ثم قررت الانتحار !!
______________
ذات يوم بائس ..
كنت أتصفح تلك الصحيفة المحلية ..
صحيفة يمكن نعتها بالطراز المخملي ..
فغالبها نفاق كاذب ومداهنة ملونة ..
فهذا ينعي ذلك التاجر المليونير ..
والاخر يطبل لذلك المسؤول اللص ..
وهذا يهني امير البلاد الذي حتما لن يرى هذه التهنئة وحتى لو رأها لما اعار أسم المهني أدنى أهتمام أو متابعة ..
أنها الحياة أيها الاصدقاء ..
نفاق ..
كذب ...
ولصوص تعيش وتصعد على حساب الشرفاء ..
لذلك كنت اتلذذ وانا ارى الناس يستخدمون هذه الصحف كورق للف الساندوتشات او حتى كسفرة للاكل والشرب ...
في ذلك اليوم البائس نفسه ..
كان الاعلان الذي شدني هو أعلان نعي ..
والاغرب أن هذا الاعلان تكرر في الصحيفة حتى كاد يشغل نصف صفحاتها ..
أعلان ينعي جارنا التاجر الكبير والمليونير المعروف في وفاة شقيقه الاكبر ....
كانت اعلانات النعي تحمل من قوة المعاني وشدة العبارات مايجعلك تشعر للحظة وكأن المتوفى هو اخر المبشرين بالجنة ...
فأعلان يصفه بالشهيد ..
واخر يجيز نعته بالقائد البطل ..
ومعتوه اخر يقسم أن الكرم ومعان الطيبة ماتت بموت هذا الفارس المغوار ..
ياااااااااااااااااااااه ...
كنت أشد شعري بجنون ..
فما اراه لايدهشني فقط ...
بل يغيظني حتى أني شعرت أن حمامي الصغير قد أصبح قبرا يحتويني ..
خرجت بسرعة ..
وللحظات نسيت أنني من فرط الغضب لم أغتسل ...
ثم خرجت وانا لازال امسك بتلك الصحيفة ..
كنت أضحك هذه المرة ..
جارنا المليونير الذي وجهت له اعلانات النعي لم يكن قد شاهد شقيقه المعني منذ اكثر من 15 سنة ..
وشقيقه المتوفى كان يعيش في امريكا طوال هذه الفترة ..
وسبب موته هو رصاصة اطلقها رجال الشرطة عليه وهو يقوم بتهريب اكثر من 22 كيلو من الافيون الى احدى الولايات ......
حتى موته لم يكن يهم اهله كثيرا ..
وشقيقه المليونير قبل 4 ايام وتحديدا يوم خبر وفاة شقيقه كان يحتسي الخمر مع اصدقاءه في فيلا خاصة بعيدة عن الانظار .....
أذن لماذا كل هذا النعي ؟؟
وهل هناك حزن أصلا ؟؟
والاغرب .. هل هناك مايستحق الحزن لاجله ؟؟
بدأت أقاوم دمعه من عيني وانا اجلس أمام باب منزلنا ..
تلك الدمعة كانت تختلط بمزيج من القهر والحزن والالم ...
ففي الجهة المقابلة من منزلنا ..
كانت تقطن اسرة طيبة ..
لايزال الحزن والصمت يلفا منزلهم حتى انك تشعر للحظة وكأنه خاوي ..
هذه الاحزان بدأت قبل شهرين ..
حينما أستشهد عبدالرحمن الابن الاكبر لهم في احدى عمليات مطاردة لمجموعة من المطلوبين ..
ذهب عبدالرحمن للقاء ربه وترك خلفة زوجة حزينة و4 اطفال لايزال اصغرهم يسأل والدته كل يوم أين أبي ؟؟
مات وهو يلبي النداء ..
ويدافع عن اعراض المسلمين ومقدساتهم ..
مات ولم يتذكره احد ..
لم نرى له اعلانات النعي في الصحف ..
بل حتى لم يتذكر احد ان يخفف على اسرته وقع الخبر ..
ليس لشي ..
ولكن لانهم مساكين ...
لم يملكوا من الارصدة مايملكه جارنا المليونير ..
للحظات شعرت أن قدمي تجمدتا وانا أحاول الوقوف ...
