شهر شعبان من الشُّهور الّتي جاءت السنَّة بتعظيمه وتفضيله، ومن رحمة الله أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن لنا ما نصنع فيه ممّا يُقرِّبُنا إلى الله عزّ وجلّ. ففي الصّحيحين عن السيّدة عائشة رضي الله عنها قالت: ''ما رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استكمل صيام شهر قط إلاّ شهر رمضان، وكان يصوم شعبان كلّه، كان يصوم شعبان إلاّ قليلاً''.
الصِّيام عبادة عظيمة جليلة يظهر فيها الإخلاص، جعل الله أجره عليه، جاء في الحديث القدسي يقول الله عزّ وجلّ: ''كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّيام لي وأنا أجزي به'' وجعله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سبباً في تكفير الذنوب والخطايا فقال: ''فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفّرها الصّلاة والصّيام والصّدقة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر'' أخرجه الترمذي، وقال مرغباً فيه: ''في الجنّة باب يقال له: الرَّيَّان، يدخل منه الصّائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد''. وثبت عند النسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلتُ: يا رسول الله، لَم أرَكَ تصوم من شهر ما تصُوم من شعبان، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ''ذاك شهر يغفلُ فيه النّاس بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إلى ربّ العالمين فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم''.
فمن فضائل الصّيام في هذا الشّهر وكثرته واستحبابه، أن بعض العلماء قال: إنّ صيام شعبان أفضل من الصّيام في غيره من الشّهور، كصيام شهر محرّم الّذي هو أفضل الصّيام بعد رمضان، لأنّ أفضل التطوّع بالصّيام ما كان قريباً من صيام فرض رمضان قبله أو بعده، لأنه يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، فيكون لصيام رمضان بمنزلة السنن الرَّواتب مع الفرائض قبلها وبعدها.
والحكمة من إكثاره صلّى الله عليه وسلّم الصّيام في شعبان، أمران: الأوّل، أنّه شهر تغفل النّاس عن العبادة فيه وأنّ أجر العبادة يزداد إذا عظُمَت غفلة النّاس عنها. والثاني، أنّ الأعمال ترفع إلى الله فيه، وأفضل عمل يجعل أعمال العبد مقبولة عند الله هو الصّيام، وذلك لما فيه من الانكسار لله تعالى والذلّ بين يديه، ولمَا فيه من الافتقار إلى الله. ولذلك كان السّلف الصّالح رضوان الله عليهم يجدّون في شعبان ويتهيّئون فيه لرمضان، قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القُرّاء. وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن. وقال أبو بكر البلخي: مثل شهر رجب كالرِّيح ومثل شعبان مثل الغيم ومثل رمضان مثل المطر، ومَن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟!
وإنّ ممّا يُضاعف ثوابه في شدّة الحرّ في هذه الأيّام من الطّاعات، الصّيام لمَا فيه من ظمأ الهواجر، ولهذا كان معاذ بن جبل رضي الله عنه عند احتضاره يتأسَّف على ما يفوته من ظمأ الهواجر وكذلك غيره من السّلف، وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: لمّا أصيب ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما تركتُ خلفي شيئاً من الدنيا آسى عليه غير ظمأ الهواجر وغير مشي إلى الصّلاة، وورد أنّ أبو بكر الصّديق رضي الله عنه كان يصوم في الصّيف ويفطر في الشّتاء، كما أنّ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وَصَّى عند موته ابنه عبد الله فقال له: ''عليك بالصّيام في شدّة الحرّ في الصّيف''.