بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
لا تبعد الثورة الحسينية المباركة عن كونها إحدى المصاديق الكبرى لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(التوبة:111).
فالحسين خرج لطلب الحق وإقامة العدل وهي المبادئ الأساسية التي جاء بها رسول الله محمد(ص) والتي كانت أساس الرسالات السماوية عامة، والرسالة الإسلامية بشكل خاص.
فليس هناك رسالة تتعاظم وتنمو وتنتشر مبادئها وشعاراتها دون أن يكون هناك من هو مستعد لحملها والاعتقاد بها والتضحية في سبيلها..
ولكي يكون الإنسان مستعداً للتضحية في سبيل قضية ما، لا بد أن يعتقد جازماً، أنها قضية حق وقضية عدل وقضية حرية، من هنا نجد إصرار الإمام الحسين(ع) على الثورة ضد الحكم الذي انحرف عن كل هذه المبادئ الإلهية، واستأثر بكل مقدراتها وثرواتها ومكانتها، واتخذ من مكامن القوة فيها وسيلة لتكريس سلطة لا تراعي شرع الله، ولا تحفظ حرمات الإسلام والمسلمين، فكان لا بد من وجود رادع لهذا التوجه، يحول دون استشراء هذا النوع من الحكم الذي لن يُبقى للأمة من رسالتها إلاّ سلطة ظالمة غاشمة تهدم كل ما بناه رسول الله(ص) ومن أتى بعده ممن كانوا أحرص الناس على مسيرتها واستقامة أتباعها ونصاعة أهدافها.
إن تصدي الإمام الحسين(ع) لهذه المهمة كان واجباً إسلامياً عاماً، لذلك وجدنا أن من جاء معه إلى كربلاء كانوا من جميع أطياف المسلمين، ممن عزّ عليهم أن يجدوا تراث الإسلام نهباً، يتوارثه الأبناء عن الآباء، دون أن يكون للمسلمين الخيرة من أمرهم.. وهذا الحمل الكبير الذي ارتضاه الحسين وأنصاره لأنفسهم، كان لا بدّ له من شعار ينسجم مع التحرّك، فرفع الحسين شعار الإصلاح "والله لم أخرج أشراً ولا بطراً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".
المسألة إذاً ليست مسألة شخصية، وليست تصفية حسابات بين متخاصمين بل هي ثورة تريد إعادة الأمور إلى نصابها، وتصويب الاتجاه بالوجهة التي يرضاها الله ورسوله.. فطلب الإصلاح مقصود به تقويم الاعوجاج الحاصل بفعل التطبيق السيئ للدين، وبهدف عدم تحول السلطة وما تمثل إلى ملك عضوض، ولغاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا المنكر الذي يتهدد كل إنجازات الأمة ووحدتها ومكانتها..
كل ذلك يستلزم التضحية، ويقتضي أن يبرز إلى هذه المهمة من هو مستعد لأن يبذل الغالي والنفيس في سبيلها، وما يستدعي ذلك من الاستعداد لتقديم النفس والأهل والولد والمال وكل غال في سبيل الرسالة وفي سبيل الأمة.
ومعلوم أن الإسلام قد حثّ على التضحية في سبيله، نصرةً لدينه وصيانةً لإمكانات الأمة ولمكونات مجتمعها، وكذلك دفاعاً عن عزتها وكرامتها.. فالأمة التي لا تضحي في سبيل رسالتها معرضةٌ لكل أنواع الذلّ والضعف والهوان..
لذلك، فالحسين حين خرج إلى كربلاء قاصداً الكوفة نسف وراءه كل جسور الدنيا، ولبس لباس الشهادة، واستعد لها، ووضع في حسبانه تقديم كل أنواع التضحيات من مال وولد وأهل وإخوة وأصحاب.. فالقضية لا تحتمل التساهل أو التهاون حين يكون الدين في خطر ومصير الأمة أمام الانحراف، ومصير الأوطان على أبواب المجهول..
وهكذا فعل الإمام علي(ع) حين طلب إليه الرسول أن ينام في فراشه بعد أن أجمعت قريش على قتله.. لم يفكر الإمام علي(ع) بنفسه وبحياته فيقول لما أنا وليس غيري، وهل انحصر الأمر وتعيّن بأن أكون كبش الفداء لكي ينجو الرسول ومن معه من المؤامرة الكبرى.. بل كان صاحب موقفٍ ومبدأٍ واعتبر أنه معنيٌّ بأمر الرسول والرسالة كما الرسول(ص) نفسه، وارتضى أن يعرّض نفسه للشهادة في سبيله غير مبالٍ بحياته التي استرخصها في سبيل الله، وليحيا الرسول الذي أوكل إليه الله إقامة دولة الإسلام انطلاقاً من المدينة المنورة.
فالقضايا الكبرى تحتاج إلى رجال كبار، وإلى شخصيات تمتلك الاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيلها{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}(الحجرات:15).. وبفضل تضحيات الشخصيات الكبيرة أقيم المجتمع المسلم في المدينة، هؤلاء الذين هجروا الأهل والأحبة والوطن وضحوا بالوقت والمال والنفس، وآثروا حبّ الله على كل ما عداه طلباً لمرضاته، وأملاً بنيل جنته التي وعدهم بها ولا يخلف الله وعده.
