(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا)
يتحدّث القرآن الكريم عن قضيّة نفسية هي من أهم وأخطر القضايا في حياتنا.. وهي أزمة الأنانية وعبادة الذات..
إنّ معظم مشاكل الإنسان سوى كانت نفسية ا وسياسية او اقتصادية اوإجتماعية، وحالات الصراع والخلافات في المجتمع والأُسر والعشيرة تعود إلى الأنانية وعبادة الذات، والعقل التسلطي..
إنّ حب الذات غريزة مركوزة في أعماق الإنسان، وهذا الحب والإعتناء أمر مباح عندما يكون التعبير عنه صحِّياً وسلميّاً.
فمن حق الإنسان أن يحبّ الخير لنفسه، ويدفع الأذى والضرر عن نفسه ، ويُحقِّق لها التفوّق وان يكون مقبولا في المجتمع.. غير أنّ هذا الحب للذات يتحول عند بعضنا إلى حالة مرضية، وعدوانية، واستحواذ على كل شيء، وإلغاء للآخر وحرمانه وعدم الاعتراف في وجوده كانسان له مقوماته الاجتماعية ، و حتى يحرم من حقوقه المشروعة، ووضع العراقيل والموانع أمامه؛ لئلا يرتقي إلى مستوى منافسته أو التفوّق عليه.. بل تتحول الأنانية إلى عداء والإفتراء ونكذب حتى نبعده عن الساحة التي نعيش بها سويا
إنّ هذه السلوكية المرضية هي من عبادة الذات التي تحدث عنها القرآن في خطابه للرسول الكريم (ص):
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا).
إنّ الكثير من الناس لا يعبد الله.. لا يتّبع ما أراد الله، لا تتحرّك ذاته وإرادته بإرادة الله، بل يدور حول محور ألانانية التي يمتلكها وتربى عليها..
إنّ عبادة الذات خطر على المجتمع ، فأينما وُجِدَ الأنانيون تحوّلوا إلى أزمة ومشكلة..
إنّ مظاهر التعبير عن عبادة الذات كثيرة.. ويتحدث القرآن عن الحسد كأحد مظاهر الأنانية.. والحسد كما يُعرِّفه علماء الأخلاق هو: (تمنِّي زوال نعمة من مستحقّ لها).
إنّه تمنِّي زوال نعمة الآخرين؛ ليكونوا أقل منه، أو ليتراجعوا، ويخسروا ما عندهم، فيكونوا مثله، إن كان فاقداً للصحة أو الولد أو المال أو الجاه، أو الموقع الاجتماعي... إلخ.
ويتحدث القرآن عن تجسيد الأنانية في الذات البشرية في قصة يوسف (ع)مع إخوانه:
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).
كما يتحدّث لنا القران الكريم عن مظاهر الأنانية والحسد التي تجسّدت في قابيل الذي قتل أخاه هابيل، لا لجرمٍ جناه هابيل، غير أنّه تُقُبِّل منه عمله (نذره الذي نذره)، فتفوّق على قابيل.. فدعت انانية قابيل ان يقتل أخاه هابيل..
إنّ أبشع صورة لمأساة الأنا وعبادة الذات يرويها لنا القرآن نموذجاً حيّاً للأنانية البشعة.. قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة/ 27-30).
وبهذه الحوادث التأريخية التي تخبرنا عن الانانية التي يمتلكها الانسان وحسده، وتحوّل الأنانية والحسد إلى انتقام وتصعيد وتسقيط وتهميش .. يقدِّم لنا القرآن تحليلا للنفس البشرية الأمارة بالسوء.. بل وكم يُسجِّل تاريخ الصراع السياسي من حوادث القتل والإغتيال والإسقاط حتى بين الأُسر والعشيرة والكيان الواحد الذي اصيب بهذا المرض سوى كان عشيرة او مجتمع او كيان سياسي وما شابه ذلك ..
وعندما تستحكم سيطرة الأنا والأنانية على الذات، وتُصاب الشخصية بمرض النرجسية وعبادة الذات، يتحوّل سلوك الانسان إلى ردود أفعال، ، عندما يستولي الغرور والكبرياء على ذاته وتصرفاته، فيتحوّل إلى طاغوت في الى غرور الى حقد في أعماقه.. حتى وإن كان لا يملك إمكانية الطاغوت بمعناه التسلطي والإمكاني..
(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).
(وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).
ولخطورة هذا المرض النفسي والتخبط بالسلوك ، نرى القرآن يُحذِّر من هذا ويرشد الشخصية الى افعال سلوكية تضمن سلامة المجتمع والعشيرة والافراد.. و الدعوة إلى حُبِّ الآخرين، وحُبّ الخير لهم، كما هو حبّ الذات، وحبّ الخير للذات.. بل والتسامي نحو الإيثار، وتقديم الآخر على النفس..
يحذرنا القران الكريم من إسقاط الآخرين والإفتراء عليهم وحرمانهم.
إنّ ثقافة القرآن تُربِّي الإنسان على التوازن بين حُبّ الذات وحبّ الخير للآخرين.. إنها تسعى لتحرير الإنسان من الأنانية والنرجسية، وربط هذا التوازن بالإيمان. إنّ الرسول محمداً (ص) يُعبِّر عن ذلك بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه"، وقوله: "خيرُ الناس مَن نفع الناس". والجدير بالذكر ان هذا اصبح لا يعمل به في مجتمعنا واوكد هذه الملحوظة على مجتمعنا العشائري نرى ان البعض يسعى بكل طاقاته الى اسقاط الاخر اما بالدعاية او التزلف الى اهل الوجاهة والسلطة .
بل ويدعو القرآن، ويُثقِّف على الإيثار، وهو تقديم الغير على النفس.. نقرأ هذه الدعوة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).
إنّ القرآن الكريم يعرض نماذج وحوادث واقعية قد اتّصفت بالإيثار وتجردت من الأنانيّة.. إنّه يعرضهم مثلاً أعلى للإقتداء بهم، واستلهام سيرتهم.. والقرآن يدعو إلى العمل التطوّعي.. يدعو إلى الأمر بالمعروف.. إلى النهي عن المنكر، إلى مساعدة الآخرين والتعاون معهم، وإلى بذل المال والإنفاق التطوعي في سبيل الله، إلى الإندماج بالجماعة والتفاعل مع المجتمع.. إلى الدِّفاع عن المظلومين والمستضعفين وحماية الحق، ولو كلّف الإنسان ذلك حياته وما يملك، وبذا يُحرِّر الذات من الأنانية والإهتمام بالآخر.. والإنسان المستقيم و... فهو يؤمن أن ما يُقدِّمه من تواضع وايثار ، و يتنازل عن مصالحه الخاصة يُهتم بمصلحة مجتمعه وعشيرته .
(وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).