خطبة المتقين
رُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِين عليه السلام يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَتَثَاقَلَ عليه السلام عَنْ جَوَابِهِ، ثُمَّ قَالَ:
يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ قَال عليه السلام:
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.
فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ:
مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ.
غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ.
نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلَوْلَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.
عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ.
فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ.
قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا.
أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأَكُفِّهِمْ وَرُكَبِهِمْ وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ.
وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ.
فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ: أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحَزْماً فِي لِينٍ وَإِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ وَعِلْماً فِي حِلْمٍ وَقَصْداً فِي غِنًى وَخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَصَبْراً فِي شِدَّةٍ وَطَلَباً فِي حَلَالٍ وَنَشَاطاً فِي هُدًى وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ، يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ، يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.
إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ.
قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى.
يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ.
تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ.
الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ.
إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.
يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ.
بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ.
فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ.
لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ.
يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ.
لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَلَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَلَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَلَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ.
إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ.
نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ.
بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزَاهَةٌ وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَعَظَمَةٍ وَلَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ.
قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا، فَقَالَ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا.
فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ عليه السلام: وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا وحبيبنا أبي القاسم المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
عبر النظرة العامّية إلى المفاهيم الأخلاقية، يعتقد كثير من الناس أنهم بغنى عن التعلّم، بيد أن ساحة الأخلاق تنطوي على دقائق كثيرة لا ينبغي إهمالها. لقد تمّ اختيار خطبة المتقين في نهج البلاغة نصّا لهذه الجلسة العلمية، ولابدّ لي في البداية أن أقصّ عليكم حكاية هذه الخطبة.
قصة هذه الخطبة
كان «هَمّام» واحدا من الزهاد الثمانية الذين اشتهروا بالزهد في صدر الإسلام. كما كان أويس القرني أيضا أحد هؤلاء الزهاد والذي اشتهر صيته في عشقه للنبي الأعظم(ص). وبالإضافة إلى زهده كان همّام أحد أصحاب أمير المؤمنين(ع)، ونادرا ما يُذكر أحد أصحاب أميرالمؤمنين(ع) ولا نجد فيه فضائل تميّزه عن غيره.
في إحدى الجلسات التي اجتمع فيها همّام ونفر آخرون بأميرالمؤمنين(ع)، قام همام إلى أميرالمؤمنين(ع) وقال له: «صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِم»؛ يعني ارسمهم لي بدرجة من الوضوح والنصاعة حتى أستطيع أن أجسمهم وأصورهم في ذهني كأني أنظر إليهم. علما بأن رجلا مثل همّام لم يكن بعيدا عن التقوى والمتقين. إنه كان من الأتقياء وفي قمّة درجات الزهد الذي يمثّل أحد أهمّ عناصر التقوى. ولكن مع كل هذا أبدى هذا السؤال. إنه لم يطلب استماع وصف المتقين حتى يصبح متقيا، بل أراد بهذا الوصف أن ينظر إليهم. ولكن ما هي الثمرة الحاصلة من هذه المشاهدة؟ هذا ما لابدّ أن نقف عنده.
الميزة الثانية الكامنة في سؤال همام، هو أنه لم يسأل وصايا في التقوى، بل أراد وصف المتقين. وهناك بون شاسع بين هذين.
على أي حال سأل أميرالمؤمنين(ع) أن يصف له المتقين كأنه ينظر إليهم بما يحظونه من روحانية ومعنوية، ولكن تثاقل أميرالمؤمنين(ع) عن جوابه وقال له: «يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون». ولكن لم يقنع همّام بهذا الجواب وأصرّ وألحّ على أن يتفضل عليه بما سأله وطالبه، حتى أنه أقسم عليه وقال: «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَكْرَمَكَ وَخَصَّكَ وَ حَبَاكَ وَفَضَّلَكَ بِمَا آتَاكَ لَمَّا وَصَفْتَهُمْ لِي».
بعذ هذا الإصرار الشديد بدأ أمير المؤمنين(ع) خطبته بمقدمة لا علاقة لها بوصف المتقين. بدأ بخلق الخلق، وتطرق إلى العاصين والمطيعين. تحدث عن أهمّ نتائج الصالحات والسيئات، وذكر أمهات المعارف من نقطة الصفر إلى أن انتهى بشرح فضائل المتقين. فقال: «فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِل...» وانطلق من هذه العبارة إلى ذكر 114 فضيلة من فضائل المتقين.
وحري بالذكر هنا أن كلام أميرالمؤمنين(ع) لم ينته، إذ أثناء حديث الأمير اعترت همّام حالة لا أعرف حقيقتها. إنه صعق صعقة كانت فيها نفسه. ولا يخفى أنه لم يكن همّام المستمع الوحيد لهذه الكلمات الرائعة بل كان معه آخرون، ولكن لم تؤثّر هذه الخطبة بهم هذا التأثير. ولهذا قال أميرالمؤمنين(ع): «هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا».
