شهدت بداية القرن السابع الهجري الزحف المغولي الرهيب على العالم الإسلامي, بقيادة السفاح جنكيزخان, الذي اجتاح كل المناطق المحيطة به في سرعة خاطفة, والتهم في طريقه الصين وممالك العالم الإسلامي في آسيا, وواصل أبناؤه من بعده سياسته التدميرية, وحينما مات لم يدري أن أحد أحفاده سيدخل دين الإسلام, بل ويحارب قومه من أجل رفعة الدين الذي حاربه جنكيز خان طويلا.
في عام 616 هجريا - 1219 م دخل وفد من تجار التتار بلاد السلطان محمد بن خوارزم شاه, سلطان الدولة الخوارزمية, والتي كانت مجاورة لمملكة جنكيزخان في منغوليا بشمال الصين. كان دخول التجار بداية أنهار الدماء التي سالت بين المسلمين, بعدما قبض عليهم أحد أتباع خوارزم شاه وقتلهم لشكه أنهم جواسيس للمغول.
ودارت حربا رهيبة بين الطرفين, لم يثبت فيها خوارزم شاه رغم قوة جيشه, وانساب المغول في بقاع العالم الإسلامي يقتلون ويحرقون..حتى ظن البعض أنها النهاية للإسلام والمسلمين. وكان من هؤلاء المؤرخ الشهير ابن الأثير صاحب كتاب "الكامل في التاريخ", فقد كتب يقول بعدما أعرض سنوات عن ذكر فظائع المغول في بلاد المسلمين:
"لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها, فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام و المسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسياً".
وكان ابن الأثير محقا فيما ذهب, فغارات المغول لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية من الفظاعة والسفك والدماء التي سالت, حتى أن المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت كتب يقول " ولسنا نعرف أن حضارة من الحضارات في التاريخ قد عانت من التدمير الفجائي ما عانته الحضارة الإسلامية على أيدي المغول".. وبرر اعتقاده هذا بأن الجرمان الذين دمروا الدولة الرومانية كانوا يكنون بعض الإجلال للدولة المحتضرة التي يعملون على تدميرها, أما المغول فقد أقبلوا وارتدوا في 40 عاما لا أكثر, ولم يأتوا ليفتحوا ويقيموا, بل جاءوا ليقتلوا وينهبوا ويحلمون ما يسلبون إلى منغوليا.
وقد حاول المسلمون رد هجمة التتار ما استطاعوا, وبذل الكثير منهم أرواحهم في وقف زحفهم المدمر, وكان من هؤلاء المجاهدين السلطان علاء الدين بن محمد بن خوارزم شاه, الذي جمع شمل جيش دولته من جديد ودخل في معارك دامية مع التتار, وحقق للمسلمين نصرا غاليا رفع من روحهم المعنوية, وأثبت فيه الحكمة الخالدة بأن اتحاد المسلمين كافي لتحقيق النصر.
ولم تدم فرحة النصر طويلا, بعدما دب الخلاف في الجيش لاختلاف قواده على الغنائم, فتفرق شمله, وفي هروب علاء الدين المخزي تفرق عنه بعض أهله, ومنهم ابن أخته الأمير محمود.
ولعل الله أراد بذلك خيرا, فقد باع تجار الرقيق محمود في أسواق النخاسة, لثري من أثرياء الشام, ومنه انتقل إلى مصر, ودارت الأيام دوراتها, وحقق للإسلام نصر عين جالوت, وكأن الله أراد أن تكون بداية زحف المغول على يد بيت خوارزم شاه, وبداية نهايتهم على يد أحد أبناء نفس البيت.
ولم تقف حكمة الله عند ذلك, فقد دخل الإسلام بيت جنكيزخان..وأسلم حفيده بركة خان..بل وحارب قومه المغول من أجل الإسلام.
قصة دخول بركة الإسلام
قبل وفاته؛ قسم السفاح المغولي مملكته الواسعة بين أولاده الأربعة, فكان نصيب ابنه الأكبر "جوجي" بلاد روسيا وبلغاريا والقوقاز, وورث بركة خان عرش أبيه عام 652 هجريا, أي قبل سقوط بغداد بأربع سنوات.
