السؤال الحساس وهو لماذا أجاز الحسين - عليه السلام - لاتباعه واصحابه الذين خرجوا معه وانضموا اليه ان يتفرقوا عنه وهو في أمس حاجه الى الاستكثار من الاعوان . وفعلآ تفرقوا عنه قبل لقاء العدو حتى لم يبق معه الا القليل الذي لم يتجاوز النيف وسبعين رجلآ بعد ان كانوا حوالي الستة آلاف رجل تقريبآ . فهل هذا سلوك ثائر يريد الاستيلاء على الحكم من اجل الاصلاح ؟؟
نقول أجل ان الحسين - عليه السلام - ثائر لاجل احقاق الحق ونشر العدل والخير . والحق لا يتحقق من طريق الباطل والعدل لا ينتشر بواسطة الظلم والخير لا يعطى على ايدي المبطلين وبكلمه واحده العسل لا ينال من الحنظل . ان الحسين - عليه السلام - اراد السلطه لاستخدامها في مصلحة المجتمع ولخدمة الدين والاسلام فلا يجوز ان يطلبها بطريق خداع الجماهير والتغرير بهم واغفالهم عن حقائق الامور وواقع الحوادث ورفع الشعارات الكاذبه والدعايات المضلله .
فسياسة الحسين - عليه السلام - هي بعينها سياسة ابيه علي - عليه السلام - وجده النبي - صل الله عليه واله - وهي سياسة الاسلام والحق التي ترتكز على الصراحه والصدق والواقعيه وتأبى الكذب والانتهازيه واللف والدوران .
ثم ان الستة آلاف رجل الذين كانوا مع الحسين - عليه السلام - كان اكثرهم من الاعراب واهل الاطماع والمرتزقه الذين يتبعون القاده طمعآ في الغنائم والمناصب والارزاق خرجوا مع الحسين - عليه السلام - والتحقوا به في اثناء الطريق علمآ منهم بان الحسين - عليه السلام - قادم على بلد قد دان له اهلها بالطاعه والولاء وبايعه اهلها بالاجماع وسوف ينتصر بهم حتمآ ويصلون باتباعه الى مغانم وارباح . وكان الحسين - عليه السلام - يعرف ذلك في نفوسهم فلما تجلى غدراهل الكوفه وظهر انقلابهم ولم يبق هناك امل في انتصاره بهم على الاعداء بل اصبحوا هم لاعداء والمحاربين له وذلك بقتلهم سفيره مسلم بن عقيل (رحمه الله ) وقتل رسوليه عبد الله بن بقطر وقيس ابن مسهر الصيداوي رحمهما الله تعالى . عند ذلك تغير مجرى الثوره السابق وتحولت من حرب هجوميه متكافئه وجهاد منظم مفروض حسب المقاييس الشرعيه . الى حرب فدائيه استشهاديه ليس فيها امل في الانتصار العسكري وانما المقصود منها التضحيه والشهاده لغرض التوعيه وتنبيه الراي العام ولفت الانظار الى حقيقة الحكم القائم وواقع الزمره الحاكمه وعزلهم عن الامه المسلمه فيحبط بذلك مؤامرتهم العدوانيه ضد الاسلام ومصلحة المسلمين .
قال العقاد في ص 193 ( وعلى هذا النحو تكون حركة الحسين (ع) قد سلكت طريقها الذ ي لا بد لها ان تسلكه وما كان لها قط من مسلك سواه ... حيث وصل الى حد لا يعالج بغير الاستشهاد . )
لذا فقد كره الحسين - عليه السلام - ان يترك اتباعه غافلين عن هذا التطور وجاهلين لهذا التحول المصيري الهام خوف ان يباغتوا بالمصير الذي لا يرغبون فيه فيسلموه عند الوثبه . ويهزمون من الميدان عند اللقاء ويتفرقون عنه ساعة بدء المعركه . وفي ذلك وهن كبير يصيب معنوية القائد ويضعف مقاومة المخلصين من اصحابه . وان تلك الاجازه لهم بالانصراف اذا شاءوا كانت من الحسين - عليه السلام - بالنسبه لهم اولآ للاختبار والامتحان . وثانيآ بمثابة مخض وغربله فاستخرج الزبده منهم وهم نيف وسبعون رجلآ كل منهم مخلص للحسين - عليه السلام - بايعوه على الموت واختاروا الشهاده على الحياة والقتل على البقاء في الدنيا . ولقد اختبرهم مرارآ فما وجد فيهم الا الاشاوس يستانسون بالمنيه دونه استئناس الطفل بلبن امه . حسب شهادة الحسين - عليه السلام - بحقهم . قالوا له في بعض تلك الاختبارات :
يا سيدنا لو كانت الدنيا لنا باقيه وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الاقامه فيها . فقال لهم الحسين - عليه السلام - اعلموا انكم كلكم تقتلون ولا يفلت منكم احد . فقالوا الحمد لله الذي من علينا بشرف القتل معك ولا أرانا الله العيش بعدك ابدآ . وقال مسلم بن عوسجه الاسدي ( رحمه الله ) : انحن نتخلى عنك وبماذا نعتذر الى الله في اداء حقك . اما والله لا افارقك حتى اطعن في صدورهم برمحي واضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجاره حتى اموت معك . وقال له سعيد بن عبد الله الحنفي : والله لا نخليك حتى يعلم الله انا قد حفظنا غيبة رسوله فيك . اما والله لو علمت اني اقتل ثم احيا ثم احرق حيآ ثم اذرى يفعل بي ذلك سبعين مره لما فارقتك حتى القى حمامي دونك وكيف لا افعل ذلك وانما هي قتله واحده . ثم هي الكرامه التي لا انقضاء لها ابدآ . وقال له زهير بن القين البجلي ( رحمه الله ) : والله لوددت اني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل الف مره وان الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن انفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك . وهكذا تكلم الباقون من اصحابه بكلام يشبه بعضه بعضآ فجزاهم الحسين - عليه السلام - خيرآ .
اجل والله جزاهم الله خيرآ لقد سجلوا بموقفم هذا رقمآ قياسيآ خالدآ وضربوا اروع مثال للتضحيه في سبيل الكرامه وللعمل الفدائي الصحيح .
فهم قدوة كل عمل فدائي جهادي مثمر ومخلص ولا يمكن ان ينجح اي عمل فدائي ما لم يكن الحسين - عليه السلام - واصحابه مثله الاعلى وقدوته المثلى . اخلاص للقضيه واستصغار لكل غال وعزيز في سبيلها ودون تحقيقها .
واخيرآ نقول : ان الحسين - عليه السلام - حافظ على قدسية ثورته ونبل نهضته وشرف تضحيته بذلك العمل . اي بان ابعد عنها الاوباش واهل الاطماع والانتهازيين عملآ بمضمون الآيه الكريمه : { وما كنت متخذ المضلين عضدآ } وعملآ بالقاعده المعروفه ( فاقد الشيء لا يعطيه ) اجل ان شرف كل ثوره يتوقف الى حد كبير على شرف الثائرين وحسن نواياهم واخلاص نياتهم .ثم ان الاصلاح لا ياتي على ايدي غير الصالحين . وهذا اعظم الدروس نفعآ للاجيال في ثورة الحسين - عليه السلام - .
والحمد لله رب العالمين