السلام عليكم .. في الشوط الأخير من درس اليوم ... سأنشره فور إكماله ... سيكون عن مفهوم ( المنظور السردي ) .. محبتي لكم
السلام عليكم .. في الشوط الأخير من درس اليوم ... سأنشره فور إكماله ... سيكون عن مفهوم ( المنظور السردي ) .. محبتي لكم
صباحك ورد
المنظور السردي
في درسنا السابق تعرضنا لمفهوم ( الراوي ) الأمر الذي يجعلنا الآن أمام مفهوم ( المنظور السردي ) ، مالذي نعنيه بالمنظور السردي ؟ ما هو ؟
من منا لم يسمع بالمنظور في الفن التشكيلي ؟ كذلك الحال في الرسم المعماري ؟ ، من الفن التشكيلي تحديداً استعار النقد ـ علم السرد بالخصوص ـ هذا المفهوم ليعبر به عن شيء ليس بعيداً عن مفهوم المنظور في الفن التشكيلي ، فإذا كان مفهوم المنظور في الرسم بصورته البسيطة هو ( تمثيل الأجسام المرئية على سطح منبسط (اللوحة) لا كما هي في الواقع ولكن كما تبدو لعين الناظر في وضع معين وعلى بعد معين ) فإن المنظور السردي لا يبتعد ـ في صورته البسيطة ـ عن هذا التعريف مع حفظ الفارق بين الرسم و الفنون السردية ، و إذا كان ( الراوي ) ـ كما أخذناه في الدرس السابق ـ عبارة عن آلية عرض المادة السردية و القائم بمهمة سرد الأحداث و التعريف بالشخصيات و وصف الزمان و المكان ، فإن المنظور السردي هو الآلية التي تمكّن الراوي من اتخاذ الزاوية المناسبة لسرد الحدث أو وصف الشخصية أو الزمان و المكان .... كيف ذلك ؟ سنجيب عن ذلك بصورة مبسطة :
الروائي : كاتب الرواية
الراوي : الآلية التي يعتمدها الروائي في السرد ، و الصوت المتكلم في الرواية
المنظور السردي : الزاوية أو المكان ( السردي لا الواقعي ) الذي يتواجد فيه الراوي ليعبر عن وجهة نظره بــ ( الأشياء / العالم ) بما فيها الشخصيات و الأحداث ... الخ .
بمعنى آخر و بشكل أكثر بساطة : فلنفترض أنك تقص حكاية على أحدهم ، قصة واقعية حدثت معك البارحة مثلاً ، فإنه بإمكانك أن تقصها بأكثر من طريقة واحدة ، أكثر من طريقة لا تعتمد على طريقة الحكي بل على زاوية الرؤية ، مثلاً لنفترض أن الحدث الذي وقع معك هو :
كنتَ تجلس في مقعدك في باص لنقل الركاب في الكرسي الذي خلفك تجلس امرأة مسنة .. تعرضت لأزمة صحية و أغمي عليها ، توقف الباص و تم نقل المرأة إلى المستشفى ، و لأن المرأة لا يرافقها أحد فقد تبرعتَ بمرافقتها في سيارة الإسعاف إلى المستشفى .
هذا الحدث يمكنك أن تحكيه لصديقك بأكثر من طريقة مع اعتمادك على أسلوب حكي واحد ، كيف ؟ هنا يمكنك أن تبدأ من النهاية حيث تماثلت المرأة للشفاء .. أي أنك ستروي من المستشفى لا من الباص الذي وقعت فيه بداية الحدث ، كما إنك يمكن أن تركز على سائق الباص و ما ارتسم على وجهه من قلق عندما كان ينظر في المرآة حيث وقعت عينه على مشهد تدهور صحة المرأة المسنة ، كما يمكنك أن تركز على ما جرى في سيارة الإسعاف .... تركيزك على شيء أو أشياء معينة من ضمن الحادثة هو الذي يوفر زاوية معينة تجعل نفسك فيها بوصفك الراوي وهذا هو ما نسميه المنظور بكل بساطة .