فقال رجل: «فَمَا بَالُكَ أَنْتَ يَا أَمِيرَالْمُؤْمِنِين»؛ يعني إن كان في هذا الكلام مثل هذا الأثر، فلماذا لم يؤثر عليك كما أثر على همّام؟! فقال أمير المؤمنين(ع): لكلّ أجل معلوم لا يسبقه ولا يتأخر عنه، ولكنه كان قد أشار في أوائل خطبته إلى أن المتقين على استعداد من الموت والطيران إلى السماء في كل آن، ولكن الله قد حبسهم في هذه الدنيا بالأجل الذي قدره لهم. إن الله قد قضى لهمّام أجله في تلك الساعة، ولكن جعل من فضائل همّام واستماع حديث أميرالمؤمنين(ع) سببا في رحيله.خصائص هذه الخطبة
1ـ وضوح مناخها
تنطوي هذه الخطبة على بعض الخصائص النادرة التي قلّ ما نجدها في خطبة أخرى من نهج البلاغة أو في سائر الروايات الأخلاقية. الخصيصة الأولى في هذه الخطبة هو الهدف والغاية من إلقائها، حيث قد بلغتنا قصتها وعرفنا السبب من إلقائها. بيد أن كثيرا من الروايات الأخرى قد وصلت إلينا بدون إشارة إلى مقام صدورها والقرائن المحيطة بها، فنقرأها ونستفيد منها دون علم بأسبابها ودوافعها. وهذا ما قد يسبب سوء فهم الروايات. إن فهم أحاديث أهل البيت أو فهم كلام العلماء العظام وحتى فهم آيات القرآن بشكل صحيح، بحاجة إلى الإحاطة بمناخها وقرائنها وهذا هو الذي يعبّر عنه في خصوص آيات القرآن بشأن النزول. بينما قصة هذه الخطبة قصة واضحة وصريحة وراقية جدا، فقد بلغنا مقام صدورها ودوافع إلقائها والأحداث التي أحاطت بها وهذا ما يمكّننا من استلهام دروس وحقائق كثيرة من هذه الخطبة.
الخصيصة الأخرى في هذه الخطبة هو أن المخاطب ومستوى الكلام معلومان أيضا. فتارة ينقل عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: «اتَّقِ اللَّهَ بَعْضَ التُّقَى وَإِنْ قَلَ وَاجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ سِتْراً وَإِنْ رَقّ».[1] فلابدّ أن نعرف من يخاطب في هذه الوصيّة. إن كلام الأمير(ع) يختلف باختلاف مستوى مخاطبيه، فتارة كان يخاطب أهل الكوفة، وتارة كان يخاطب ولده. أما هنا فالمخاطب معلوم، وهذا ما يعيننا كثيرا على فهم مغزى الكلام. إن مستوى المخاطب عال جدا، وبطبيعة الحال لابدّ أن نفترض مستوى الكلام عاليا أيضا، وعليه فلا مجال لأحد أن يستغني عن معارف هذه الخطبة.
2ـ شموليتها
الخصيصة الأخرى في هذه الخطبة هي شموليتها. فقلّ ما نستطيع أن نعثر على كلام يحظى بشمولية هذه الخطبة، بحيث يتطرق إلى العلاقات الاجتماعية ويخوض في علاقة الإنسان مع ربّه، بلا أن يغفل عن علاقة الإنسان مع نفسه، ويتناول العبادات الفردية والمعاملات الاجتماعية ومختلف المواضيع الروحية والنفسانية والصفات التي لا ينفك عنها الناس في كل شؤون حياتهم. إن شمولية هذه الخطبة لأمر عجيب.
ولا يفوتنا هنا أن نعبّر عن أسفنا الشديد من موت همّام المفاجئ الذي حرمنا من باقي معارف هذه الخطبة، فيا ليت عليّاً كان قد واصل كلامه لنرى إلى ماذا ينتهي حديثه وما هي المعارف الرائعة التي تشرق عن فمه وشفتيه، فما من كلمة نطق بها أميرالمؤمنين(ع) قد أخذت مأخذا من قلوبنا وأنارت دربنا وأتحفتنا بفوائد جمّة.
3ـ أثرها
ومن الخصائص العالية جدا في هذه الخطبة، هو ما ذكرناه في قصتها. وهي أثرها العظيم والمشهود على المستمع. لقد تحدث أهل البيت(عليهم السلام) كثيرا ولكن لم يأتنا خبر أثر حديثهم على المستمع، بيد أن أثر هذه الخطبة قد ظهر على المستمع فورا، كما أن أميرالمؤمنين(ع) نفسه قد أشار إلى نوعية أثر كلامه. هذه بعض خصائص هذه الخطبة التي قلّ ما نجدها في غيرها من الخطب والروايات.
بالإضافة إلى هذه الخصائص التي تمتاز بها هذه الخطبة عن غيرها، هناك خصائص أخرى في هذه الخطبة تشترك بها كثير من الخطب والكتب و الروايات الأخرى. وحري بنا أن نقف عند هذه الفئة من الخصائص أيضا قبل الدخول في شرح الخطبة.
4ـ صبغتها العرفانية
إحدى هذه الخصائص هي صبغتها العرفانية. فقد نسجت هذه الخطبة من الكلمات والأبحاث الأخلاقية وبصبغة عرفانية. وهناك بون شاسع بين الأبحاث الأخلاقية ذات الصبغة العرفانية وبين التي تفتقد هذه الصبغة.
فتارة توصي أحدا وتقول له: إن شئت أن تحفظ عزتك بين الناس، لا تمدّن يدك إلى أحد أبدا. إنها وصية أخلاقية بلا صبغة عرفانية. وتارة تطرح بحثا عقديا كما لو تحدثت عن عدل الله وتقول: ليس الله بظلام للعبيد وغاية الأمر هو أن تقتضي حكمته أن يفعل أمرا ما. لا سبيل للظلم إلى الله، إذ إن الظلم ضرب من النقص وسبحان الله عن أي نقص... هذا بحث عقدي، وهو دفاع عن عدل الله، ولكنك تارة تتحدث عن الله والمسائل الأخلاقية بصبغة عرفانية.
