأكثر من خمسة أسواط للكبير وثلاثة للصغير، "وتكون من الشدة حسب احتمالهم، وذلك أن إرهاف الحد من التعليم، مضر بالمتعلم لاسيما أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعنف ولقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والغش والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، فسدت معنى الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره، بل وكسلت نفسه عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها، ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين".
مناهج الدراسة عند المرابطين
أما المواد التي كانت تدرس لهؤلاء الصغار في المرحلة الأولى مرحلة الكتَّاب، فهي تعلم القرآن الكريم الذي جعلوه أصلا من التعليم، ثم أخذهم بقوانين اللغة العربية وحفظها وتجويد الخط الهجاء، وحسن الألفاظ في القراءة وتجويد التلاوة، ويأمر من كان كبيرا بالصلاة، ويكتب له التشهد وما يقول في الصلاة، ويعطى بعض الحساب.
أما القاضي أبو بكر بن العربي فكان يرى "تقديم العربية والشعر على سائر العلوم، لأن الشعر ديوان العرب، ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن حتى يرى القوانين، ثم ينتقل إلى دروس القرآن الكريم، فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة، لأنه من الصعب أن يؤخذ الصبي بكتاب الله، يقرأ ما لا يفهم، فيكل ويتعب عن فهم غيره، ثم بعد ذلك ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه، ثم الجدل، ثم الحديث وعلومه، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم متقبلا لذلك، لجودة فهمه ونشاطه وذكائه".
وكان يرى الاقتصار على كتب الأشعرية والعبارات الإسلامية والأدلة القرآنية، أما العلوم الأخرى كالفلسفة وعلم الكلام والكتب الباطنية وغيرها، فهذه تتوقف على الشخص "إذا وجد في نفسه منة أو تفرس من الشيخ المعلم له لذلك فلا بد من توقيفه على صميم مآخذ الألة ظن واتساع درجات العلم، وتمكنه من بحبوحات المعارف، حتى يكون مستقلا بأعباء الشريعة مطيقا على حمل أثقالها بصيرا بالنضال عنها والذب عن حرماتها، إذا احتيج إليه فيها".
ولكن الأندلسيين كانوا يؤثرون دارسة القرآن تبركا وثوابا، وخشية ما يعرض للولد في سنوات الصبا من الأمراض والآفات والقواطع عن العلم، فيفوته القرآن لأنه -مادام في الحجر- منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر، فربما عصفت به رياح الشيبة، فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر، وربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه، وكان ابن خلدون يحبذ رأي ابن العربي في منهجية التسليم ويرى رأيه.
طريقة تربية وتعليم الصغار
ولابن العريف رسالة مهمة في طريقة تربية وتعليم الصغار، يقول فيها: "وليس على المعلم واجبا أن يتولى كل صبي بنفسه في كل أوقاته وأحواله، فإن هذا غلو في حقه، وإنما عليه أن يتولى جميعهم بنظره ورأيه حتى لا ينصرف الصبي، وإلا وقد قد وقرأ غيره إذا أمكنه يتركه إلى الغفلة في بعض الأوقات فلا بد منها، ولابد للمعلم أن يسمح لهم فيها، فإنها العون على وقت الشدة، والمجاهدة له ولهم، ولكن ليكون هم المعلم في تعليمهم أخلاق الديانة من الحياء والتواضع وذكر أخبار الفقر، وعيوب الغنى ونحو ذلك من أوصاف الإيمان، أهم عليه وأوجب إليه من حفظهم لحروف السواد، يلقى ذلك إليهم كلمة كلمة، وينبههم عليها وقتا وقتا، وإذا حضر مخالفة مع مولاه من بلاء نحوه فلا يستر عنهم، وليأخذ معهم في بعض أوقاته من العشيات ما أمكنه من الدعاء وفيما يحضره من حكايات العباد الزهاد والصالحين عندهم، وإحياء لما درس من ذكرهم وآثارهم وتذكرة لنفسه".
