احمد محمد
منذ الأزل؛ وكل الفلاسفة وعلماء النفس يحاولون الوصول إلى تعريف الحب أو مفهوم الحب، وكل فيلسوف له رؤيته الخاصّة، وكل حكيم يرى الحبَّ من وجهة نظره، وعلماء النّفس يجتهدون ليجدوا له تفسيراً علميّاً. ناهيك عن العُشَّاق وتعريفاتهم، فكل عاشق يُعرِّف الحب على أنّه محبوبته، ويعطي اسمها ملخصاً للحب، وتكون هي تجسيد للحب لا يكون بغيرها.
واختصاراً لكل ذلك؛ فأنا أرى أن الحب هو حالة من الرُّقِي في أسمى أوجهها. الحب عاطفة، شعور لا يمكن للكلمات أن تَصِفه، حالةٌ كانت وما زالت مبهمة للجميع، ولكنها كحالة؛ فهي أسمى أوجه الرقي، الرقي في كل النواحي بلا استثناء. ولنفهم هذا الرقيّ في الحب، لا بدَّ لنا من استعراض أنواعه. هناك حبُّ صافٍ غير مشروط، وحبٌّ مشروط، وحبٌّ من طرفٍ واحد.
الحب الصافي غير المشروط؛ هو حبّ الأبوين لأبنائهم وحبّ الأبناء لأبويهم. هذا حبٌّ صافي غير مشروط، لا يأتي مع التجربة، ولست بحاجة إلى معرفة الطرف الآخر لتُحِبَّه. حبٌّ فطري لا سبيل للحياد عنه ولا إنكاره. الحبُّ المشروط هو الحب بين طرفين لأن كلاً منهما وجد في الآخر ما يرغبه، فهو مشروط بالرغبة وتحقيق ما يطلبه كل فرد من الآخر، وحين انتفاء هذه الشروط يزول الحب كما بدأ. أمّا الحب من طرفٍ واحد؛ فكما هو واضحٌ من اسمه، هو أن يحب طرفٌ طرفاً آخر دون علم الطرف الآخر بذلك الحب؛ أو لرفضه ذلك الحب. وهذا أصعب أنواع الحب، فمن يُعطي يريد أن يأخذ بالمقابل ودون أن يطلب، لأنّه لو طلب لانتفت البهجة من الأخذ وأصبح بلا قيمة عاطفية.
الرّقي في هذه العلاقات يكون في كل مناحي الحياة، الرّقي في الحب يكون في الترفُّعِ عن الشهوات، فلا يرى الحبيب محبوبه جسداً، ولا غاية له فيه إلا أن يكون معه. يعطي بلا مقياس ولا ينتظر المُقابل، سعادته تكمن في إسعاد الطرف الآخر، مجرَّد ابتسامة من شريكه تجعله أسعد المخلوقات، وحُزن الشريك يكون ضربة مؤلمة في أعماق قلبه. الحبُّ رُقي في التعامل المادي، فلا تكون المادة سبباً ولا هدفاً، إنما هي غاية لتحقيق سعادة الطرف الآخر. رقي في المشاعر، فلا يجرح الحبيب حبيبه ولا يؤذيه ولا يظلمه، ويرى الدّموع من الطرف الآخر كالخناجر تُمزِّق اوصاله.
رقيٌّ في العطاء، فلا حدود للبذْلِ بينهما، ولا وجود لكلمة "كفى". رُقي في الأخلاق، فكلاهما يحرص على أن يرتقي بأخلاقه من أجل الطرف الثاني، ويترفّع عن أي كلمة قد تؤذي مشاعره أو حتّى قد يكون لها معنيان. الحب هو المرادف للرُّقي التّام، سُمُوٌّ لا يُقابله سُمُو ولا يعلوه شيء، قمّة الرُّقي في الإحترام والتّقدير، فكلاهما يرى أنّ الطّرف الآخر أكثر مما يستحق؛ وأنّه فقط يحاول أن يرضيه. رُقي حتى في الخلافات، فلا تجد تجاوزاً ولا انتقاصاً من طرفٍ تجاه الآخر، وبعده يُسارع كل طرف لإرضاء الآخر، لماذا؟ لأنّه يحبّه.
كم هو جميلٌ الحب في معناه الراقي، وكل من جرَّبه في هذه الحالة هو من السعداء، فارتقوا إليه لترتقوا به، ابحثوا عنه ولا تفرضوه ولا تطلبوه، فالحب كالرزق، تسعى إليه لأنه لن يأتيك وحده، ولو طلبته لكنت شحاذاً، وأغلب الظن أن تسمع الطرف الآخر يقول لك: "الله يعطيك".
منقول