ومن نماذج الصبغة العرفانية في الأبحاث الأخلاقية هو أن يقول أحد: من القبيح جدا أن نمدّ أيدينا إلى أحد سوى الله غافلين عن كونه ربنا وصاحبنا ومالك رزقنا. وأساسا إن مدّ اليد إلى الغير بمرآى رب الأرباب ورب العالمين هي غاية الخزي والعار الذي يمكن أن يحيط بالإنسان. إن هذا الكلام هو نفس الوصية الأخلاقية الأولى التي مرّ ذكرها، ولكن قد صحبته صبغة عرفانية.
وكذلك الأمر في هذه الخطبة فقد نسجت عباراتها بصبغة عرفانية، وهذه من الخصائص الممتازة التي لا تخفى عليكم مواطن فائدتها، ولا سيما في هذا العصر الذي بات ينزع الإنسان فيه إلى الأبحاث المعنوية والعرفانية. فمن شأن هذه الخطبة أن تحلّ عقدا كثيرة في مثل هذه الأجواء.
5ـ عدم تقيدها بنطاق محدود
ومن خصائصها الأخرى هي أنها غير محدودة في نطاق زمني أو مكانيّ خاص. فهي لم تختص بهمّام ولا تختصّ بزمانه ولا بفئة معينة من المؤمنين. إنها تجري في كل زمان ومكان. طبعا نوعية معارفنا الدينية هي أنها غير محدودة بموقع خاص، ولكن يبدو أن هذه الخطبة تفوق كثيرا من النصوص والمعارف من هذا الجانب. فكن من شئت واصب إلى ما شئت واختر ما شئت من عمل ومهنة، فإنك لست بغنى عن الكمال في الإنسانية، ولست بغنى عن التقوى في حياتك، فلابد أن يصوّر لك الإنسان المتقي وهذا ما ينفع كلّ من يجرّب العيش والحياة.
6ـ لحنها وموسيقيتها
من الخصائص الأخرى في هذه الخطبة هي أنها بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من حكم رائعة، ذات لحن وموسيقية جميلة أيضا. فإن أميرالمؤمنين(ع) قد نظم هذه الخطبة ونسج عباراتها بلحن ووزن جميل، ولم يطرح بعض المفاهيم وحسب. فإن ألفتموها وأنستم بها سوف تجدون حلاوة لحنها وجمال موسيقيتها ونظم نسقها الرائع.
من هذا المنطلق بودّي أن أقدم وصية لكم وهي أن احفظوا هذه الخطبة واقرأوها باللحن والطور الذي تفتضيه روحكم. وسوف تشعرون بمدى حاجة روحكم إلى أمثال هذه الموسيقى العذبة وسوف ترون كم تنتعش نفسكم بهذه الأغنية الطويلة، وسوف تسقط من أعينكم باقي الأغاني والأشعار الطفولية وتفقد رونقها وموقعها في نفوسكم وقلوبكم بعد ما احتلتها هذه الخطبة واستأنستم بها بدلا عن باقي الألحان والأطوار.
7ـ كونها وصفا لا توصية
وإلى جانب هذه الخصائص، تتصف هذه الخطبة بكونها وصفا لا وصية. إن الوصية لا تنفع من لم يستعدّ لاستماعها وقبولها. إنها بحاجة إلى ظروف أصعب. طبعا وبالتأكيد إنها مفيدة وضرورية جدا، ولكن قلّ ما تتوفر مع شرائطها وأسبابها. ولكنّ الكلام بصيغة الوصف لا يحتاج إلى شروط معقدة وبالإضافة إلى ذلك إنه أسهل نفوذا وأعمق تأثيرا في القلب ولا ينجلي أثره سريعا. وإن هذه الخطبة لخطبة وصفية في فضائل المتقين فتصف المتقين ولا توصي بالتقوى. ولهذا فلا يملّ الإنسان منها أبدا.
نصيحتان أقدمها لكم
النصيحة الأولى هي التي قدمتها حين البحث وهي أن احفظوا هذه الخطبة.
أما النصيحة الثانية هي أن فرّقوا بين فهم هذه الخطبة وبين التأثّر بها. فحاولوا أن تفهموها وتدركوها عبر هذه الأبحاث، ولكن إلى جانب هذه الأبحاث أعدّوا برنامجا للتأثّر بها والانتفاع من منهلها. فاخلوا بهذه الخطبة ساعة، واسمحوا لأمطار فضائل كلام أميرالمؤمنين(ع) أن تمطر على قلوبكم وتذهب بكم إلى ما تشاء من الحسن والفضل والكمال.
لابدّ من قراءة خطبة المتقين في جلسة واحدة، إذ ليس في تقطيعها وتقسيطها تلك الفائدة الرئيسة المترتبة على قراءة الخطبة كاملة.
اخلوا إليها وأنسوا بها ساعة واسمحوا لها أن تترك أثرها العميق في نفوسكم. هذه في الواقع هي وصفة استعمال هذا الدواء. فلا يكفي فهم هذه الخطبة بل لابدّ من تذوّقها، بعد إدراك معانيها. فأرجوا أن تكون هذه الأبحاث مقدمة لهذا الأمر إن شاء الله.
[1]. غرر الحكم ودرر الكلم، ص 138.
منهجنا في شرح الخطبة
1ـ تجنب الشرح التبليغي الخطابي
نسعى في هذه الأبحاث أن نأخذ منحى الشرح والتبيين لا التبليغ. فلا نريد أن نرتقي منبرا أو نلقي محاضرة، كما لسنا بصدد استخدام أساليب الجذب حين طرح الأبحاث. نحن نسعى أن نواجه عبارات هذه الخطبة بكل موضوعية، فنتناول النقاط والمضامين الكامنة بين أحشاء عبارات الخطبة.