والتعليم في نظر بعضهم صناعة تحتاج إلى معرفة ودربة ولطف وكياسة، فهي كالرياضة للمهر الصعب الذي يحتاج إلى سياسة لطف، وتأنيس حتى يرتاض، ويقبل التعليم لأن حفظ القرآن شيء والتعليم شيء آخر لا يحكمه إلا عالم به، إذ إن المرحلة الأولى من التعليم تستلزم الصبر والدربة فكثير منهم لا يرغب في التعلم "وإذا الصبيان لا يبذلون جهدا ولا يفقهون رشادا".
انتشار الكتاتيب في المدن والقرى
وكانت لانتشار الكتاتيب في المدن والقرى أن أقبل الصغار عليها لتلقي العلم، وكان يتعذر أن يوجد فلاح أندلسي لا يعرف القراءة والكتابة في حين أن ملوك أوروبا لا يقدرون أن يكتبوا أسماءهم في توقيعاتهم.
مرتبات المعلم أو المؤدب
والمؤدب أو المعلم الذي يعلم في الحضارة أو المسيد يتفق معه على عقد، ينص فيه على مرتبه وما يشترط عليه، وكانت هذه المرتبات في الغالب قليلة لا تكفي المؤدب، لذلك لا يخلو الأمر من بعض الهدايا التي تقدم إلى المؤدبين في المناسبات وتسمى الفتوح، أو عندما يتم الصبي حفظ القرآن ويحذقه تسمى بالحذقة. ويتفاوت الأجر من مؤدب إلى آخر.
ويرى البعض أن الأجر رمزي وأن الغاية من الجلوس هو تعليم القرآن فابن العريف يؤكد على ذلك بقوله: "وإني وإن كنت آخذ منهم الأجرة فإني لم أجلس لهم من أجلها وإنما جلست لتعليمهم كتاب الله وقوله صلى الله عليه وسلمْ: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وفي موضع آخر يقول: "لأن أجرتهم وإن كانت لفلقتي وحاجتي مردا، فما من أجلها قعدت، فليس من مجيئها أو فقدها مسرة ولا مبرة بل هي في بعض النظر حجاب ومضرة، والمرجو منهم الذي قعدت من أجله هو التعليم".
أما في المرحلة المتوسطة والعالية فكان التعليم يستلزم نفقات كبيرة خاصة أنه كان يوجد بعض الأساتذة الذي يطلبون أجرا كبيرا، مما يشكل عبئا كبيرا على كثير من الطلبة الذين يكونون قطاعا كبيرا من أبناء الطبقة الوسطى وأصحاب الحرف الذين كانوا يرون في التعليم وسيلة إلى فتح الأبواب أمامهم، فالعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة، يشار إليه و يحال عليه وينبه قدره وذكره عند الناس ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة، وما أشبه ذلك.
من أحوال العلماء مع طلبة العلم
وذكر أن أبا بكر الحذب ( ت 580هـ/ 1184م) رئيس النحويين في زمانه دون مدافعة يشتط على طلبة العلم فيما يشترطه عليهم جعلا على إقرائه إياهم ولا يتساهل في تحصيله منهم، شديد المشاحة فيه، مع أنه لم يكن محتاجا إذ كان يعمل بالتجارة والخياطة.
بينما كان هناك أساتذة بارون بالطلبة يشفقون عليهم مقدرين لظروفهم، فعن أبـي عبد الله بن الفخـار ( 511 – 590هـ / 1117- 1193م) الذي عد من أحفظ أهل زمانه للحديث والفقه واللغات والآداب و التاريخ، أنه كان بارا بطلاب العلم مبالغا في إكرامهم، متناهيا في التحفي بهم.
وكان أبو الحسن بن هذيل متى توجه إلى ضيعته ليلة من جزء الرصافة بغرس بلنـسية صحبه طلبة العلم إليها للقراءة عليه والسماع منه، فيحمل ذلك منهم طلق الوجه منشرح الصدر، جميل الصبر، وينتابونه ليلا ونهارا فلا يسأم من ذلك ولا يضجره برغم كبر سنه، حسبما كان عليه أمره معهم من قبل، وأقرأ ببلنسية أكثر من ستين عاما.
وذكر أيضا عن الفقيه أبي أحمد عمر أحمد بن سعيد أن الطلبة كانوا يقصدونه في دارهم وهم أكثر من أربعين طالبا في أشهر الشتاء، فيحتفي بهم ويقدم لهم الطعام كل يوم بعد الفراغ من الدرس، وكان الطعام وافرا، حتى إن هؤلاء الطلبة يبقون على هذه الوجبة إلى اليوم التالي طيلة الثلاثة شهور.
الرحلات في طلب العلم
وإذا سمع طلبة العلم بأستاذ مبرز في علم من العلوم رحلوا إليه؛ ليسمعوا منه ويكتبوا عنه أو ليعطيهم إجازة، وتشعبت هذه الرحلات داخل البلاد وخارجها، وكان الإقبال شديدا من أبناء العدوة في الرحلة إلى الأندلس لينهلوا من التقدم الفكري والحضاري الذي سبقتهم فيه الأندلس، وتصور كتب الطبقات هذه العلاقات التي نشأت بعد التوحيد بين المغرب والأندلس، فتتحدث بإسهاب عن أهل المغرب الذين وفدوا على الأندلس والتحقوا بمدارسها، وجلسوا إلى فقهائها وعلمائها وأدباءها وشعرائها وعادوا إلى بلادهم بذخيرة علمية عظيمة ينفعون الناس، كما أن كثيرا من كتاب وفقهاء وعلماء وشعراء الأندلس شدوا الرحال إلى الحاضرة مراكش يعرضون مواهبهم وخدماتهم، وتجولوا بمدنه يحيط بهم الطلاب، يروون عنهم، ويأخذون منهم ويتعلمون على أيديهم، يمهد لهذا الأمراء السبيل، ويحيطونهم بالرعاية والتكريم.
وكان ملوك وأمراء المرابطين يستقدمون أعلام الفقهاء والعلماء لتأديب بنيهم، وحضور مجالس مشورتهم، وتعليم أهل المغرب وتأديبهم، فرحل الناس إلى أبي عبد الله بن الفرس (501 – 567هـ / 1108م - 1171م) في مرسية من شرق وغرب الأندلس ومن العدوة يتدارسون الفقه، يتذاكرون بين يديه ويسمعون الحديث عليه، ويتلقون كتاب بالقراءات السبع.
وكان لاشتهار أبي عبد الله ذي النون الحجري (505 - 591هـ / 1111 - 1194م) لعلو إسناده ومتانة حفظه أن تسابق الناس في الرحلة إليه للسماع والأخذ عنه، واستدعي إلى حضرة السلطان بالمغرب ليسمع عليه هناك فتوجه إلى مراكش وأقام بها حينا، فحدث عنه عالم من الجلة الأعلام من الأندلس والعدوة.
بينما تنافس الطلبة في الأخذ عن أبي بكر بن صاف كبير المقرئين بمدينة إشبيلية فكان لا يقرئ مع القرآن شيئا من النحو والأدب إلا يوما أو يومين في الجهة. وصار دكان أبي بكر بن علي بن خلف مألوفا للجلسة من طلبة العلم بإشبيلية وكان أكابر شيوخه يقصدونه بموضعه يغتنمون مجالسته للمذكرة معه، والاستفادة منه لتبريزه في حفظ القرآن الكريم واستبحاره في الذكر لمسائله وشدة عنايته بالحديث وروايته.
وهذا أبو الحسين بن سراج يجتمع إليه للسماع الأربعين والخمسين من رؤساء الملثمين ومهرة الكتاب، وأبو عبد الله بن أبي الخصال قال عنه ابن الأبار: "خاتمة أولي البيان وصدر أعيانها العلماء"، وكان من أكمل أهل عصره مروءة وصيانة وأوسعهم مالا وجاها وأكثرهم مهابة".
ومن الملاحظ أن جل الاهتمام في التعليم كان منصبا على قراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث، فللفقه رونق ووجاهة، وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى أن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وكان لقب "الفقيه" يطلق على أي عالم في أي فرع من فروع العلم.
انتشار المكتبات في عهد المرابطين
وساعد على نمو الحركة العلمية النشاط في حركة اقتناء الكتب وتأسيس المكتبات، وانتشرت المكتبات ليس في المدن الكبرى، بل في القرى الصغيرة أيضا، وتنافس الأغنياء في جمع الكتب الجديدة وضمها إلى مكتباتهم، ولم يكن تأسيس المكتبات مقصورا على الأثرياء وحدهم، بل إننا نجد هذه الرغبة أيضا عند الطبقات الفقيرة.