و مثلما ركز الرسام في منظور الرسم على زاوية أو زوايا ليظهر ما يريد إظهاره و يركز عليه دلالة ما يريده إيصاله إلى المُشاهِد للوحة فإن الراوي يركز على شيء أو جملة أشياء ليظهر و يبرز ما يريد إبرازه .
إذن يمكننا القول عن المنظور السردي أنه : البؤرة أو الزاوية أو المكان السردي الذي يتموضع فيه الراوي للتعبير عن وجهة نظره بالعالم ( العالم هنا لفظ عام يشمل كل شيء يتعرض له الراوي في روايته مهما كان صغيراً أو كبيراً مهماً أو هامشياً ... الخ ) على أن تموضع الراوي هذا ليس ثابتاً بل يتغير تماشياً مع السرد و ما يتطلبه الانتقال و التسلسل السردي للأحداث ، و لا يفوتنا أن نذكّر بأن الراوي هنا نعني به كل أنواعه سواءً أكان شخصية من شخصيات القصة أو صوتاً غائباً فيها ( كما تعلمنا في درسنا السابق ) .
و لا يفوتني كذلك التنويه ـ لضرورة أكاديمية ـ أن الكثير من النقاد يرى أن المنظور السردي هو ( وجهة النظر ) لكنني أرى أن من الدقة أن نميز بين وجهة النظر و المنظور السردي ـ على النحو الذي فعلته أعلاه ـ ذلك أن وجهة النظر المجردة لا يمكن أن تكون مفهوماً دقيقاً للمنظور في حركيته و إجرائيته داخل الفعل السردي و تسلسل فعالياته في النص القصصي بشكل عام ، و لعله لذلك نجد في النقد تسميات عدة للرؤية أو المنظور السردي منها على سبيل المثال لا الحصر ( زاوية الرؤية ، حصر المجال ، الرؤية السردية ... الخ ) و هذا ما لا يهمنا في درسنا هذا .
طيب مع ما فهمناه ـ حتى الآن ـ عن المنظور السردي يمكننا التساؤل عن : ما فائدة المنظور السردي ما دامت الفعالية الروائية داخل النص السردي منوطة بالراوي ؟ بعبارة أخرى لعل أحدكم يسأل : ما دام الروائي قادراً على خلق راوٍ و ما دام هذا الراوي يقوم بمهامه في سرد الحكاية فما أهمية المنظور ؟ ألا يبدو المنظور السردي مكملاً كمالياً فقط ؟ و للإجابة سأطرح المثال الآتي :
أغلبكم قرأ العمل الأدبي الذي أنتج سينمائياً و تلفزيونياً و لعل آخره كان مسلسلاً كارتونياً ، أعني به ( المحقق كونان ) ، في كل قصة من قصصه نرى أن الحقيقة لا تظهر إلا في نهاية القصة ، جريمة تحدث و تتعدد القصص داخل قصة الجريمة الواحدة ، كل شخصية تروي ما حدث من زاويتها و من وجهة نظرها ، و يبقى كشف الحقيقة منوط بوجهة نظر ( كونان ) المحقق الــ ( الراوي الرئيس في القصة ) ، و تلاحظون أن ( كونان ) بوصفه الشخصية الرئيسة و الراوي الرئيس ـ مع تعدد الرواة في القصة ـ هو من يروي القصة بالكامل من خلال تتبعه للأحداث و خيوط الجريمة و ما يمنحه من مساحة للرواة الآخرين ـ هنا الرواة الآخرين هم الشخصيات الأخرى في القصة ـ لكن مع ذلك فإن شخصية الراوي ( كونان ) لم تفِ بالنهوض بواقع قصة بوليسية مثيرة تشد المتلقي لولا مفهوم المنظور السردي ، ذلك المنظور الذي يجعلنا كمتلقين في أكثر من زاوية و يجعلنا نتلقى القصة من وجهة نظر كل شخصية أو راوٍ في القصة و نحن نتابع سير التحقيق ، إن المنظور السردي هو من وجّه انتباهنا و أدخلنا في الحدث أو القصة من وجهة نظر الآخر ، إن الأمر هنا أشبه بالمنظور الذي توفره الكاميرا السينمائية أو التلفزيونية حين يركزها المخرج و يعطي من خلال أبعاد مشهدها الذي تصوره البعد المناسب و المساحة الملائمة التي يريد تركيز نظر المُشاهِد فيها و إليها .