2ـ تجنب الشرح الاستطرادي
النقطة الثانية هي أننا نحاول أن نبتعد عن منهج الشرح الاستطرادي. فقد شرح بعض الشارحين هذه الخطبة بهذا الأسلوب. فلما قال أميرالمؤمنين(ع): «منطقهم الصواب»، استعرض جميع إيجابيات وسلبيات اللسان فابتعد تماما عن سياق الخطبة وروحها. طبعا إن هذا الأسلوب لا يخلو من النفع والفائدة، ولكنه ليس شرح خطبة المتقين، بل هو طرح مجموعة كبيرة من المفاهيم الأخلاقية بحِجّة خطبة المتقين. منهجنا هو الاختصار على ما يمتّ بهدف الخطبة بصلة، وعليه فسوف نجتاز كثيرا من العبارات بشرح مختصر بلا أن نشير إلى بعض المفاهيم المشهورة.
3ـ الالتفات إلى تركيب العبارات مع بعض
النقطة الأخرى التي لابدّ أن نهتمّ بها في مقام شرح الخطبة هي أنه يقتضي المقام نوعين من التأمل والإمعان، تأمل في تجزئة الكلام، وتأمل في التركيب. نحن سوف نقف عند مفردات الخطبة بشكل موجز، ولكن الأمر الذي بودّي أن لا نغفل عنه هو التأمل في تركيب هذه الفضائل مع بعض. فلابدّ أن نرى كيف نظم الإمام هذه المنظومة لفضائل المتقين، فبأي فضيلة بدأها وبأيهم ختمها ومتى جعل كل واحدة منها. وكذلك لوقوف الإمام وابتدائه أثناء إلقاء الخطبة شرح وكلام لابدّ من الوقوف عنده ولعلنا نتطرق إلى بعض زواياه، إذ قد خفيت معان كثيرة في هذه الرؤية إلى خطبة المتقين.
4ـ التطرق إلى طرق الوصول إلى كلّ من الفضائل
النقطة الأخرى التي نسعى للتطرق إليها باختصار، هو طريق الحصول على كل فضيلة يشير إليها أميرالمؤمنين(ع)، كما سوف لا نترك منهج الإيجاز في ذكر الطرق أيضا. وبهذا المنهج سوف يتجهّز القارئ الكريم بأمهات الطرق والأصول الرئيسة التي يحتاجها الإنسان في تكامله المعنوي.
5ـ نظرة إلى الرذائل الأخلاقية
وهناك أمر لم يقم به الإمام أميرالمؤمنين(ع) في خطبته، ولكن لا مناص لنا من إهماله، وهو نظرة خفيفة إلى الرذائل الأخلاقية المضادّة لما طرحه الإمام من فضائل. لقد أشار أميرالمؤمنين(ع) إلى الفضائل، ولكن في سبيل بيان هذه الفضائل وفهمها لابدّ لنا من الإشارة إلى الرذائل كي نزداد كرها لها ونفرّ منها إلى الفضائل.
السؤال والسائل
بقدر ما يكون السؤال جيدا، قد يكون سيئا. وبقدر كون السؤال الجيد علامة الشوق، إنه علامة النفرة. إن السؤال بقدر ما يدفع الإنسان إلى الأمام، يرجعه إلى الوراء. وبقدر ما ينتج السؤال علما، ينتج جهلا.
ولعلّ من هذا المنطلق قال رسول الله(ص): «حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْم».[1] ليس السؤال بجيد في كل مقام. ولكن السؤال الجيد أفضل من السكوت بكثير. السؤال الجيد عينٌ تفور منها المعارف. وحري بالذكر هنا أن السؤال الجيد يلقي الحكمة في قلب من خوطب بالسؤال فضلا عن السائل.
قيموا أسئلتكم
ينبغي لنا أن نطرح أسئلتنا على إنسان واع فاهم ليقوم بنقدها وتقييمها. فلنعرض عليه أسئلتنا ونقول له: لدينا أمثال هذه الأسئلة، فكم هي علامة لنقصاننا؟ وكم هي علامة لكمالنا؟ وكم هي تدل على اعتدالنا الفكري والروحي؟ وهكذا...
إن السؤال باب واسع وفيه كلام كثير. إن سؤال همّام قد فتح علينا هذه الآفاق المباركة. إنه كلام أميرالمؤمنين(ع)، ولكن كل من وقف عند هذه الخطبة وانتفع ببركاتها وعلومها وآثارها فقد أشرك همّام في ثوابه، إذ هو الذي سأل أميرالمؤمنين(ع) هذا السؤال الخالد. نحن لم نسمع باسم همّام ضمن باقي أصحاب أميرالمؤمنين(ع) في مواطن أخرى ولكن هذا السؤال العظيم قد خلّده في صفحات التأريخ.
يحكي السؤال عن ضمير السائل
تنطلق بعض الأسئلة من مصدر روحي، بينما تنطلق بعضها الأخرى من منشأ فكري. فما هي الأسئلة الناشئة من مصدر روحي؟ وأنا أعتقد أن الله يقيّمنا وينعم علينا على أساس ما يختلج في نفوسنا من أسئلة ومطالبات. فهناك بون شاسع بين من يسأل الله أن يرزقه بيتا مَهْما كانت مواصفاته، وبين من يسأله بيتا جيّدا. ففي بعض الأحيان طلب القليل لا يحكي عن قناعتنا بل يحكي عن دناءتنا. فقد يدل على عدم الإيمان بسخاء الله، فنخفف عليه السؤال كي يعطينا المراد.