وكان لبعض أمراء المرابطين اهتمام بالعلم وتنافسوا في اقتناء الكتب، فحدثنا ابن الأبار عن المنصور بن محمد بن الحاج اللمثوني بقوله: "كان ملوكي الأدوات، سامي الهمة، نزيه النفس، راغبا في العلم، منافسا في الدواوين العتيقة والأصول النفيسة، جمع من ذلك ما عجز أهل زمانه". ولم يقتصر جمع الكتب على الرجال وحدهم بل شاركتهم النساء في ذلك.
نساء أعلام في زمن المرابطين
ولم تكن المرأة في هذا العصر كما تخيلها كثيرون جالسة مسترخية على الوسائد الوثيرة، تستنشق عبير البخور المتصاعدة من المواقد، قابعة داخل الحريم.
واشتهرت بعض النساء اللائي تتلمذ عليهن طلبة العلم، مثل: الحرة تاج النساء بنت رستم التي قرأ عليها عدٌّ من الطلبة، منهم الفقيه العالم عمر بن عبد المجيد بن خلف، وروى قراءة وسماعا عن أم الفتح فاطمة بنت أبي القاسم الشراط ابنها القاسم محمد بن سليمان الأنصاري الأوسي.
وأخذ عن أم العفاف نزهة بنت أبي الحسين سليمان اللخمي القراءات، وتلا عليها حفيدها محمد ابن احمد بن يحيى بن أبي القاسم سيد الناس، فتلا عليها بالتسع والسبع المشهورة قراءتي يعقوب وابن محيص.
وتلت فاطمة بنت أبي القاسم عبد الرحمن على أبيها القرآن بحرف نافع ثم استظهرت عليه تنبيه المكي وشهاب القضاعي ومختصر الطليطلي، وقابلت معه صحيح مسلم، والسير تهذيب ابن هشام، وكامل المبرد، وأمالي القالي قرأنه على أبي محمد عبد الله الأندرشي الزاهد، وابن المفضل الكفيف، وحدث عنها ابنها أبو القاس بن الطيلسان، وتلا عليها القرآن برواية ورش، وقرأ عليها ما عرضت على أبيها من الكتب وسمع عنها الكثير، وأجازت له بخطها.
وكان في إمكان المرأة أن تتعلم الخط والنحو والشعر، ولم يقتصر هذا الأمر على نساء الطبقة العليا أو الدنيا واحترفت مئات النساء نسخ المصاحف وكتب العبادات التي يكثر الإقبال عليها، وكان يبعثنها فيما بعد إلى الوراقين لما يمتاز به عملهن من إتقان كبير، ومهارة في الكتابة، هذا فضلا على أنهن أرخص أجرا.
نسخ المصاحف
والقرآن الكريم كان أكثر استنساخا، إذ يقرأه التلاميذ في الدارس ويتلوه المصلون في صلواتهم ويقرأ ويرتل في المساجد إلى غير ذلك، وكان نسخ المصاحف أحسن الكتب من حيث الشكل، وتجويد الخط، وفخامة الخط، وفخامة التغليف وهناك دائما نساخون متفرغون بصفة خاصة لنسخ المصاحف سواء أكان ذلك لعظم الربح الذي يدره عليهم كتابتها أو تبركا بها.
إقبال أمراء المرابطين على العلم
وأقبل الأمراء والنبلاء على الثقافة والعلم، كما أقبل عليها عامة الملثمين، وتحدثنا كتب التراجم التي سجلت أعمالهم عن بعضهم مثل: المنصور بن محمد بن الحج بن داود بن عمر الصنهاجي اللمتوني الذي سمع بمدينة قرطبة من أبي محمد بن عتاب وأبي بحر الأسدي، وبمرسية من أبي علي الصدفي، ومع أنه من رؤساء لمتونة وأمرائها فقد برع في معرفة الأخبار والسنن والآثار، وصحب العلماء للسماع، بل نافس الدواوين والأصول العتيقة، وجمع من ذلك ما لم يجربه أحد من أهل زمانه، وهو فخر صنهاجة، ليس مثله.
