فن التوقيعات في الأدب العربيد. قحطان صالح الفلاحالتوقيع أن يصيب المطر بعض الأرض ويخطئ بعضها ،والأثر الذي يتركه الرحل على ظهر البعير من الدبر ووقع ظنه على الشيء : قدره وأنزله ،وكذلك الموقع (كاتب التوقيع) يؤثر في الخطاب ،أو الكتاب الذي كتب فيه حساً أو معنى ،وقيل : إن التوقيع مشتق من الوقوع لأنه سبب في وقوع الأمر الذي تضمنه ،أو لأنه إيقاع الشيء المكتوب في الخطاب أو الطلب ،فتوقيع كذا بمعنى إيقاعه فكأنه سمى توقيعاً ،لأنه تأثير في الكتاب ،أو لأنه سبب وقوع الأمر وإنفاذه ،من قولهم : أوقعت الأرض فوقع ،ثم اكتسب المعنى الاصطلاحي ،الذي نحن بصدده .
التوقيعات فن أدبي بديع من فنون النثر العربي ،ارتبط بالكتابة منذ ازدهارها وشويعها ،والتوقيع في اللغة يطلق على عدة معان ،حقيقية ومجازية ،ذكرتها معجمات اللغة ،يفهم منها أن التوقيعات مشتقة في اللغة من التوقيع الذي هو بمعنى التأثير ،يقال :
أما التوقيع في الاصطلاح فيرتبط بالمعنى اللغوي الذي ذكرناه ،يقول ابن خلدون ومن خطط الكتابة التوقيع ، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله ،ويوقع على القصص المرفوعة اليه أحكامها ،والفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه «.
فالمراد بالتوقيعات إذن هو التعليق على الرسائل ،وبيان رأي ولي الأمر ،أو من يمثله من الوزراء والكتاب في قضية ما بعبارة أخرى : تلك الأقوال البليغة الموجزة التي يكتبها المسؤول في الدولة ،أو يأمر بكتابتها على مايرفع إليه من قضايا أو شكاوى ،متضمنة ماينبغي اتخاذه من إجراء نحو كل قضية أو مشكلة وهي بهذا المفهوم شبيهة بتوجيه المعاملات الرسمية «التأشيرات» في زمننا .
ويكون التوقيع - عادة - في أسفل الرسالة ،وفي بعض الأحيان خلفها أو في أْعلاها ،بمداد مغاير للون الكتاب أوالرسالة ،جواباً على مايكتبه رعايا الدولة ،فيما يحزنهم من خطوب ،ومايعروهم من مظالم ،يوكون الرد أمراً أونهياً ،ترغيباً أو ترهيباً ،بذلاً أو منعاً ،وتسمى الظلامات والشكاوى هذه باليراع ،تشبيهاً لها برقاع الثوب ،كما تسمى بالقصص على سبيل المجاز ،من باب تسمية الشيء بما ينطوي عليه ،إذ تحكي قصة الشاكي وظلامته .
ولعل أقدم ماوصل إلينا من توقيع في تاريخ الأدب العربي ماكتب به أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما حينما بعث للصديق خطاباً من دومة الجندل يطلب أمره في أمر العدو ،فوقع إليه أبو بكر :( ادن من الموت توهب لك الحياة ) فلم يعرف عرب الجاهلية التوقيعات الأدبية ولم تكن من فنون أدبهم ،لسبب يسير وهو أن الكتابة لم تكن شائعة بينهم ،كذلك لم تعرف التوقيعات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ،لأن الكتابة أيضاً لم تكن شائعة.
ثم شاعت التوقيعات في عهد عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ،لشيوع الكتابة ،وامتد هذا الشيوع بصورة أوسع في عصر بني أمية ،ووصلت إلينا نماذج عدة لتوقيعات خلفاء بني أمية ،فمن توقيعات معاوية بن أبي سفيان ماكتبه إلى ربيعة بن عسل اليربوعي يسأله أن يعينه في بناء داره بالبصرة باثني عشر ألف جذع ، فوقع إليه : أدارك في البصرة أم البصرة في دارك ؟
إذن التوقيعات فن أدبي نشأ في عصر صدر الإسلام ، وليس صحيحاً ما ذهب إليه بعض مؤرخي الأدب العربي من أن التوقيعات فن أدبي عباسي ، أخذه العباسيون من الفرس .
ولا شك في أن التوقيع أسلوب تعبيري يتفق وخصائص الفطرة العربية ، من حيث الإيجاز ، وقوة البيان ، وشدة العارضة ، وسرعة الخاطر ، وحضور البديهة .
ثم توسعوا في هذا الفن في العصر العباسي ، وأضحى مهنة لها أربابها وديوانها الخاص ، وقد هيأت لذلك ظروف العصر المختلفة .
وقد وصلت إلينا توقيعات عدة للخلفاء العباسيين ، منها ما وقع به المأمون في قصة متظلم من أخيه ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون )
وقد برع فيها من الوزراء والكتاب في العصر العباسي يحيى البرمكي وأولاده ، ولا سيما ابنه جعفر ، ومن توقيعاته ان رجلاً رفع إليه رقعة يسأله الاستعانة به ، وكان جعفر يعرفه ويخبره ، فوقع : قد رأيناك فما أعجبتنا
وبلوناك فلم نرض الخبر
ومما يجدر ذكره ، أن التوقيع يحتاج إلى مهارة في السياسة والإدارة ، فضلاً عن قوة التعبير ، ولذا كان ثمة احتفاء بالتوقيعات ، لما تتميز به من قيمة بلاغية عالية ، وسرعة بديهة في اتخاذ القرار .
وقد كانت توقيعاتهم آية قرآنية ، أو حديثاً نبوياً ، أو مثلاً سائراً ، أو بيتاً شعرياً ، أو إبداعاً ذاتياً من عند الكاتب .
ومن التوقيعات ببيت شعر ما كتب به قتيبة بن مسلم الباهلي إلى سليمان بن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي يتهدده بالخلع ، فوقع سليمان في كتابه : زعم الفرزدق ان سيقتل مربعاً
أبشر بطول سلامة يا مربع
وأغلب التوقيعات عبارات موجزة ، لا تزيد في طولها على سطر واحد ، ومنها ما لا يتعدى الجملة أو الجملتين .
ومنهم من يبسط القول في توقيعه ، فيبلغ به بضعة أسطر
وخلاصة القول أن التوقيع فن أدبي عماده الإيجاز وإصابة المعنى وشدة الإيحاء والتكثيف ، وقوة البيان .
ومن هنا تكمن قيمته الفنية والجمالية ، إذ ( البلاغة في الإيجاز ) كما يقال.