كشفت صحيفة "هآرتس" عن ان رئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء افيف كوخافي، ابلغ الجهات الدولية المعنية، في واشنطن ومقر الأمم المتحدة، بأن "إسرائيل كانت ترى إلى ما قبل أشهر أن استمرار نظام الأسد يخدم مصلحتها، لكن الخط الرائد الآن هو أن إنهاءه (نظام الأسد) سيخدم بشكل أفضل المصلحة الإسرائيلية".

اعقب هذا التقرير حديث متزايد على السنة القادة الإسرائيليين، وعلى رأسهم ايهود باراك، عن ضرورة تطبيق النموذج اليمني في سوريا، والحفاظ على مؤسسات الدولة السياسية والاستخبارية والعسكرية.بغض النظر عن التعبير الذي اوردته على لسان كوخافي حول مصلحة "إسرائيل" إلى ما قبل اشهر، أي إلى حين بدء الأحداث قبل نحو 14 شهرا، كيف يمكن فهم الموقف الإسرائيلي السابق واللاحق؟
الواقع أنه بالرغم من الدور الاستراتيجي لنظام الأسد في دعم المقاومة في لبنان وفلسطين، وتحديدا فيما يتعلق بالهزيمة التي تعرضت لها "إسرائيل" في حرب العام 2006، وبدعم حزب الله الذي مكَّنه من بناء قدرات استراتيجية جعلته عنصراً أساسياً في معادلة إقليمية تمتد من لبنان وسوريا وصولاً إلى الجمهورية الإسلامية في إيران. إلا أن منطلقات الموقف الإسرائيلي العملاني من نظام الأسد كانت تنطلق أيضاً من إعتبارات إضافية أخرى. تتمثل بحقيقة أنه منذ ما بعد حرب تشرين في العام 1973، التزم النظام السوري بالهدوء التام على جبهة الجولان، بكل ما يعنيه ذلك من نتائج وأبعاد إستراتيجية بالنسبة للدولة العبرية.
أيضاً، كان تقدير الاستخبارات ومجمل المؤسسة السياسية، أنه بالرغم من تحالف نظام الأسد مع الجمهورية الإسلامية ومع حزب الله، إلا أنه في النهاية نظام علماني ومصلحته.. تقتضي مصلحته ـ ودائما من منظور إسرائيلي - عقد اتفاقية تسوية مع "إسرائيل".
بموازاة ذلك كان تقدير المؤسسة الإسرائيلية، الاستخبارية والعسكرية والسياسية، إلى ما قبل بدء الاحداث أن إسقاط الأسد ينطوي على نوع من المخاطرة التي قد تؤدي إلى: تدهور الوضع الأمني على جبهة الجولان، ووصول أطراف قد لا تتبنى توجه تسووي فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. فضلا عن الخوف من الفوضى وما قد ينتج عنها عليها من مخاطر.
ونتيجة ذلك، كان للمخاوف لدى صانع القرار في تل ابيب، من مرحلة ما بعد الأسد، حضورها القوي في منظومة العوامل التي ساهمت في ردع الإسرائيلي عن الذهاب بعيدا في توجيه ضربات قاسية إلى النظام السوري.. على خلفية دعمه لحزب الله في لبنان والمقاومة في فلسطين. وبالطبع إلى جانب عوامل ردعية أخرى وأساسية تتمثل بالقوة الصاروخية وغير التقليدية التي يمتلكها، فضلا عن تحالفاته الإقليمية.. وممن عبَّر عن جانب من هذه العوامل الرادعة كان رئيس مجلس الأمن القومي السابق (ورئيس شعبة التخطيط والعمليات في الجيش الإسرائيلي في مرحلة سابقة) اللواء احتياط غيورا ايلاند بالقول "المعضلة الرئيسة في الحرب مع سورية هي، كيف تستعمل القوة بحيث يزداد الثمن.. قادتها في الوقت نفسه إلى درجة أن يختاروا استعمال السلاح الكيميائي... ثمة صعوبة في تحديد ما هي العملية التي تفضي إلى أقصى مس بالعدو لكنها لا تُقرِّب استعمال نوع سلاح يكون القصد إبعاده خارج دائرة التهديدات أي السلاح الكيماوي. أرى ان هذه هي المعضلة الرئيسة في حال الحرب مع سورية". (تقدير استراتيجي/ مركز ابحاث الأمن القومي/ آب 2010).
وعليه، وضعت "إسرائيل" لنفسها هدفا في الصراع مع نظام الاسد تمثَّل بتطويعه وإضعافه، مع الرهان ايضا على المتغيرات السياسية التي قد تجبره للقبول بتسوية سياسية مع "إسرائيل"، وفق شروط الأخيرة، بدلا من اسقاطه.