كانت هذه المتناقضات تكاد تفجر راسي ..
اضحك تارة ...
واكاد ابكي اخرى .....
قررت ان اتجول في الحي قليلا ..
فربما اخفف عن نفسي مااعتراها ..
مررت بعامل هندي يحاول اصلاح دراجته ...
وما ان راني حتى ترك اصلاح دراجته وهرب الى داخل منزله المتهالك ...
ابتسمت ..
فهو يظنني معتوه واريد سرقة حافظته ..
عبرت زقاق ضيق في اخر الحي ...
ثم استوقفني حديث يصدر من احدى الشبابيك ...
كانت ام تنتحب وهي تقول لاطفالها ..
اليوم ابجيب لكم خبز ولبن ورز ..
ثم لاح لي صوت اطفال كان احدهم يقول : يمه ,,, انا ابغى بسكوت !!
والام تردد : وبسكوت
ويقاطعها طفل اخر : وانا يمه ابغى عصير واسكريم ..
والام يتبدل صوتها الى نحيب وهي تجيب بصعوبة : وعصير واسكريم ..
تسابقت دمعاتي للنزول ...
ياااااااااااااااااااااه ..
انها عائلة ابا سعد ..
الرجل الذي دهسه احد المفحطين قبل سنتين وتم سجن المفحط بعدها سنة ثم اخرجوه بدعوى ان ابا سعد كان يقف اسفل الرصيف ...
ياااااااااااااااااااااااه ..
مات الاب ..
وخرج القاتل ..
وتمت تبرئة القاتل من دم هذا المسكين ..
بل حتى نسي الجميع هذه المراة المسكينة واطفالها ..
من لهم ؟؟
من يطعمهم ؟؟
بدأت أبكي كطفل ....
لماذا يارب ؟؟
أتختبر صبرنا ؟؟
امن العدل ان يبقى هؤلاء هكذا ؟؟
للحظات كنت اردد اسئلة ربما تجعلكم تقيمون علي الحد ..
قاطع حالتي هذه وصول سيارة فارهة الى بداية ذلك الزقاق ..
ونزل منها سائق اسيوي ..
بدأ بفتح مؤخرة السيارة ثم اخرج اكياس كبيرة يبدو انها تحمل الكثير من متطلبات المعيشة ..
ارز وسكر والكثير من اللحوم والحلوى ..
ثم اخرج ظرف صغير ظرف صغير ..
والتقط جواله وبدأ كأنه سيتصل ..
وصلت الى السائق وقلت له : لمن هذه الاشياء ؟؟
قال : هي لمنزل الاستاذ ناصر وابناءه ..
ارسلتها مالكة المنزل الذي اعمل به ..
ثم بدأ يسالني وهو يشير الى منزل بجانبنا : اليس هذا هو منزل ناصر ؟؟
لم اجيبه ..
بل طار فكري بعيد ..
الاستاذ ناصر ..
هذا النصاب والمرابي ؟؟
يملك في ارصدته مايفوق الـ 7 ملايين جمعها من المراباة والنصب على الناس ببيع السيارات المتهالكة ويواصل تمثيليته على الناس ويصتنع الفقر ..
مابال هؤلاء العالم ؟؟
الم يعد هناك خوف من الله ؟؟
يعمل بوظيفة تدر عليه مايقارب الـ 12 الف شهريا ..
ناهيك عن مصادر الدخل التي يملكها من طرقه الاخرى ..
ومع ذلك يقبل صدقات الناس ...
بدأت نار تغلي بداخلي وأنا أحـ ...
" هل هذا بيت الاستاذ ناصر " ؟؟
انتزعتني هذه العبارة من حالتي والسائق يكررها منتظرا اجابة ..
ابتسمت له وقلت : لا
بل هذا ......
واشرت الى منزل ام سعد ....
شكرني السائق وساعدته في حمل الاشياء الى باب منزلهم ..
كنت اطرق الباب وانا انادي : ام سعد .. ام سعد
ردت من خلف الباب : من ؟؟
قلت : افتحي الباب وخذي هذه الاشياء من شخص صديق لابو سعد رحمه الله ...
اتاني ردها يحمل عزة الدنيا كلها : الحمد لله مستورة ياولدي شوفوا ناس تستحق هذه الصدقة ..
