المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شيفرة دافنشي
الراوي
تكمن أهمية تناول مفهوم ( الراوي ) في ورشتنا هذه في أكثر من نقطة ، لعل أهمها عدم التفريق بينه و بين الروائي أو الكاتب ، عدم التفريق ـ هذا ـ الذي يوقع الكثير من رواد فنون السرد من الكتّاب في بواكير أعمالهم الكتابية في تضييع إمكان تموضع الراوي في الزاوية أو الزوايا التي تحقق نصاً سردياً مبدعاً ، لذلك نرى بعض الأعمال الأدبية التي لو سألنا أنفسنا : هل توافرت فيها حبكة ؟ لقلنا نعم ، هل توافرت فيها عناصر بناء سردي تمكّن من النهوض بنص مميز ؟ لقلنا نعم .. لكننا لا نمنح تأشيرة إعجابنا بالنص !! ترى لماذا ؟ يرجع ذلك إلى أسباب منها عدم تموضع الراوي بالشكل الصحيح في النص ، أو ربما الأمر يتعلق بــ ( المنظور السردي ) و هو ما سنخصص له الدرس القادم بإذن الله .
إذا كان الراوي ليس هو الروائي أو الكاتب فمن هو ؟! سنتعرف عليه بشكل أدق لو قدمنا تعريف الروائي أو الكاتب عليه ، فكلنا يعرف أن الروائي أو الكاتب عموماً هو الكاتب الذي يكتب الرواية أو النص الأدبي ، بمعنى أن الروائي في رواية ( فوضى الحواس ) هي أحلام مستغانمي تلك الأديبة الجزائرية المعروفة ، كما أن الروائي في رواية ( شيفرة دافنشي ) هو دان براون بلحمه و دمه ، إذن الروائي هو الشخص الذي كتب الرواية ، و هذا الروائي يخول راوياً متخيلاً ليقوم بفعل الرواية ، كيف ذلك ؟ لنأخذ مثالاً :
من رواية ( فوضى الحواس ) لأحلام مستغانمي
( هو.. رجل الوقت عطرًا. ماذا تراها تفعل بكل تلك الصباحات دونه؟ وثمة هدنة مع الحب, خرقها حبه. ومقعد للذاكرة, ما زال شاغراً بعده. وأبواب مواربة للترقب. وامرأة.. ريثما يأتي, تحبّه كما لو أنه لن يأتي. كي يجيء ) هذا المقطع الذي بين قوسين و الذي اقتطعناه من تلك الرواية لاحظ عزيزي/ عزيزتي .. من الذي يتكلم هنا ؟ هل هو :
- البطلة ؟ لا طبعاً
- البطل ؟ لا طبعاً
- إحدى شخصيات الرواية ؟ لا طبعاً
- أحلام مستغانمي ؟ سيقول بعضكم نعم هي أحلام .. و بكل تأكيد ليست هي أحلام مستغانمي .. بل هو الراوي .. الراوي هنا هو من يتكلم لا أحلام مستغانمي ..
لماذا ليست أحلام من يتكلم هنا ؟ يرجع ذلك لأسباب .. منها :
- إن الراوي قد يغير رأيه من بعض الأيديولوجيات و العقائد و الآراء و المواقف ، و هو ما لا يتأتى لأحلام بوصفها شخصية لها مواقف ثابتة و آراء تؤمن بها كشخصية واقعية ، كما لو أن الراوي يتحدث ليبرر و يقنع القارئ بوجهة نظر الشخصية هذه و الشخصية تلك التي تعارضها في الرأي ، فالراوي وحده هو من يمكنه ذلك ، على خلاف الروائي أو الكاتب الذي ـ حتماً ـ تكون له وجهة نظر قد تعارض أو لا تتفق مع وجهة نظر شخصية في روايته .
- لأن أحلام بوصفها كاتبة هذه الرواية لو كانت هي المتكلم فيها لفقدت قدرة المرابطة و التموضع في أكثر من نقطة و زاوية في الرواية ، لأنها لا يمكنها ـ فنياً و منطقياً ـ الانسلاخ من كينونتها الواقعية أو التشظي إلى أكثر من حضور في الرواية ، ولو كانت هي المتكلمة لفقدت قدرة التعبير عن الشخصيات مع اختلافها ، و بمعنى آخر لوجدناها تفرض علينا رأيها و ترغم الشخصيات على الإذعان به ، و لوجدنا أنها هي من يكلمنا و يروي لنا من وجهة نظرها فقط ، و هو ما يفقد الرواية قيمتها .
و الأسباب عديدة للفصل بين الراوي و الروائي و لعل الإيغال في عمقها ليس من مصلحة هدف الورشة إذ تبقى البحوث النقدية المعمقة مجالها الأنسب .
إذن فهمنا أن الراوي هو غير الروائي ، فالروائي يكوّن صوتاً و ضميراً يعطيه حق أن يروي الأحداث و يصف المكان و الزمان و الشخصيات ، إذن بعبارة أخرى الراوي هو الـــ ( أنا ) الأخرى للراوئي و التي قد تتجاوز الــ أنا الثانية إلى ( أنوات ) ثالثة و رابعة و خامسة ....الخ بحسب ما تقتضيه الرواية ، إذن نفهم من ذلك أيضاً أن الراوي قناع من الأقنعة التي يتخفى الروائي خلفها ليروي و يتحدث ، و هو ـ الراوي ـ يمثل أسلوب عرض و تقديم المادة الروائية أو السردية ( التي نعني بها أي وجود سردي في قصة أو قصيدة ... الخ من فنون أدبية ) فبما أن الراوي هو من يتحدث و يقصّ علينا إذن هو يتبنى أسلوباً معيناً لعرض مادة القصة أو السرد عموماً ، و من كل ذلك يمكننا القول بأن الراوئي هو شخصية واقعية تمارس كتابة و تأليف الرواية أو النص ، أما الراوي فهو شخصية من عالم النص شخصية ورقية لا واقعية ، تتموضع داخل النص السردي لكنها في الوقت ذاته تكون خارجه ، كيف ذلك ؟!! بمعنى أن الراوي داخل النص باعتباره كائن نصي ورقي لا واقعي وهو ما يعني أنه داخله .. أما كونه خارجه فنعني به أنه لا يمثل سبباً لوقوع حدث كما أنه ليس شخصية من شخصيات النص ، إلا لو اختار الكاتب أن يجعله إحدى شخصيات الرواية ( على ما سنشرحه لاحقاً ) ، المهم أننا الآن نميز بين الروائي و هو كاتب النص و بين الراوي و هو على ما قدمناه آنفاً و الذي نعني به الوسيلة أو الأداة أو التقنية التي يستخدمها الكاتب للكشف عن عالم القصة في النص و بث المادة القصصية التي يريد الكاتب إيصالها إلى القارئ .
طيب الآن ما هي
أشكال حضور الراوي في الرواية ؟ يمكننا إيجازها بــ :
- قد يكون الراوي ضميراً غائباً في النص ، بمعنى أننا لو سألنا : من الذي يتحدث و يخبرنا و يروي لنا ؟ لأجبنا بــ : هو .. هو الغائب الذي ليس شخصية من شخصيات الرواية .. مثاله : ( كانت مغرمة به ، لم يكن يعلم .. كل من حوله علم بهذا إلا هو ... ) و في هذا المثال يكون هذا الكلام غير صادر من أي شخصية من شخصيات الرواية .. و هذا ما يعني أننا لو سألنا أنفسنا من الذي يروي و يتحدث لما قلنا أنه فلان أو فلانة من شخصيات الرواية ، بل هو الغائب الذي يمكن القول عنه : هو .. فقط .
- قد يعتمد الروائي على آلية فعل الرواية و التكلم و الإخبار على لسان إحدى الشخصيات ، فتقوم الشخصية بالحكي و سرد الأحداث أو وصف المكان و الزمان و الشخصية أو الشخصيات الأخرى ، و مثاله ( لم أكن الوحيدة التي تعاني من أحداث ما بعد 1991 ، أخواتي .. إخواني .. كل من حولنا و من في نطاق سماع أخبارهم كانوا يعانون ، المشكلة أننا لم نستطع حينها فعل شيء .. الانتظار وحده هو الحل كما أنه القارب الذي يقودنا للمجهول ) فهنا الراوي شخصية من شخصيات السرد هي امرأة داخل الحدث و المكان و الزمان السردي .
كما يمكن للروائي ( سأعبر من الآن عن الروائي بالكاتب تفادياً للخلط الذي قد يقع فيه القارئ للدرس ) أن يجمع بين الآليتين .. بمعنى أنه يعتمد على الراوي الغائب الحاضر الذي هو ليس شخصية من شخصيات النص ، و يعتمد على شخصية أو أكثر في استلام دفة سرد الأحداث و وصف الأماكن والأزمنة و الشخصيات ، يعني في موضع معين من الرواية يخلي شخصية من الشخصيات تتولى فعل السرد و الإخبار و الوصف .. طبعاً بكل تأكيد اعتماد هيج آلية و التنوع في الراوي تشير إلى قدرة الكاتب و تمكنه ، كما أنها توفر زوايا منظورية متعددة تخلي القارئ ينتقل و يتنقل و يشاهد الأحداث من أكثر من زاوية واتجاه ، لكن بالأول و الآخر هذا يعتمد على الرواية نفسها .. فأحياناً الاعتماد على الراوي الواحد أفضل .
طبعاً سنعرض عن ذكر وظائف الراوي لأن فيها تفاصيل كثيرة و لعلنا نعوض هذا الإعراض في المادة النقاشية التي أود التنويه إلى أننا بدأنا نفتقد حضورها و فائدتها في الدروس الأخيرة ... و إن كان الأمر يدل على الفهم فلا بأس و هو أمر مفرح .. لكنني أخشى أن يكون دالاً على التكاسل من طرح السؤال و الاعتراض والمناقشة ........