كان إسلامه صدمة كبيرة بالنسبة لباقي أفراد البيت المغولي الحاكم, وأيضا لمؤرخي الغرب فيما بعد, فهي المرة الأولي في التاريخ التي يدخل فيها المنتصرين دين المغلوبين.
فقد انساب بين المغول دعاة من المسلمين, يشرحون ويبسطون لهم تعاليم الإسلام. وكان من هؤلاء الدعاة, وكما يخبرنا المؤرخ بيبرس الدوادار, الشيخ نجم الدين كبرا, الذي علا صيته, وبث مريديه إلى المدن العظام ليظهروا بها شعائر الإسلام.
وذهب أحد أتباعه إلى الأمير بركة خان "فاجتمع به ووعظه وحبب له الإسلام وأوضح منهاجه, فأسلم على يده واستمال بركة عامة أصحابه إلى الإسلام.. وأسلمت زوجته واتخذت مسجدا من الخيم يحمل معها حيث اتجهت ويضرب حيث نزلت".
وحينما أسلم بركة خان أقام منار الدين, وأظهر شرائع الإسلام, وأكرم الفقهاء, والعلماء وأدناهم ووصلهم واتخذ المساجد والمدارس بنواحي مملكته وأخذ الإسلام جل عشيرته .
كفاح من أجل الإسلام
حاول بركة خان وقف الزحف المغولي على بغداد, فدخل في حروب مع هولاكو الذي نقم عليه إسلامه وطمع في الاستيلاء على أراضي مملكته, فسار بركة للقائه, ولقي هولاكو هزيمة هلك فيها أغلب جيشه. ومن هذه السنة – 653 هجريا – نشأت الحرب بين الطائفتين مغول القبيلة الذهبية بقيادة بركة خان ومغول فارس بقيادة هولاكو وأبنائه من بعده.
وبعد سقوط بغداد, استغل بركة خان وفاة خان المغول الأكبر, وأشعل نار حرب أهلية بين أفراد البيت المغولي في نزاعهم على منصب الخان, وقد تسبب هذا الصراع في عودة هولاكو من الشام مسرعا, مصطحبا معه أغلب جيشه الجرار. تاركا بعضه مع قائده "كتبغا" الذي لاقي الهزيمة على أيدي المسلمين في معركة عين جالوت الخالدة 658 هجريا, والتي أنقذت العالم من الزحف المغولي المدمر.
واستمر بركة خان في حروبه مع هولاكو وأبنائه, وعمل في نفس الوقت على مد العلاقات الدبلوماسية السلمية مع المماليك في مصر, وزوج ابنته من السلطان الظاهر بيبرس, وأنجبت غلاما أطلق عليه أبيه اسم جده بركة خان.
وتطورت العلاقات بين الجانبين, فأمر بيبرس بالدعاء للخان التترى على منابر القاهرة والقدس والحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة.
دولة المغول في القوقاز
استمر بركة خان في خدمة الإسلام حتى وفاته في عام 665 هجريا, بعدما أطمئن على استقرار الإسلام بدولته. وامتد سلطان قبيلته "القبيلة الذهبية" من تركستان وحتى روسيا وسيبريا , وقد حكموا موسكو نفسها , ولم يكن ينصب أميرها إلا بعد موافقتهم , ويؤدي الجزية لسلاطين المغول.
لكن تبدلت الأحوال سريعا , وبدأ الروس يلتهمون أراضي المسلمين. كان سر تفوق الروس يكمن في استغلالهم للفرقة بين المسلمين التتار, الذين استقروا في ثلاث جماعات متنافسة متنافرة, في سراي وقازان والقرم.
