الوطن ألّا يحدث ذلك كلّه !
علينا بعد الآن مُتابعة نشرة الأخبار في عيادة طبيّة ، ومن الأفضل بحضور طبيب نفسي ،لأننا أمام كل مشهد أو خبر، سندخل في حالة هذيان ، وينتابنا ذهول قد يقصّر أجلنا . فهذا القهر لن يتركنا بسلام ، قد يرفع نسبة السكري في الدم ، ويتسبب لنا بجلطة دماغية ، ونحن نشاهد ما يتدفق على شاشتنا من أهوال . هذا أب سوري ، ينهار في نوبةٍ هيستيرية فيحتضن زوجته وطفله ، ويرتمي معهم على سكة حديديّة ، ليوقف قاطرة لن تأخذه إلى ما يظنه الوطن الموعود، الذي لبلوغه باع ما يملك ، مقابل تذكرة على قوارب الموت ، و مشى لأيام على الأقدام جائعاً ، ظمآناً ، متوسلاً عطف غرباء، ما كان يعرف قبل أيام موقع بلادهم على الخريطة .
وهذه عراقية ، وهن جسمها ، وأنهكها المشي مع صغيرها في أدغال الغربة . فقدت صوتها ، وجفت في الطريق دموعها ، فانكبت على يد شرطية مجريّة تقبّلها، كي تسمح لها بمواصلة رحلة تيهها نحو المجهول . و ذاك الذي شاهدناه يركض حاملاً طفله هرباً من مطاردة بوليس الحدود ، و تعمّدت مصوّرة الإيقاع به أرضاً ليكون في متناول جلاديه الجدد .
مشاهد لن تفارقنا أبداً وسترسو على ضفاف الذاكرة ، ملقاةً على شطآن ضميرنا ، كجثة ريان في ثياب طفولته الأولى ، كما ألقى به البحر إلينا ، في نومته تلك .
ضرب من العجائب ما يحدث لنا ، لا أحد يملك تفسيراً لهذه الإنهيارات المتتالية ، كقطع الدومينو لأوطان كانت آمنة ، و نشهد دمارها عن بكرة أبيها، في زمن لا يتجاوز ومضةً بمقياس التاريخ . فجأة فرغت بلدان من الحياة ، ودفعت بأبنائها شعوباً وحشوداً إلى عرض البحر. تاركين خلفهم غرباء جاؤوا من كلّ صوب ، غدوا سادة البشر والحجر ، يحكمون الماضي والزمن الآتي ، ولا أحد يسألهم بأيّ حق ؟
ثقيل على البحر ما حمّلناه من وزر الأمانات ، برغم علمنا أنّه غدر بالتيتانيك في عظمتها الأسطورية ، فكيف يُؤتمن على قوارب مطاطيّة ، تتقاذفها الأمواج والحيتان.لا حماية لمن حُشروا فيها سوى صدريات النجدة التي ستطفو بجثثهم لأيام .
وكثير علينا كل هذا الهوان الذي تقبّلناه ، و اعتدناه ، برغم ادعائنا أن الذل هو آخر من سنعقد معه اتفاقية تطبيع . ها قد طبّعنا مع العار، وسيكون صعباً أن نبدو جميلين ، وراقين مهما فعلنا !
أفظع ما حلّ بنا ، أننا أشهدنا العالم على رخص أرواحنا ، وموت ضمائرنا ، وهوان أوطاننا، ، وبإمكاننا بعد الآن أن ندلي بتصريحات عنتريّة ، ونستعرض أمجادنا الأندلسية ، لقد رآنا العالم عراةً، جياعاً ، أذلاء ، متسوّلين شعوباً وأفراداً عند أبواب الغرباء ، مستجدين ما كنا نمنّ به عليهم . ولن تفارقه صورتنا تلك إلى الأبد .
الذين غادروا ، ما أخذوا سوى الأذى الذي حملوه عميقاً في وجدانهم . إنهم يتحسّسون في بلاد الغربة رؤوسهم ، ليتأكدوا أنّ وطنهم ، في زحمة الموت ، لم يسعه الوقت إلاّ لقتل أحلامهم . أخطأ فولتير حين قال " خبز الوطن خير من كعكة الغربة ". أصلاً ، كلمات " الخبز " " الوطن " " الكعكة " " الغربة " لا تعني لدينا الشيء نفسه . اللغة نفسها تهاوت أيضاً كقطع الدومينو، الكعكة كانت الأوطان التي سطى على صفقاتها وخيراتها من أطعموا الفقراء ولائم الشعارات الوطنية ، والخبز هو ذلك الرغيف الذي غلا حتى انتهي آلاف العرب وليمة للحيتان ، قبل بلوغهم مرافئ الغربة للفوز به .
أمّا الوطن " أتعرفين ما الوطن يا صفيّة ؟ الوطن هو ألاّ يحدث ذلك كلّه " ! قال غسان كنفاني .