وعليه، يمكن القول أن "إسرائيل" كانت تنطلق في موقفها العملاني من موازنة بين خطورة ومفاعيل الدور الداعم للنظام لكل من حزب الله والمقاومة في فلسطين، وبين نتائج وتداعيات إسقاطه بل ومحاولة إسقاطه.. لكن مع توالي التطورات بدأت الخلافات تتغلغل وسط اجهزة التقدير الإسرائيلي حول حقيقة توجهات الاسد.. لجهة موقفه من التسوية مع "إسرائيل".. وبرز من يقول على أن الرئيس الاسد يخدع إسرائيل، عبر تبني تكتيكي لخيار التسوية مع "إسرائيل" بهدف تفادي ضغوط دولية وإقليمية.. وإلا في حقيقة الأمر فهو يناور ولا يريد عقد تسوية معها.. (وعلى رأس هذا التيار كان رئيس الموساد مائير داغان)، فيما بقيت الاستخبارات العسكرية متمسكة إلى فترة غير بعيدة بأن نظام الأسد يريد تسوية مع "إسرائيل" ولكن ليس بأي ثمن.. وبأن المسألة مرتبطة بما يمكن أن يُقدِّم له.. وداخل هذا الجهاز أيضاً برز من يقول بان الفرصة بدأت تضيق حول هذا الخيار أيضاً..
وبالتالي يصبح مفهوماً الحديث الإسرائيلي، خلال المرحلة السابقة، عن أن مصلحة تل أبيب تكمن في عدم سقوط نظام الأسد، وأن ذلك لم يكن إلا من منطلق الخوف من البديل والتداعيات الاستراتيجية لمسار إسقاطه وما قد يترتب عليه من نتائج من الصعب التحكم بها.. وليس كما كانت هي حال النظام المصري.. الأمر الذي وضعها أمام واقع معقد ومتداخل، وفرض عليها معادلات محددة في الصراع على جبهتها الشمالية... إلى حين حصول التطورات الاقليمية الاستراتيجية..
يرى الكيان الغاصب أن "سقوط نظام الأسد سيشكل ضربة قاسية لمحور إيران - حزب الله - حماس"
في ضوء ما تقدم، يصبح من نافلة القول أن مصلحة "إسرائيل" الابتدائية تتمثل باستبدال نظام الاسد بآخر يضمن الهدوء في الجولان ويكون جزء من تحالف عربي غربي في مواجهة إيران وحزب الله..، وتحديداً بعد استنفاذ الرهانات على تطويعه..
لكن ما جعل هذا المطلب أكثر حيوية والحاحا بالنسبة للكيان العبري هو التطورات التي شهدتها المنطقة، خاصة وأنه كان يفترض بأن ينعكس الانسحاب الأميركي من العراق، في ظل نظام حليف لإيران فيه، تعزيزا للوضع الاستراتيجي لسوريا ونظام الأسد في مواجهة "إسرائيل".
كما أن سقوط نظام مبارك، وتبلور مسار يتراوح بين كونه مجهول الأفق، في أحسن الأحوال بالنسبة لـ"إسرائيل"، وبين تحول مصر إلى قوة إقليمية معادية لـ"إسرائيل" وما بينهما من احتمالات.. كل ذلك شكَّل عوامل ضاغطة ودافعة نحو ضرورة تغيير نظام الأسد على الأقل بهدف احتواء جانب من المفاعيل الاستراتيجية لهذه التطورات التي شهدتها وتشهدها المنطقة.
في ضوء كل ذلك، كان من الطبيعي أن تتبدل تقديرات الكيان العبري وتتجاوز مخاوفه السابقة.. كما لم يكن مفاجئا أن تشهد المؤسسة الإسرائيلية، السياسية والاستخبارية، حالة من التخبط والضياع في تقدير الموقف ومسار التطورات.. مع بداية الأحداث في سوريا.. لكن أول من كسر جدار الصمت الإسرائيلي الرسمي، حول الموقف من النظام السوري كان وزير الحرب ايهود باراك الذي اعتبر بعد نحو شهرين على بدء الأحداث في سوريا (آذار 2011) أن على "إسرائيل" "عدم الخشية من حصول تغيير في سوريا".. ثم أكد بعد مضي نحو خمسة أشهر من بدء الأحداث أيضاً، على أن "سقوط نظام الأسد سيشكل ضربة قاسية لمحور إيران - حزب الله - حماس"، وهو ما شكل في حينه مؤشراً على أن "المحظور الإسرائيلي لم يعد حاضراً في اعتبارات الإدارة الأميركية بالدعوة إلى إسقاط الرئيس الأسد، بل على العكس قد يكون الاعتبار الإسرائيلي أصبح دافعاً إضافياً للسعي إلى إسقاطه"، ثم أتى كشف صحيفة "هآرتس" خلال الشهر الماضي (ايار 2012) عن أن رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء افيف كوخافي، توجه إلى واشنطن ومقر الأمم المتحدة وأبلغ الجهات المعنية بأن "إسرائيل" التي كانت ترى إلى ما قبل أشهر أن إستمرار نظام الأسد يخدم مصلحتها، بات "الخط الرائد الآن لديها هو أن إسقاطه (نظام الأسد) سيخدم بشكل أفضل المصلحة الإسرائيلية". بل وصل الأمر، بحسب ما ذكرت صحيفة "يديعوت احرونوت" (8/6/2012)، إلى إرسال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي اللواء يعقوب عميدرور إلى موسكو في محاولة لإقناع المسؤولين الروس بالتخلي عن دعم الرئيس الأسد والسماح بإصدار قرار في مجلس الأمن الدولي للتدخل في سوريا.