من خلال ما تقدم يمكننا القول الآن أن المنظور السردي يوفر لنا ـ ككتّاب ـ إمكانية السرد بطريقة إبداعية مميزة لا مجرد نقل الأحداث نقلاً فوتوغرافياً جامداً ، و معه سنتطرق إلى أنواع المنظور السردي .
أنواع المنظور السردي في العمل السردي
- منظور واحد : إذ يعتمد العمل السردي ( رواية ، قصة ، بنية سردية في نص شعري ... الخ ) على توافر منظور سردي واحد لا غير ، فحتى مع تعدد الرواة داخل النص نجد أن منظوراً سردياً واحداً هو المسيطر و هو الذي يعبر عن وجهة نظره مقصياً وجهة نظر الرواة الآخرين ، كما لو كنا أمام رواية تتحدث عن الاختلاف الديني و نجد فيها شخصيات من ديانات متعددة ، لكن الراوي ( الراوي لا الروائي ) يعرض وجهة نظره بالعالم و يركز عليها و يهمش وجهات نظر الرواة الآخرين ( الشخصيات ) ، و قد شاع هذا النوع في الأعمال الأدبية الكلاسيكية .
- منظورات متعددة : و هو على العكس من النوع الأول ، حيث نجد أكثر من منظور سردي ، و يحاول النص هنا عرض وجهات نظر كل الشخصيات و النأي بنفسه عن فرض وجهة نظر راوٍ معين ، أو ربما يعتمد الالتفاف و عدم التصريح ، أي طرح وجهة نظر لكنها غير واضحة و صريحة ، أو الاعتماد على أفعال الشخصيات و دورها في الأحداث ليوصل المتلقي إلى نتيجة نهائية هي في حقيقتها وجهة نظر الراوي و المنظور السردي للنص و الذي تعدد ليعبر في النهاية من خلال ما جرى من أحداث القصة .
كما يمكن تقسيم المنظور السردي أيضاً حسب تقديم السرد إلى :
- التقديم البانورامي : و يبرز هذا النوع موافقاً لما عرفناه في درسنا السابق مع الراوي العليم ، حيث يوفر الراوي العليم المنظور السردي الذي يتناسب و معرفته المطلقة غير المحدودة .. كيف ؟ يعني من تكون الشخصيات أقل معرفة من الراوي لازم الراوي يقدم منظور و يركز على أمور تخلي المتلقي ينساق وياها حتى يوصل للهدف الذي ينشده الراوي .
- التقديم المشهدي : و تتولى الشخصيات و الأحداث بل و عناصر السرد الأخرى كالمكان و الزمان عملية تقديم السرد بشكل مباشر للمتلقي ، أي أن عملية خلق المنظور السردي و وجوده هنا منوط بالعناصر السردية بشكل رئيس و بطريقة مباشرة لا بفعل الراوي لأن الراوي هنا يتناسب مع ما طرحناه في درسنا السابق من ( الراوي الغائب ) ، و لذلك تكون المشاهد هي الفاعل الرئيس في تكوين المنظور .
- اللوحات : و هنا يتولى الراوي ـ و بشكل أوضح و أجلى ـ الشخصيات مهمة المنظور السردي في النص حيث يتشيء المنظور من خلال أحداث تتركز في ذهن أو خيال الشخصيات بوصفها رواة القصة .