تاثرت كثيرا لردها واردفت : ياام سعد .. هذه الاشياء ليست صدقة انها دين في رقبة هذا الشخص ..
ردت باستغراب : اي دين ؟؟
قلت : هذا الرجل كان يشارك ابا سعد بقطعة زراعية صغيرة والرجل يعطيكم من نصيبكم ..
وبعد طول حوار اقتنعت ام سعد وادخلت الاشياء واخذت ذلك المظروف الذي كان يحوي مبلغا لااعرف كم هو ؟؟
ثم بدأت اطبطب على كتف السائق وانا اقول له :
هذه عائلة محتاجة ..
وابو ناصر يسافر كثيرا ..
وانت دائما حاول ان تعطيهم الاشياء دون ان تجرحهم بل اكتف بوضعها وطرق الباب وانصرف ..
شكرني وهو يظن ان هذا البيت هو بيت المرابي ابا ناصر فعلا ..
ودعت السائق وانا لاازال مندهشا .....
ماهذا ؟؟
لماذا فقدت الدنيا اسس العدل ....
لماذا صارت قوانين " شريعة الغاب " هي من تحكمنا ؟؟
الكبير ياكل الصغير ..
والقوي يتلذذ بفرم الضعيف ...
الظلم فاح ..
انتشر ..
اكلت حقوق الضعفاء ...
وانتهكت الصدقات وقوت المحتاجين ..
عدت لبيتي ..
صعدت الى اعلى سطح منزلنا ...
كانت الساعة تقارب السادسة والربع ..
اذن قرب وقت اذان المغرب ..
نظرت من تلك القمة الى كل المنازل المحيطة بنا ....
وتساءلت ...
هل الجميع الان سواسية ؟؟
حتما لا ...
الان سيرفع اذان المغرب .....
هناك من سياكل ..
وهناك من سيواصل الصيام ..
لانه ببساطة لايجد ماياكل ..
تذكر عندما تفطر ...
ان هذا الصيام فرض لتعرف كيف يشعر الفقير والمحتاج ؟؟
انه يعاصر الجوع في وقت انت تتناول الذ الاصناف ..
انه يقاتل العطش في وقت انت ترتشف اطيب المشروبات ..
والله ثم والله ثم والله لنسأل جميعا عن هؤلاء ...
يااااااااااااااااه
ماذا سأقول حينها ...
يارب أني منهم براء ...
وقذفت بجسدي من اعلى منزلنا ....
نعم ...
سأنتحر ......
فانا كل يوم كنت اموت قهرا لاجل هؤلاء ...
ولااطيق العيش بعد اليوم ....
الساعة 4 عصرا ......
صحوت من نومتي ...
يااااااااااااه ..
فاتتني صلاة العصر ...
ماهذا الحلم الغريب ..
انتحار ؟؟
اعوذ بالله ..........
خرجت من منزلي وقابلت صديقي سالم ..
يريد مني ان اقرضه 5 الاف ووعد بان يردها لي 8 الاف
صفقة جيدة ..
لايهمني من يقول انها ربى
الا يكفي اننا متراضيان ؟؟
عدت للمنزل ............
وما ان وصلت حتى وجدت جيراني ملتفين حول منزلي ..
ماذا بهم ؟؟
ياااااااااااااااااااااااه .....
هناك شخص ميت ..
يبدو انه سقط من اعلى منزلي ؟؟
ولكن كيف ؟؟
من هو ؟؟
اخترقت جموع المتفرجين .............
وبدأت اقلب جثة ذلك الميت ...
ولكن ........
ماهذا ؟؟
انه انا ................
كيف يحدث ذلك ؟؟؟؟
بدأت اصرخ : كيف يحدث ذلك ؟؟
ماذا حدث له ياجماعة ؟؟
لم يكن يجيبني احد ...
لانهم ببساطة لم يكونوا يشاهدوني ...
ولم تكن لديهم القدرة حتى ان يسمعوني ...
او بالاصح لانني لم اكن موجودا اصلا ..........
فما كان موجودا مني وقتها لم يكن سوى ..
بقايا ..
بقايا تتعذب ...
ولايشاركها احد هذا العذاب ...
الى يوم الدين !!
انتهت !!