وجاءت النهاية على يد قيصر روسيا إيفان الرهيب, ويحدثنا المؤرخ الأمريكي ويل يورانت عن قصة نهاية دولة المغول:
" في عام 1552 قاد إيفان 150 ألف رجل إلى أبواب قازان وحاصرها لمدة خمسين يوماً. ولكن المسلمين - وكان عددهم 30.000 - قاوموا وصمدوا في عناد تحدوهم الروح الدينية وهاجموا أعداءهم في غارات متكررة، وعندما أسر نفر منهم وعلقوا على أعواد المشانق أمام الأسوار سدد إخوانهم المدافعون إليهم السهام صائحين: "خير لهؤلاء الأسرى أن يموتوا بأيدي بني وطنهم النظيفة من أن يهلكوا بأيدي المسيحيين الدنسة"..
ولما وهنت عزائم المحاصرين وأصابهم القنوط بعد شهر من الإخفاق، أرسل إيفان إلى موسكو في طلب صليب عجيب، فما أن ظهرت هذه الأعجوبة أمام جنوده حتى ثارت حميتهم من جديد، وكان الله يحارب مع الجانبين. وبث مهندس ألماني الألغام في الأسوار فانهارت، واندفع الروس إلى المدينة صائحين "الله معنا"، واعملوا الذبح في كل من لم يباعوا بوصفهم رقيقاً..
وروى أن إيفان ذرف الدمع حسرة على المغلوبين قائلاً: "إنهم ليسوا مسيحيين، ولكنهم رجال"..
وبدأ على الفور يمارس الروس سياستهم المعتادة بتفريغ المدن من سكانها الأصليين.. وتوطين المسيحيين.. فاسكن إيفان فلول المسيحيين في إطلال المدينة..
واحتفلت روسيا بالنصر، كما احتفلت فرنسا بصد المسلمين في معركة تور سنة 732 ميلاديا".
المسلمون في روسيا
الدكتور قاسم عبده قاسم, أستاذ التاريخ الوسيط في جامعة الزقازيق, يحدثنا عن بلاد بركة خان والتي تحمل حاليا اسم "تتارستان", فقد زارها منذ 4 سنوات ضمن وفد من جامعة الدول العربية للاحتفال بالعلاقات المصرية التتارية.
عدد سكانها 3.5 مليون نسمة, وعاصمتها قازان، وسكانها يدينون بالإسلام السني؛ إلى جانب عدد من الروس المسيحيين, فهي إلى الآن تعد من الدول التابعة لروسيا, لكن يسمح لسكانها بتداول اللغة التتارية, كما أنهم يعتزون باللغة العربية.. وهم يمقتون التعصب في الدين ويحبون المصريين.
ويواصل المؤرخ المصري: اكتشفت خلال إجرائي بحث تاريخي عن العلاقات بين التتار والمسلمين أن حي الحسينية في القاهرة هو حي تتري, فعندما قدم وفد من التتار المسلمين على السلطان المملوكي الظاهر بيبرس أسكنهم في حي الحسينية, وقال عنهم المقريزي أنهم اشتهروا بالحسن والفتوة, وربما كان ذلك سبب اشتهار الحي بالفتوات.
وعن عدم معرفة المسلمين بتاريخ أخوانهم في تلك البقاع, قال قاسم أنه نفسه لم يكن يعلم بوجود مكان اسمه قازان, وأرجع هذا الجهل بسبب خضوع تلك البلاد لسيطرة روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي لفترة طويلة, إلى جانب الاستعمار الغربي الذي احتل البلاد العربية والإسلامية ومزق العلاقات بين المسلمين وبعضهم البعض.
وعن معاناة سكان تتارستان تلك الحكم الروسي, قال قاسم أنه رأى مساجد كانت مغلقة بأوامر من الحكومة السوفيتية؛ والتي منعت أيضا تداول الأسماء العربية والإسلامية. لكن بعد تخفيف القبضة عليهم تسموا بالأسماء العربية, وأكثر الأسماء تداولا هو محمود, ومن بين كل 10 شباب يحمل 8 منهم اسم محمود, لاعتقادهم أن الظاهر بيبرس من مغول القوقاز , وأنه كان يحمل نفس الاسم.
ويرجح الدكتور قاسم هذا الاعتقاد, فقد تزوج بيبرس من ابنة بركة خان, كما أرسل إليهم فقهاء وعلماء لتعليمهم الدين الإسلامي, وعندما أنجب سمي ابنه باسم جده
منقووووووول