وكذا الحال في الأسئلة العلمية، فإنها تحكي عن ضميرنا. فما هي أسئلتنا وأي مجهول يؤلمنا. فمن جملة ما كان يريد أميرالمؤمنين(ع) معرفته، هو أنه هل قد رضي الله عنه أم لا؟ أو لماذا خلقه الله، هل خلقه للجنة أم خلقه للنار؟ أطيلوا الوقوف عند السؤال وأسأل الله أن يفتح عليكم أبواب السؤال التي هي بمثابة عيون الحكمة في القلوب.
وقد قال شراح نهج البلاغة: أحد أسباب تثاقل أميرالمؤمنين(ع) عن جواب همام هو أن يبلغ الذّروة في عطشه. فقد أجابه أميرالمؤمنين(ع) بجواب مختصر ليذهب عنه، ولكنه بقي ملحّا ونال بإلحاحه كل شيء.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح علينا أبواب السؤال التي هي أبواب رحمته، وأن يثير في قلوبنا تلك الأسئلة المؤدية إلى أحسن الأجوبة في العالم وأهنئها لقلوبنا الضمآنة.
[1]. كنز الفوائد، ج 2، ص 189.
عندما يعزم أميرالمؤمنين(ع) على صنع خطبة ذات موسيقية ومفاهيم فاخرة نابعة من صميم قلبه، بطبيعة الحال تصبح هذه الخطبة خطبة إعجازية. ولهذا السبب نرى أثرها الإعجازي وهو موت همّام حبا وعشقا، حيث كان هو السائل والمخاطب الأول لهذه الخطبة الرائعة. وقد أشار أمير المؤمنين(ع) إلى أثرها الغريب حيث قال: «هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا».
اغتنموا جمال هذه الخطبة
من خصائص هذه الخطبة هي أنها تطرح المعارف العالية والسامية بأسلوب جميل جذّاب، وهذا ما لا ينبغي أن نمرّ منه مرور الكرام. من نصائحي لكم أيها الشباب أن لا تأخذوا المعارف الدينية باردةً، خذوها على أوج حرارتها ونضارتها وطعمها وعطرها. فقد اتخذ الله هذا الأسلوب في القرآن وطرح معارفه بهذا الشكل. وكذلك نرى أميرالمؤمنين(ع) في نهج البلاغة وباقي أئمتنا في أدعيتهم المأثورة عنهم قد انتهجوا هذا المنهج في طرح المعارف الإلهية. كان يوصي إمامنا الراحل أولاده أن لا يوقضوا أطفالهم لصلاة الصبح بعنف وشدّة، إذ قد يؤدي إلى مرارة نكهتها في مذاقهم.
أنا لا أعرف كيف أقيّم الدروس الدينية الجامعية أو الأبحاث التي يطرحها علماؤنا العظام والتي تتصف بنسبة من البرود بحسب ما يقتضيه طابعها العلمي. ولكن أقترح عليكم أن تجربوا هذه المعارف المودعة في أحشاء الكتب والمقالات، بطبيعتها الحارّة النضرة، وبعد ذلك ارجعوا إلى كتبكم وراجعوها كما هي عليه من برود طابعها العلمي.
إن الاكتفاء بالأسلوب العلمي البارد في أخذ المعارف الإلهية لا يخلو من تداعيات سلبية على الإنسان. فإن أخْذ الحكم والمعارف المجرّدَة عن جمالها ومشاعرها وإحساسها والاكتفاء بهذا النمط من الطرح مضرّ جدا. إن مثل هذه الخطبة لفرصة ثمينة وضرورية في نفس الوقت للإنسان كي يستلم معارفه الدينية محفوفة بهالة من الجمال والمحبوبية. ولابدّ لنا من سعي متواصل دائم في هذا المسار.
لقد قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمانَ وَ زَيَّنَهُ في قُلُوبِكُم). فشاء الله أن يكون الإيمان جميلا وحبيبا في قلوبكم. وإن خطبة المتقين المباركة تعيش هذه الأجواء، فحاولوا أن تغتنموا هذه الخصيصة إلى جانب باقي خصائصها التي مرّ ذكرها في الجلسة الماضية.
اجعلوها نغمة قلوبكم. لا أريد في هذا المقام أن أحرق قلبي شفقة على الأغاني والنغمات الدانية والهابطة في مستواها، بل يحترق قلبي على أنفسنا حينما تألف هذه الأغاني الفارغة ما تؤدي إلى عواقب خطيرة جدا. فلا يمكن التفكيك بين العلم والفكر وبين الإحساس، ولم تنفك يوما.
جاء في الخطبة 193 من نهج البلاغة: «رُوِيَ أَنْ صَاحِباً لِأَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ ع يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ وَ كَانَ رَجُلًا عَابِدا»، وقد سبق أن همّام كان أحد أزهد أربعة من زهّاد صدر الإسلام. «فَقَامَ إِلَيْهِ وَ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِم».