نعم، لقد شعر الإمام الحسين(ع) أنَّ خطر زوال الدين أصبح ماثلاً بقوة، وأنَّ الحياة في مثل هذا الحال لا معنى لها ولا قيمة، وبالتالي فإن الدفاع عن الدين في هذه الحالة هي من أوجب الواجبات.. فهل كان الإمام الحسين(ع) ليرضى أن يعيش في مجتمع لا يشعر فيه بعزّة الأمة وكرامتها، أو أن يترك الأمة تواجه مصير الذل والهوان ويعتبر نفسه غير معني بكل ذلك، لكن قالها الإمام الحسين صريحة: "فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً" ليس للحياة معنى مع الظلم، ليس للسعادة طعم مع الذل، وليس للأمة كرامة مع الانحراف.
ففي الحديث الشريف عن النبي محمد(ص) قال: "إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمْركم شورى بينكم: فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأُموركم إلى نسائكم : فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".
لقد ضحى الإمام الحسين في سبيل قضية مقدسة، وغاية نبيلة وشريفة، ورسالة عظيمة شرّف بها الله النبي والمسلمين وكل ما اعتنقها على وجه الأرض، لذلك استحق أن يكون سيد الشهداء في الدنيا، وسيد شباب أهل الجنة في الآخرة.
إذاً للتضحية مكانة عظيمة عند الأمم، وقد جسد الإمام الحسين(ع) أحد أبهى صورها وخلدته هذه التضحية منارةً مضيئة في التاريخ الإسلامي العام، حتى بات اسم الحسين يُقرن بالتضحية والعزّة والفداء، وشهادته مثال عظيم على الإيثار، بحيث يجعل من نفسه وولده وعائلته وإخوانه وأصحابه درعاً للأمة وللدين وللإنسان..
لكن التضحية ليست أمراً مجرداً، أو هي معنى لا مصاديق محددة له، فالتضحية أمر عقلاني هادف ومقصود، يجب أن يتوجه إلى قضية محقة، غير ذاتية بالكامل، وقضية عادلة وراجحة عند العقلاء، فليس كل من بذل نفسه في أمر ما يكون مضحياً، وليس كل من أهدر حياته في مجال من مجالات الحياة يُعدّ شهيداً.. فالتضحية تتناقض وتتنافى مع التهور.. التضحية "العاقلة" إذا صح التعبير هي التضحية المحمودة والمطلوبة، وهي غالباً ما تؤتي ثمارها الإيجابية النافعة للأفراد والجامعات والأمة، هي حياة لمن نضحي اتجاه قضاياهم، أما التضحية العمياء والتي لا تدري إلى أين تتجه أو لا يكون الهدف منها حياة أمة أو قوم، أو دفاعاً عن شعب أو أرض أو وطن، هي تهور وانتحار، فكم من الناس الذين بذلوا حياتهم وأهدروا أعمارهم رخيصة، فعلوا ذلك في سبيل أمور تافهة أو مضرة أو مؤذية سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو على مستوى الأمة..
إن الذين يفجرون أنفسهم مثلاً في مجموع الناس والمسلمين ظناً منهم أنهم يقومون بخدمة الدين والإسلام غالباً ما يكونوا مضللين لا يعرفون الوجهة الصحيحة لحياتهم، ولا يعيرون اهتماماً للآثار السلبية التي يتركها انتحارهم على مجتمعاتهم وعلى أمتهم وعلى صورة دينهم، وإنَّ أسوأ سبيل يقدم فيه المرء حياته ولأجله هو السبيل الذي يعمّق الهوّة بين أبناء الدين الواحد، والرسالة الواحدة والنبي الواحد، وكم من الناس من ضللوا وانساقوا وراء بعض الآراء الفئوية والعصبية وقدموا حياتهم لأجل ذلك وهم في الحقيقة لا يخدمون بذلك لا الدين ولا الرسالة، ولا تحتسب تضحياتهم في سبيل الله.. فكم من هؤلاء كانوا سبباً في تعميق روح الكراهية بين المذاهب الإسلامية، وكم من هؤلاء استولدوا الحقد بين أتباع الدين الواحد، وكم من هؤلاء عمقوا الشرخ بين المسلمين وكانوا أشبه بالأسافين التي تدّق عميقاً في وحدة الأمة واجتماعها، وفي نصاعة قضاياها وأهدافها، هؤلاء هم مصداق قوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الإسراء:104).
ما أحوجنا اليوم إلى التضحية الواعية المثقفة المنفتحة على قضايا الأمة المحقة، كم نحن بحاجة اليوم إلى العقول والقلوب التي تغار على الأمة ومصالحها، وعلى شعوب الأمة وأبنائها، وعلى مستقبل الأمة ومصيرها، وعلى مكانة الأمة بين أقرانها من أمم الأرض..
كم نحن اليوم بحاجة إلى استعادة الثورة الحسينية وشعاراتها الإصلاحية، الإصلاح وليس التدمير، الإصلاح وليس القهر، الإصلاح وليس الإذلال.. وأيضاً نحن بحاجة إلى ثورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس هبّات القتل والذبح بعناوين تضليلية لا تقودنا كأفراد وجماعات وأمة إلاّ إلى الضعف والذل والهوان، ويجعلنا كأمة في أسفل سلم الهرم الحضاري في دنيا لا مكان فيها إلاّ للوعي والصلاح والتقدم والحرية والعزة، فليكن هدفنا كما كان هدف الإمام الحسين(ع) التضحية في سبيل الأمة والدين والوطن وليس في سبيل أي أمر آخر من أمور الدنيا التي قال فيها الإمام علي(ع): "إن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل".