حطّمت أسعار العقار في الجزائر هذه الصائفة كل الأرقام القياسية، ولم تقتصر الظاهرة على المدن الكبرى بل شملت جميع المناطق، ورغم أنه من العادة أن ترتفع الأسعار مع بدايات كل صائفة بسبب عودة المغتربين إلى أرض الوطن، وتزامنا مع موسم الأعراس، إلا أن الجديد أن المغتربين عجزوا الآن عن اقتناء السكنات، خاصة أن بعض المساكن المكونة من غرفتين وثلاث غرف صار سعرها يفوق المليار سنتيم، فما بالك عن المساكن الكبيرة الفاخرة في الأحياء المسماة بالراقية.

وإذا كانت فيدرالية الوكالات العقارية قد أحصت مالا يقل عن مليون سكن شاغر، وهو ما جمّد عملها لأن أصحاب هذه السكنات يرفضون بيعها ويتسلّون بالارتفاع المذهل للسكنات، فإن الظاهرة مرشحة للتفاقم أكثر بسبب أن امتلاك السكنات الشاغرة أصبح مهنة قائمة بذاتها، ويكاد يكون الاستثمار المفيد والمُربح الوحيد حاليا في الجزائر، وبينما يفقد الصندوق الوطني للاحتياط والتوفير عشرات الآلاف من زبائنه، وهو الذي لم يعد بمقدوره تقديم أزيد عن 1.5 بالمئة من الفائدة، فإن الاستثمار في شراء الشقق الكثيرة هو الظاهرة الجديدة التي لجأ إليها أصحاب المال .
وما زاد في تحوّل الظاهرة إلى أمر واقع هو الصيغ الجديدة للبيع بالإيجار والتساهمي وحتى الريفي الفاشلة جدا، والتي كرّست البزنسة بالشقق زادتها فوضى السكن الاجتماعي تكريسا حتى أن هناك بعض الزائرين من يملكون شققا بكل الصيغ، وحتى في مدن جزائرية مختلفة، وفي أسوأ الأحوال يقوم بعض أصحاب هاته الشقق بكرائها لمحرومين أو لأجانب وبلغ سعر الإيجار الشهري لبعض الفيلات السعر الكامل لبعض الشقق في الأرياف.
ولأنه لا يوجد أي قانون في الجزائر يمنع اكتساب الشقق، خاصة أن الكثير من الأثرياء يشترون العشرات منها في مدن مختلفة، وأحيانا دون أن يتفقدها إطلاقا، إذ يكتفي بالإمضاء لدى الموثقين فقط، حيث تحوّلت إلى وسيلة لتبييض الأموال، ويمكن التحايل على القوانين بتسجيل الكثير منها بأسماء الزوجة والأبناء والأخوات، فيحدث التحايل على القانون بطرق بسيطة، لأنه لا يوجد أسهل من معرفة ممتلكات كل جزائري من السكنات، وعجزت فيدرالية الوكالات العقارية عن معالجة الظاهرة لأن عرض الشقق قلّ بشكل لافت، والشقق على قلتها ما عادت تجد من يشتريها بعد أن ناطح سعرها أرقاما ليست في متناول الباحث عن مسكن، وهو ما جعل الكثير من الوكالات العقارية تقرر توقيف نشاطها، في الوقت الذي يحدث البيع من دون وسيط والتوجه مباشرة إلى الموثقين بعيدا عن الوكالات العقارية لتفادي نسبة الثلاثة بالمئة التي تأخذها الوكالة من البائع والشاري.
التحول نحو الاستثمار في شراء العقار يختلف عن مهنة بيع وشراء السيارات مثلا، لأن السيارة كلما مضى عليها زمنا فقدت جزءا من قيمتها، ومشكلة السيارة أن تاريخ صناعتها مكتوب فيها، بينما لا يسأل إطلاقا من يشتري مسكنا عن تاريخ بنائه، خاصة أن أسعار السكنات التي أنجزت في بداية القرن الماضي في العهد الاستعماري في قسنطينة وعنابة ووهران وسطيف والعاصمة وتلمسان هي أغلى بكثير من السكنات المنجزة في السنوات الأخيرة، والتحوّل نحو السكنات هو إفلاس آخر بالنسبة للإنسان الجزائري الذي يمتلك البعض منهم مئات الملايير ولا يستثمرونها في المشاريع الإنتاجية في غياب سياسة زراعية أو صناعية واضحة، وأيضا بسبب فقدان الثقة في قوانين الحكومات المتعاقبة، فيقوم صاحب هذه الثروة باكتساب سكنات ويتجاهل البنوك ويبقى يتابع أسعار العقار.
وهناك من لا يتابع السوق بعد أن اطمأن نهائيا بأن كل شيء مهددة أسعاره بالانهيار إلا السكنات، وكانت مصادر من البنك الجزائري قد تحدثت عن سحب قياسي للجزائريين لأموالهم، وربطتها باحتمال شراء العملة الصعبة ليتضح أن الغالبية تقوم بشراء العقار لأن السكنات تلتهب أسعارها من يوم لآخر، ويكاد يضمن الشاري في ظرف سنة واحدة ربحا لا يقل عن المليون دينار، وغالبية الجزائريين يعرفون الآن سعر مساكنهم حتى وإن كانوا لم يفكروا أبدا في بيعه، وانتقلت العدوى أو الطمع باتجاه بلدان أخرى سواء في تونس أو إسبانيا بالخصوص، حيث انهارت أسعار العقار بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، والطريف في الحكاية أن الجزائر من البلدان القليلة في العالم من تقدم السكنات الاجتماعية بالمجان للمواطنين، وهي في ذات الوقت من تُعتبر سكناتها الأغلى في العالم، أي أنها تمنح سكنا من دون سعر، ويتحوّل مباشرة إلى سعر النصف مليار، حتى أنها فاقت أسعار شقق في مدن من المفروض أن الأزمة لا تصلها أبدا مثل باريس ولندن وروما ودبي رغم أن قيمة الضريبة في تلك البلدان أغلى بكثير من قيمتها في الجزائر التي لا يوجد فيها قانون صارم يعاقب من لا يسدد قيمة ضريبة امتلاك سكنا خاصا أو العشرات من السكنات.