وتتلمذ الأمير عمر بن إمام بن معتز الصنهاجي أمير ألمرية على الشيخ أبي يعلى الصفدي، وبلغ من علمه أن سمي بالفقيه القائد.
وأخذ الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين على نفس العالم أبي علي الصفدي أثناء إمارته على مرسية. وأخذ الأمير ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني عن شيوخ ألمرية، ووصل إلى مكة، وحدث الناس بالأندلس، وسمع منه الناس بإشبيلية.
بينما نجد أمير المسلمين على بن يوسف بن تاشفين استجاز له عبد الله الخولاني جميع رواياته لعلو سنده، وبرع الأمير أبو بكر سير الصنهاجي في العلم وتبحر فيه، فلما توفي كتب على شاد قبره، هذا قبر الشيخ الفقيه الخطيب الحاج أبي بكر الصنهاجي.
وذاع صيت طائفة من هؤلاء الملثمين في أواخر القرن الخامس وأوائل السادس الهجري، مما يدل بوضوح على أن الملثمين لم يكونوا أعداء للعلم أو الثقافة فاشتهر منهم زاوي بن مناد بن عطية الله بن المنصور الصنهاجي المعروف بابن تقسوط الذي كان من أعلام مدرسة دانية وجلة شيوخها، وخلوف بن خلف الله الصنهاجي الذي سمع بقرطبة وولي قضاء غرناطة، وغيرهم كثير.
المصــادر و المراجـــــع:
1- ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة، نشر عزت العطار القاهرة 1956م.
2- ابن الأبار: التكملة، طبعة مدريد 1886م.
3 - ابن الأبار: معجم أصحاب أبي يعلى، نشر فرانتيسكو كوديرا مجريط 1985م.
4- ابن بشكوال: الصلة من تاريخ أئمة الأندلس، الدار المصرية للنشر 1966م.
5- ابن خلدون: المقدمة، لتحقيق ج. علي عبد الواحد وافي، القاهرة 1968م.
6-ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب. تحقيق د.شوقي ضيف ط، 3، القاهرة 1978م.
7- الزجالي: أمثال العوام من الأندلس، تحقيق د. محمد بنشريفة فاس 1975م.
8- ابن عباد الرندي: الرسائل الصغرى، تحقيق بولس نويا، بيروت 1973م.
9- ابن عبد الملك المراكشي: الذيل والتكملة سفر 5، 6، تحقيق د. إحسان عباس بيروت 1976,1965م.
10- ابن عبد الملك ا لمراكشي: الذيل والتكملة، سفر 8، تحقيق د. محمد بنشريفة الرباط 1984م.
11- ابن عبدون: رسالة في الحسبة، نشر ليفي بروفنال، المعهد العلمي الفرنسي، القاهرة 1955م.
12- ابن العريف: السعادة وتحقيق طريق الإرادة، الخزانة الحسنية الرباط.
13- ابن العربي: العواصم من القواسم، تحقيق د.عمار الطالبي، نشره بعنوان أراء أبي بكر بن العربي الكلامية، الجزائر 1974م.
14- ابن القاضي المكناسي: جذوة الاقتباس في ذكر من حل بمدينة فاس، الرباط 1973م.
ابن القطان: نظم الجمان، تحقيق د. محمود مكي، تطوان.
15- المقري: نفح الطيب، تحقيق د.إحسان عباس، بيروت 1968م.
16- د.إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي، بيروت.
17- د. حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين، القاض 1957م.
18- د.حسين مؤنس: وثائق جديدة عن دولة المرابطين، صحيفة المعهد المصري بمدريد 1954م.
19- خوليان ريبيرا: المكتبات وهواة الكتب في إسبانيا، ترجمة د. جمال محرز مجلة معهد المخطوطات العربية مجلد 4، ص 1، 1958م.
20- د.سامي مكي العاني: دراسات من الأدب الأندلسي، بغداد 1978م.
المصدر: عصمت عبد اللطيف دندش: معاهد العلم والتعليم بالأندلس في عهد المرابطين، مجلة دعوة الحق - العدد 259 محرم - صفر 1407/ أكتوبر 1986م.
قصة الإسلام