توقيعات أندلسية من خلال مخطوط "رونق التحبير في حكم السياسة والتدبير"، لأبي القاسم محمد بن أبي العلاء بن سماك العاملي المالقى.
وهو الباب الأربعون في توقيعات الملوك، وهو آخر أبواب كتاب "رونق التحبير"، ويتضمن اثنين وثلاثين توقيعاً لملوك وأمراء وحكام وخلفاء، من الفرس والعرب والخلفاء الراشدين وملوك بني أمية وبني العباس، وأمراء بني أمية بالأندلس.
ولم يهتم المؤلف في تدوين التوقيعات أو روايتها بترتيبها، عدا توقيعات الأندلسيين، فهي آخرها، وقد بلغ عددها اثني عشر توقيعا، ختمها بامتداح الملوك النصريين، والإشادة بتوقيعاتهم، فهو يقول: "وأما موالينا الملوك، أولى النسبة الكريمة النصرية، الذين شرف الله أقدارهم في البرية، فمناقبهم كثيرة، وتوقيعاتهم شهيرة، ومقاماتهم سامية وخطيرة".
تعريف التوقيع
و"التوقيع" كما يعرفه الأستاذ ناجي معروف: "ما كان يكتبه الخليفة أو الملك أو الأمير أو السلطان أو الوزير تعليقًا على كتاب أو رقعة أو ملتمس بتوقيعه بجملة أو عدة جمل قصيرة هي جواب الكتاب أو الرقعة يذيلونها باسمهم على صورة توقيع أي إمضاء".
أما ابن فضل الله العمري (700هـ – 749هـ)، فيرى أن "التوقيع هي لعامة أرباب الوظائف، جليها وحقيرها، كبيرها وصغيرها وعنوانها توقيع شريف لفلان بكذا… وقد تستفتح ب (الحمد لله) أو (أما بعد) أو (من حسنت طرائقه، وحمدت خلائقه)، إلى غير ذلك".
توقيع عبد الرحمن الداخل
من تلك التوقيعات ما جاء عن عبد الرحمن الداخل الذي كتب عنه أحد كتابه إلى بعض عماله كتاباً يستقصره عما فرَّط فيه من عمله، فأكثر في الكتاب وأطال، فلما لاحظه الأمير عبد الرحمن أمر بتمزيقه، ثم وقع بخطه:
"أما بعد، فإن يكن التقصير لك مقدما، فقد ينبغي الاكتفاء أن يكون لك مؤخرا، والسلام".
وهكذا، فإشارة أبلغ من عبارة، تحمل حكما لا رجعة فيه.
كما أنه ثار على الخليفة عبد الرحمن بن معاوية ثائر ببعض بلاد الأندلس، فغزاه فظفر به، فبينما هم منصرف به، وقد حمل الثائر على بغل مكبولاً: نظر إليه الخليفة عبد الرحمن وتحته فرس له، فقال:
"يا بغل، ماذا تحمل من الشقاق والنفاق؟ قال الثائر: يا فرس، ماذا تحمل من العفو والرحمة؟ فقال له الخليفة: والله لا ذقت موتا على يدي أبدا، وسرحه".
مثل هذا التوقيع سياسي بالدرجة الأولى، أبدى فيه الأمير حنكة سياسية كبيرة، وقدرة متميزة على اتخاذ القرار الحاسم في وقت قصير.
توقيع الأمير عبد الرحمن الأوسط
النموذج الآخر للأمير عبد الرحمن الأوسط فقد وقع في كتاب كتب إليه بعض عماله، يسأله تولية عمل رفيع لم يكن من شاكلته:
"من لم يصب وجه مطلبه، كان الحرمان أولى به".
فالجواب مختصر مفيد، أصدر من خلاله الأمير رأيًا في الطلب، وحكماً قاطعًا لا رجعة فيه.
توقيع الخليفة عبد الرحمن الناصر
ومن أبلغ ما كتب في التوقيع باختصار شديد، ما وقع به الخليفة عبد الرحمن الناصر: "كتابا عثر عليه بقرطبة، دسه إلى حضرته أمير أفريقية معدُّ بن إسماعيل العبيدي، إذ كانت بينهما منافرة وعداوة، أفحش فيه السب، وأكثر من البهتان، فلما رفع إليه وقع عليه:
"يا هذا، عرفْتنَا فسببْتنا، وجهلناك نحن، فأمسكنا عنك".
لم يزده على هذا كلمة، ويضيف ابن سماك قائلاً:"فكان ذلك أبلغ ما كتب في معناه، وفيه إشارة إلى أنه مدع في نسبه، وأنه مجهول غير معروف، ومن لا يُعرف لا تعرف مناقبه ولا مثالبه".
فابن سماك لا يكتفي بإيراد التوقيع، وإنما يذيله بتعليق ضاف يشرح فيه معنى التوقيع بوضوح تام، كما جاء في التذليل السابق.
ولعل الخليفة في توقيعه تأثر بالشاعر البطليوسي في قوله:
عـرفـت مـكانـتــي فسبـبـت عـرضـــي *** ولــو أني عرفتكم سببت
ولكـــن لم أجــــــــــد لكــم سُمُـــــوًّا *** إلى أَكْرُومـــةٍ فلــذا سكت
نجاة المريني