أقسام الأسئلة
1ـ الأسئلة الدانية
السؤال على أنواع؛ فبعض الأسئلة مدعاة للتطور والارتقاء، وبعضها مدعاة للتراجع والهبوط. وإن اختلافها راجع إلى اختلاف دوافعها وحوافزها. الأسئلة التي تطرح بدوافع رجعية، تنشأ من كون الإنسان يخالف حقا، ثم يطرح الأسئلة واحدا تلو الآخر ليشكك في ذاك الحق. فعلى سبيل المثال يعقتد بعض علماء فلسفة الأخلاق، إن مصدر تبلور هذا العلم؛ أي علم فلسفة الأخلاق هو أن الناس أصبحوا لا يطيقون بعض الأحكام الأخلاقية، فأقبلوا يتساءلون من قال أن لهذا العمل قيمة؟! ومن قرّر على أن يكون هذا العمل قيّما؟! كان هذا السلوك قيما في ما مضى أما الآن فليس من المعلوم أنه قد بقى على حاله. ما هو المعيار في تقييم الأعمال الجيدة والسيئة؟ وهل يمكن تغيّر هذه المعايير؟... وهكذا فتح باب فلسفة الأخلاق. إن منطلق معظم هذه الأسئلة هو مخالفة الإنسان للأحكام الأخلاقية. فإن أمثال هذه الأسئلة تطرح في سبيل التراجع لا التقدّم. بينما الإنسان الرشيد لا يطرح مثل هذه الأسئلة المنطلقة من دوافع التراجع، ولا تتبادر في ذهنه أبدا. فمن خصائص هذا النمط من الأسئلة هو إنك إن حصلت على أجوبة ستين سؤال من هذا النوع ما زلت لم تتحرك من نقطة الصفر.
إن استفحلت ونشطت النفس الأمارة والرذائل في وجود الإنسان، وخرج الإنسان عن اعتداله يكثر في طرح الأسئلة بدافع التراجع.
مضارها:
إن هذه الأسئلة لا تضيّع وقت الإنسان وحسب، وليس ضررها الرئيس هو ضياع الوقت، بل أهمّ ضررها هو أن الإنسان بعد ما طرح أسئلته هذه قد يحصل على بعض الأجوبة الظّنية غير القطعية، ثم يتحجّر على هذه الأجوبة ويتعلق بها، أو يعشقها ولا ينفكّ عنها. هذه قاعدة مهمة وهي أنه إذا تبادر لك سؤال بدافع مخالفة الحق والتمرد عليه، عند ذلك سوف تتعلق بأسوء الأجوبة له وأكثرها بطلانا. وعليه فمن المهمّ جدا أن نسعى لمنع تبلور أمثال هذه الأسئلة في أذهاننا.
قيموا أسئلتكم
ليس كل سؤال بحري أن يطرح، فقد قال رسول الله(ص): «حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْم». ولهذا فحري بالإنسان أن يعرض أسئلته على أستاذ في الأخلاق أو أستاذ في السير والسلوك المعنوي ليرى كيف يقيّم أسئلته. لا داعي لأن يجيب عنالأسئلة بل المهم هو أن يقيّم الإنسان من خلال أسئلته ويطلعه على روحياته ونزعاته التي خفيت عليه. إذ تنعكس صفات الإنسان وروحياته ومناخه الفكري والعقدي على أسئلته بكل وضوح.
2ـ الأسئلة الفارغة
هناك فئة أخرى من الأسئلة لا تنطلق من أمراض ورذائل أخلاقية كالقسم الأول، ولكنها أسئلة لا فائدة لها. وهي الأسئلة التي تثار وتطرح بسبب النسيان. كالإنسان الذي يسأل عن عنوان ما، فتدلّه على ضالته ولكن سرعان ما ينسى العنوان فيرجع ويكرر سؤاله. ثم تدلّه على ضالته مرة أخرى فينسى كما نسي من قبل وهكذا! فهل يمكن أن نعتبر أسئلته هذه حبّا للعلم والمعرفة؟!
النموذج الآخر من أمثال هذه الأسئلة غير المفيدة ولعله أكثر انسجاما ببحثنا هذا، هو السؤال الناجم من عدم الفكر. وهو السؤال الذي يطرحه الإنسان لا عن وعي ودراية وتأمل، بل عن عدم فكر. ولهذا كان العلامة الطباطبائي(رض) يقول: كنت أكتم أكثر أسئلتي ولم أبدها، حتى أجد جوابها.
ذات يوم قال لي شخص: عندي أسئلة في ولاية الفقيه. قلت له: كم كتاب قرأت؟ قال: لم أقرأ شيئا. فقلت له: إذن أنا لا أجيب عن أسئلتك. قال: لماذا لم تحترم أسئلتي؟ فقلت له: ولماذا أنت لم تحترم أسئلتك؟ ولماذا لم تحترم وقتك؟ كم هو موضوع مهم لديك حيث لم تقرأ فيه كتابا واحدا؟!
3ـ الأسئلة السامية
أما الفئة الثالثة من الأسئلة فهي الأسئلة التي تطرح بدافع التقدم والارتقاء. فإنها أسئلة ثمينة قيمة لابدّ من معرفة قدرها. إنها نور في قلب من تبادرت إليه. فبمجرد أن حقّق الإنسان في أسئلته هذه يمتلئ نورا، وكذلك إن حصل على الجواب فقد حصل على نور.
أدب التعامل مع الأسئلة السامية
إن الاستعجال في إبداء هذه الأسئلة السامية قد ينقص من ثمن جوابها لدى رؤية الإنسان. فلنروّض أرواحنا بهذه الأسئلة فترة، ولنعجن أسئلتنا ونروّضها بالفكر والتأمل كي نزداد شوقا للجواب. فلا تتستعجلوا بالخلاص من السؤال. حيث إن هذا العذاب الذي يلقيه السؤال في وجودك نور في الواقع.