و لعل من أوضح التقسيمات للمنظور السردي و أنواعه هو ما قدمه الناقد ( أوسبنسكي ) إذ قسمه إلى :
- المنظور الأيديولوجي : و هو المنظور المعبر عن القيم و المعتقدات التي يؤمن بها الراوي ( و منه الشخصيات كرواة ) ، و من خلال هذا المنظور يقدّم الراوي وجهة نظره و يركز المتلقي ( المروي له أو القارئ ) في زاوية معينة .
- المنظور النفسي : و من خلاله يقدّم الراوي العالم الداخلي ( النفسي التخيلي ) للشخصية أو لنفسه إذا كان إحدى شخصيات النص ، أي الأمور المتعلقة بالنفس التي تعيش العالم الخارجي ، و هنا تبرز منظوران سرديان داخل هذا المنظور ، الأول ذاتي و يتحقق ما إذا كان الراوي إحدى شخصيات النص ، و الثاني موضوعي فيما لو كان الراوي هو من يعرض المنظور النفسي لشخصية من شخصيات النص .
- المنظور التعبيري : و هو المنظور الذي تعبر من خلاله الشخصية عن نفسها ( نفسها ككل لا في الجانب النفسي أو التخيلي فقط ) و يتم ذلك من خلال الكلام ( أي كلام الشخصية ) الذي يكون فعلاً من أفعال الشخصية كما أنه يكون منقولاً من خلال الراوي .
- المنظور الزمكاني : و هو المنظور الذي يوفر تعيين موضع الراوي زمنياً و مكانياً ، أي المنظور المسؤول عن عنصري الزمان و المكان في السرد ، و لتوضيحه نضرب مثالاً : لفترض أنك تكتب رواية فيها أحداث تاريخية ، هنا يمكنك أن توفر رواية الأحداث عبر راوٍ من خارج الزمان و المكان ، كأن يروي الراوي أحداثاً حدثت في زمان و مكان آخرين .. كيف ؟ لفترض أن الراوي في الرواية يسكن بغداد و الزمن هو عام 2010 و لكنه يروي أحداثاً حدثت في دمشق و زمنها قبل 300 عام ، كما يمكن أن نقوم بالعكس ، كأن نجعل الراوي يسكن دمشق و يروي الأحداث فيها مباشرة أي قبل 300 عام .
من خلال ما تقدم أرجو أننا غطينا مفهوم المنظور ، كما أوكل المزيد من الفهم التطبيقي للنقاش و الاستفهام و الإجابة ، إن ما أردت الوصول إليه هو أن مفهوم المنظور السردي هو أشبه ما يكون بالأبعاد المتوافرة في الكاميرا و ما يختفي خلفها يكون هامشياً .. و أنت ككاتب تقارب بعملك المخرج في العمل السينمائي ، أنت الروائي الذي يخلق الراوي أو الرواة داخل النص و أنت من يركز بؤرة الضوء على شيء دون غيره ، أنت ( الروائي الكاتب ) من بإمكانه خلق الصورة من خلال الكلمات ، و تخيل المشهد قبل كتابته و إنتاج المشهد اللاحق له بعد كتابته ، أنت من يملك زمام الأمور حين يكتب ، و التعرف على ما طرحناه يجعلك أكثر وعياً و أنت تمارس الكتابة ..... الكثير من الأمور تطرق ذهني لكنها ستطيل بنا المقام ، لذلك و كما أسلفت أوكلها للنقاش ... محبتي لكم
الواجب : بعد أن تقرأ بتمعن ما ورد في هذا الدرس ، غيّب عن ذهنك أي شيء قرأته هنا و امسك ورقة وقلماً و اكتب لنا أي شيء ، أي شيء دون تحديد ، محاولاً أن يكون متوافراً فيه بنية قصصية ، لنقرأ لك ، و نوضح مالذي فعلته بصدد ما أخذناه في درسنا هذا ... اكتب فقط و سأقرأ لك و يتابعك و يقرأ لك الآخرون الذين يرغبون . واجب بسيط يحمل الكثير بين طياته .
ننتظر
شكرا جاري القراءة