ما هي
أنواع الراوي ؟
- الراوي العليم : و هو الراوي الذي يعلم كل شيء ، و يكون علمه أكبر من علم شخصيات الراوية ، أي أنه يعلم ما لا تعلمه الشخصيات ، ففي حين تبدو الشخصيات أمام مصير مجهول يكون الراوي عالماً بما سيحدث و سيكون ، كما أنه ـ الراوي ـ يعلم بما تخفيه النفوس ـ نفوس الشخصيات ـ و ما تضمره من نوايا ... و مثاله ( كانوا يسيرون دون أن يعلموا ما ينتظرهم .. لا أحد منهم فكر مجرد تفكير أنهم بعد 15 دقيقة فقط سيتعرضون لحادث مروع .... ) كما نلاحظ فإن الراوي وحده يعلم بما سيحدث بعد ربع ساعة و لا أحد من الشخصيات يعلم بهذا المصير الذي ينتظرهم .
- الراوي المصاحِب أو المشارِك : و هو الراوي الذي تكون حدود علمه هي حدود علم الشخصيات ، أي أنه يتساوى مع الشخصيات في علمهم ولا يفوقهم علماً بما سيجري ، و مثاله ( في ذلك اليوم كان كل شيء يسير برتابة و اعتياد ، يوم آخر من أيام بغداد ، الزحام ذاته ، نقاط التفتيش ، الروتين حتى الوصول إلى العمل ، كانت إسراء مشغولة بهاتفها تفادياً لأزمة الوقت .. و مسافة الوصول إلى مكان عملها .. تعطلت السيارة فجأة ، ترجلت لتكمل طريقها مشياً على الأقدام .. تساءلت : ترى كيف ستكون الدقائق القادمة .. لا أعرف .. قالت في نفسها ) لا تعرف هذا ما يقوله الراوي .. فلا هي تعلم و لا هو أخبرنا بما لا تعلم .
- الراوي الأقل علماً : و هو الراوي الذي يكون علمه أقل من علم الشخصيات في الرواية ، بمعنى أن حدود معرفته بالأحداث أقل من معرفة شخصية من شخصيات النص سواء كان هذا الراوي إحدى الشخصيات أو الغائب الحاضر في النص ، مثاله ( كان ينوي على شيء .. يدبر أمراً .. هذا ما يبدو عليه من غرابة تصرفاته و شروده .. ترى مالذي يدبره ؟ بماذا يفكر ؟؟؟ ) إذن الشخصية هنا تفكر بأمر ما وت دبر و تنوي فعل شيء ما لكن الراوي أقل علماً منه و لم يستطع الكشف عن نية الشخصية .
في نهاية حديثنا لابد أن نشير بأن الراوي جزء من ثلاثية ( الراوي ، المروي ، المروي له ) و قد فهمنا الراوي ، أما المروي فهي القصة ذاتها ، في حين أن المروي له يتنوع أيضاً و هو كذلك ليس القارئ فكما فرقنا بين الكاتب و الراوي فإن المروي له ليس هو القارئ ـ على تفصيل يطول ـ و يمكننا أن نضرب مثالاً على هذا التفريق بينهما بألف ليلة وليلة و على الشكل هذا :
الراوي = شهرزاد
المروي = قصة من قصص ألف ليلة وليلة في كل ليلة من هذه الليالي
المروي له = شهريار
أما القارئ فأنا و أنت ^_^
ما يمكن الاستفادة منه بهذا الصدد ـ صدد التفريق بين الراوي و الكاتب و المروي له و القارئ ـ هو أن نميز ككتّاب بين كوننا كتاب و بين كينونة الراوي الذي نخلقه في نصوصنا ، بين أن نخاطب القارئ مباشرة و بين أن نخلق مروياً له داخل النص لنمرر ما نريد تمريره من خلاله إلى القارئ بأسلوب غير مباشر و ذكي .. كيف ؟ ببساطة و باختصار شديد : أحياناً لا نستطيع إقناع القارئ بوجهة نظر الشخصية .. يمكننا خلق مروي له كشخصية فاعلة و مؤثرة و نجعله يقتنع بوجهة نظر الشخصية و بذلك نجعل القارئ تحت سلطة اقتناع المروي له و تأثيره ... هذا جزء بسيط من فاعلية تفريقنا بين المروي له و القارئ و لعبة بسيطة من قواعد اللعبة الكبيرة في كتابة النص السردي *_^ .
و لعل الحاجة أمست ملحة لبث درس خارج أكاديمية المفهوم أقرب لقواعد اللعبة وممارساتها .. سنكون على موعد معه للتعرف تطبيقياً و بتمارين على : كيف نفعل كل هذا .. كيف نوظف خدعة النص .. كيف نخاتل القارئ و نخدعه ليصدم و ينتشي و ربما يغير من تجربته .. لأن النص تجربة يباشرها القارئ و تؤثر فيه و هو لا يشعر و على المدى البعيد ... سنكون على موعد مع اشتغال يقارب كثيراً الاشتغال الــ ( ثيمي ) .
مفاجأة الدرس : لا واجب .. و اللي يعرف ليش ماكو واجب أنطيه جائزة