يعجبني كثيرا بعض الشباب عندما يأتيني ويقول: «هناك سؤال يعتلج في قلبي منذ سبع أو ثمان سنين، فمهما حاولت أن أحصل على جوابه لم أستطع». هذا سؤال قيّم. وقد ذكر شرّاح نهج البلاغة أن أميرالمؤمنين(ع) قد تثاقل عن الجواب ليزداد همّام عطشا ويزداد الجواب أثرا. إن هذه الأسئلة لا تخلو من بعض الألم والعذاب على الإنسان ولكن ألمها جميل ينبغي أن نتحمله. فإنه ينوّر قلب الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك، لماذا يستعجل الإنسان في طرح بعض الأسئلة طمعا بالجواب؟ فإن دققنا النظر في بعض هذه الأسئلة ـ التي هي ليست من نمط الأنواع السيئة الأولى ـ نجدها مشوبة ببعض الشرك الخفي. فعلى سبيل المثال تجده يبحث عن زمن موته ويسأل متى أموت. فإذا أردنا أن نحلّل سؤاله بكل ما تحيط به من دوافع ونوايا، كأنه يقول: أريد أن أخلص من خوفي من الله والتوكل على الله والثقة بالله والاستغاثة بالله. أريد أن أدبر أموري بنفسي وأطلع على مصير حياتي بالكامل.
أو قد يسأل: هل أن الله راض عني أم لا. لماذا يسأل هذا السؤال؟ إنه سؤال جميل ولكن ينبغي للإنسان أن يصبر عليه. فقد شاء الله أن لا يجيبنا عن هذا السؤال، وإلا فليس من الصعب عليه أن يطلعنا على رضاه أو عدمه تجاهنا. كان يقدر على أن يخلق لكم ملائكة بعدد شعر رؤوسكم ليجيبوا عن أسئلتكم في كل آن ولحظة. فهل تتصورون أن قد عازه ملائكة فلم يرسلهم؟! إنه كان قادرا على كل هذا ولكن من المؤكد أن هناك نور في هذا الغموض. فلعل إصرارك على هذا السؤال يدل على أنك بصدد التخلص من أعباء العلاقة الجميلة بالله، عبر بعض المعلومات. إذ بعض أنواع الجهل تارة يزيد من جمال علاقة العبد بمولاه. راجعوا خطبة القاصعة لأميرالمؤمنين ففيها إشارات إلى هذا المضمون.
وتارة سؤالك جيد، ولكن ليس علاجه طرحه وإبداءه. فقد ورد عن أهل البيت(ع): «مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ عَلَّمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَعْلَم».[1] كما كان الشيخ بهجت(رض) يؤكد على هذا الحديث وكثيرا ما أجاب سائليه بمضمون هذه الرواية. فطريق الحصول على جواب بعض الأسئلة السامية ليس السؤال، بل العمل بالعلم، ولا سيما في المسائل المعنوية فإن عملت بمقتضى معرفتك وعلمك تحصل على باقي المعارف والعلوم بحسب عملك. وإلا فإن سألنا بلا عمل وأعطينا الجواب يخاف علينا أن لا نقنع بالجواب، أو نقنع به ولا نؤمن به، أو نؤمن به ولا نعمل به ما يؤدي إلى تفاقم أمراضنا ورجوعنا إلى الأسوء. ولهذا قال أميرالمؤمنين(ع): «إِنَّكُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا عُلِّمْتُمْ أَحْوَجُ مِنْكُمْ إِلَى تَعَلُّمِ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ».[2]
في حديث عنوان البصري عن الإمام الصادق(ع) وهو حديث عرفاني معروف، وكان العلامة القاضي(رض) يوصي تلامذته بحمله وقراءته يوميا، جاء فيه أن الإمام الصادق(ع) لم يستجب لعنوان في المرة الأولى. أما في المرة الثانية فأجابه وقال له(ع):
«لیس العلم بالتعلم إنما هو نور یقع في قلب من یرید الله تبارك وتعالى أن یبدیه فإن أردت العلم فاطلب أولا من نفسك حقیقة العبودیة واطلب العلم باستعماله واستفهم الله یفهمك».[3] هذا النمط من العلم هو ما يسمّى بالعلم اللدنّي، أو الفرقان والبصيرة.
قف عند دوافع السؤال والنوايا المحيطة به
إن همام قد سأل وصف المتقين لا توصية أو موعظة في هذا المجال. فنحن نرى أكثر الناس يبحثون عن الوصايا في مسار السلوك المعنوي. أما همام فقد سأل سؤالا آخرا. لم يقل لأميرالمؤمنين(ع): كيف أصبح متقيا؟ بل قال: صف لي المتقين. وهل توافقونني بأن لا يخطر على بالنا أمثال هذا السؤال؟ فنحن لا نبحث عن وصف المتقين أو المؤمنين عادة، ولكن لماذا؟ نحن نبحث عن طرق الصلاح وأساليب النجاح وهكذا. وكأنما نريد أن نقرأ مادة دراسية ونمتحن فيها. فإذا أمعنا النظر ودققنا في خفايا نوايا الإنسان وزوايا مشاعره لعلنا نجده يريد التخلص من قيود العبودية وأعبائها، أو يريد أن يمتحن في هذه المادة ويخلص منها ومصاعبها. وهذا يحكي عن نظرتنا الخاطئة لحقائق الدين والعبادة.
ليس أمامنا هدف الوصول إلى الله ولقائه. وإنما هو مسير وحركة إلى الله. ولكن كثير من الناس يسألون عن سبيل الله لكي يخلص من الحركة والسير في هذا الدرب يوما ما! وهل في هذا الدرب إزعاج وشرّ حتى يبغي الخلاص منه.
من الذين لا يتحملون مصاعب هذا الدرب وأعباء الطريق؟ أتعرفون من هم؟ أولئك الذين لا يطيقون الخوف والشوق في سبيل الله؟ أولئك الذين لا يطيقون صمت الله والغموض الذي يحيط بالعبد في حركة عبادته. انظروا إلى أدعية أهل البيت وحتى إلى أشعار العرفاء وعبّاد الله، حيث كانت حياتهم كلّها توسلا وإصرارا وطلبا وكأن لم تنفكّ من عقدهم واحدة.