سعر السكن في الجزائر يعادل ستة أضعاف سعره في تونس
ويبلغ ثمن شقة من أربع غرف في قلب العاصمة التونسية حوالي 30000 أورو، بينما تتجاوز في قلب العاصمة الجزائرية 200000 أورو، كما أن السكنات الجميلة في شكل شاليهات في الضاحية الباريسية لا تتجاوز المليون أورو، بينما توجد فيلات في الجزائر العاصمة من قاربت رقم المئة مليار سنتيم، وهاته الأرقام الخرافية هي التي جعلت العقار الراقي يدور بين الأثرياء فقط، ومعروف في القاعدة التجارية أنه كلما غلا ثمن الشيء قلّ زبائنه، خاصة أن مالكي الشقق الشاغرة والمستثمرين في العقار يمارسون مهنتهم كمهنة ثانية سرية وغير مهتمين بالبيع إطلاقا، أي أن معظم الأرقام التي يتداولها الشارع عن السكنات المليارية هي في الغالب قول وليس فعل.
وتبدو مبارات واقترحات الفيدرالية الوطنية للوكالات العقارية غير قابلة للتطبيق، لأنها تطالب من أصحاب الشقق الشاغرة صيغ لأجل وضعها في سوق العقار وتأمل في ضخ قرابة 700 ألف شقة في السوق، كما تطالب من الدولة مضاعفة الضريبة الخاصة بالملكية وتخفيضها بالنسبة للذين يضعون شققهم للكراء، ولن يجد أصحاب الشقق الشاغرة صعوبة في تجاوز قوانين هذا الاقتراح لو تم فعلا تطبيقه، لأن المشكلة غير مقتصرة على الشقق فقط بل طالت الأراضي، حيث أن نسبة 20 بالمئة من الأراضي الصالحة للبناء غير مبنية وأصحابها ينتظرون مزيدا من جنون أسعار الأراضي، وحتى إذا باعوها فستبقى من دون تشييد ومشكلة الأراضي الغير مبنية أكبر من مشكلة الشقق الشاغرة لأنها تحدث مشكلة في جماليات المكان.
كما أن عدد الحوانيت المغلقة خاصة في المدن الجديدة فاقت في تعقدها مشكلة السكنات الشاغرة، فإذا كانت السكنات صالحة للسكن وأحيانا لمهن محدودة مثل الطب والمحاماة فإن الكثير من أصحاب المحلات التجارية لم يسبق لهم وأن مارسوا التجارة، وأحيانا يغامرون في نوع من التجارة، وإذا فشلوا عادوا لإغلاق حوانيتهم، وهو ما جعل ثورة الاسمنت في الجزائر التي أفرزتها البحبوحة المالية مع ارتفاع سعر النفط لا تحل مشكلة السكن والعمل، بل تزيدها تعقيدا وتبعث أمراضا اجتماعية ومشاكل اقتصادية كبرى.

الإقامة في الفندق أقل كلفة من شراء سكن!
هذا الوضع الغريب، وربما الفريد من نوعه في العالم أفرز ظواهر أغرب مثل اختيار بعض العائلات السكن الدائم في الفنادق، فهي أرخس من الشقق وحتى لو عاش فيها المواطن العمر كله، فإنه لن ينفق مليار سنتيم الذي هو ثمن شقة من ثلاث غرف في المدن الكبرى، ناهيك عن أنها تعفيه من تنظيفها ومن فواتير الكهرباء والماء، كما نسفت عادة الإدخار في البنوك وفي صندوق التوفير والاحتياط، عندما اكتشف المواطن أن إنفاق أمواله في شراء الجدران الإسمنتية، كما يُقال هو خير إدخار بفوائد تتجاوز المئة بالمئة في غالب الأحيان، وأفرزت الظاهرة أيضا لجوء بعض الميسورين إلى اقتناء سكنات لأبنائهم، حتى ولو كانوا رضّع أو أحفادهم في عملية توزيع للإرث بطريقة لم تحدث من قبل، ضمن عملية تغييب كامل للدولة سواء في المتابعة الضريبية أو البنوك، وموازاة مع ذلك ارتفع أسعار الغرف الفندقية وجعلتها برغم سوء الخدمة الأغلى أيضا في العالم.