[1]. بحار الأنوار، ج75، ص189.
[2]. عيون الحكم والمواعظ لليثي، ص 174؛ غرر الحكم ودرر الكلم، ص 268.
[3]. بحار الأنوار، ج1، ص225.
نرصد نوايانا الخفية في زوايا السؤال مخافة أن لا يمتزج سؤالنا عن الطريق، بأمثال هذه النوايا الباطلة. فقد سئل الإمام الصادق(ع):
«قِيلَ لَهُ أَيْنَ طَرِيقُ الرَّاحَةِ فَقَالَ ع فِي خِلَافِ الْهَوَى قِيلَ فَمَتَى يَجِدُ عَبْدٌ الرَّاحَةَ فَقَالَ ع عِنْدَ أَوَّلِ يَوْمٍ يَصِيرُ فِي الْجَنَّةِ».
فهذا السائل وإن سأل عن الطريق ولكن في واقع أمره كان يبحث عن أصل الراحة لا عن طريقها.
وطن نفسك على مصاعب الدرب
أثناء حركتكم في طريق الكمال المعنوي، أظهروا رضاكم عن هذه المصاعب أمام الله وعبروا عن فرحكم وبهجتكم بهذه الآلام، عند ذلك سوف تجدون زوال مصاعبكم الهابطة والدانية وتستبدل بعد ذلك بمصاعب راقية وسامية. فإذا دخلتم في هذا الطريق وطّنوا أنفسكم على كل مصاعبه ومحنه وآلامه. ولا يخفى أن في مصاعب هذا الطريق لذة لا تجدونها في أية لذة أخرى. فقد يتصور بعض الناس البعيدين عن هذه الأجواء أن مصاعب هذا الطريق مرّة، كلا وبالعكس.
ابحث عن الحافز بدلا عن الطريق
من المؤكد أن قد تبادرت إلى همّام أسئلة كثيرة بعد ما بدأ أميرالمؤمنين(ع) بوصف المتقين، حيث كل ما مرّ أميرالمؤمنين(ع) من فضيلة من فضائلهم: كان يسأل همام في ضميره كيف قد نال المتقون هذا المقام وكيف حصلوا على هذه الفضيلة؟
فهذا سؤال من شأنه أن يأنس به الإنسان أكثر من أن يطرحه ويبديه. فما يمنعنا من نيل هذه الفضائل في كثير من الأحيان ليس جهلنا بالطريق بل فقدان الحافز. فباع همام كياسة وسأل عن أوصاف المتقين ليزداد حافزه وشوقه إليهم، فكانت مبادرة جميلة جدا منه. إني أقبّل يدي همام ورجليه حيث قد واجه الإمام بهذا السؤال، فكم كان مباركا في سؤاله فكل هذه الخطبة الرائعة التي خلدت في التاريخ وبلغت الشيعة على مرّ الدهور كانت ببركة هذا السؤال.
شأن النظر والمشاهدة في القضايا المعنويةكان هدف همّام من استماع وصف المتقين هو المشاهدة حيث قال: «صف لي المتقين كأني أنظر إليهم». فلابدّ أن نتأمل قليلا في هذا الهدف. إن النظر والمشاهدة في كثير من المجالات المادّية هي آلة وطريق ولا غير. فعلى سبيل المثال عندما تسمع بجهاز جوال جديد، وتسمع بمواصفاته تودّ أن تراه. فالرؤية طريق للشراء والشراء طريق للاستخدام في هذه المجالات. ولكن في القضايا المعنوية لم تعد المشاهدة طريقا بل هي الغاية. فما أراد همّام أن ينظر إليهم ليحسّن سلوكه أو ليقتدي بهم، بل رمى إلى الغاية القصوى وهي رؤية المتقين.
النظر هو الهدف وهو المقصود. إن لقاء الله والنظر إلى وجه الله ليس من قبيل مشاهدة الطعام الذي هو مقدمة لأكله. وكذا الحال في لقاء المتقين فهو غاية قصوى ليس وراءها هدف آخر. ولا يخفى أن كل هذا الكلام مرتبط بالشهود القلبي.
هذه الرؤية والمشاهدة هي التي يتلهف لها عشاق الإمام المهدي (عج). أما أنا المسكين فأطلب رؤيته لأسأله بعض الأسئلة أو أطلب منه بعض الحاجات. أما عشاق الإمام فيَصْبون لرؤيته لا لشيء آخر، بل مجرد النظر إليه (بعين البصيرة والقلب) تمثل أقصى غاياتهم.
ولأنقل لكم هذه الرواية:
«جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَسْتَطِيعُ فِرَاقَكَ، وَإِنِّي لَأَدْخُلُ مَنْزِلِي فَأَذْكُرُكَ، فَأَتْرُكُ ضَيْعَتِي وَأُقْبِلُ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْكَ حُبّاً لَكَ، فَذَكَرْتُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَأُدْخِلْتَ الْجَنَّةَ فَرُفِعْتَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فَكَيْفَ لِي بِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَنَزَلَتْ «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» فَدَعَا النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) الرَّجُلَ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، وَبَشَّرَهُ بِذَلِكَ.»[1]
إللهم ارزقنا منية اللقاء والشهود
إن هذا الدعاء يشمل ما سواه من أدعية إن استجيب. اللهم ابعث في قلوبنا عطش لقائك ولقاء أوليائك. اللهم ضاعف في قلوبنا شوق زيارتك وزيارة أوليائك يوما بعد يوم. وصل على محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم._______________
[1]. أمالي الطوسي، ص 261.