لقد أوصى الإمام الحسين اُخته السيّدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده عليه السّلام، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصيّة أمراً صعباً، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيّمات الإمام الحسين عليه السّلام، وبعد إحراق الخيام، وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء!
ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيّدة زينب، وتُخفي أنفسهنَّ خلفها، وكان الأطفال أيضاً يفزعون إليها ويتسترون وراءها ؛ خوفاً من الضرب بالسياط والعصي.
فكانت السيّدة زينب عليها السّلام تحافظ عليهم كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ؛ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال، وقد اسودّ ظهرها في مدّة زمنية قصيرة بسبب الضرب المتوالي على جسمها.
وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيّدة زينب تتفقّد النساء والأطفال، وتنادي كلّ واحدة منهنَّ باسمها، وتعدّهم واحدةً واحدة، وتبحث عمّن لا تجده مع النساء والأطفال.
ونقرأ في بعض الكتب: أنّ السيّدة زينب عليها السّلام لمّا بدأت بجمع العيال والأطفال، لم تجد طفلين منهم، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك، وأخيراً وجدتهما معتنقين نائمين، فلمّا حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش.
ولمّا سمع العسكر بذلك قالوا لابن سعد: رخصّ لنا في سقي العيال.
وذكر في بعض الكتب أنّ طفلين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين اسمهما سعد وعقيل، وأنّهما ماتا من شدّة العطش، ومن الدهشة والذعر بعد مقتل الإمام الحسين عليه السّلام، وهجوم الأعداء على المخيّم للسلب. وأمّهما خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام.
ليلة الوحشة
باتت العائلة المفجوعة ليلة الحاديّة عشرة من المحرّم بحالة لا يستطيع أيّ قلم شرحها ووصفها، ولا يستطيع أيّ مصوّر أن يصوّر جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة.
قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرّمة وهي تملك كلّ شيء، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً ؛ رجالها صرعى مرمّلون بدمائهم، وأطفالها مذبحون، والأموال قد نُهبت، والأزر والمقانع سُلبت، والظهور والمتون قد سوّدتها السياط وكعاب الرماح.
ليس لهم طعام حتّى يقدّموه إلى مَنْ تبقّى من الأطفال، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جفّ اللبن في صدورهنَّ جوعاً وعطشاً.
واستولت على العائلة وخاصةً الأطفال حالة الفواق، وهي حالة تشنّج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً، فتتشنّج الرئة، ويخرج النفس متقطّعاً.
يا للفاجعة! يا للمأساة! يا للمصائب! لا غطاء، ولا فراش، ولا ضياء، ولا أثاث، ولا طعام. قد أحدقت السيّدات بالإمام زين العابدين عليه السّلام وهو بقيّة الماضين، وثمال الباقين، وهنَّ يتفكّرنَ بما خبأ لهنَّ الغد من اُولئك السفّاكين.
فالفاجعة لم تنته بعد، والظلم بجميع أنواعه بانتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين، والحوادث المؤلمة سوف تمتدّ إلى غدٍ وما بعد غدٍ، وإلى أيّام وشهور، ممّا لا بالبال ولا بالخاطر. وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والآهات والدموع.
وحكي أنّ السيّدة زينب عليها السّلام تفقّدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة، وإذا بالسيّدة الرباب لا توجد مع النساء، فخرجت السيّدة زينب ومعها اُمّ كلثوم، وهما تناديان: يا رباب، يا رباب.
فسمعها رجل كان موكّلاً بحراسة العائلة، فسألها: ماذا تريدين؟
فقالت السيّدة زينب: إنّ امرأةً منّا مفقودة ولا توجد مع النساء.
فقال الرجل: نعم، قبل ساعة رأيت امرأة منكم انحدرت نحو المعركة.
فأقبلت السيّدة زينب حتّى وصلت إلى المعركة، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين (عليه السّلام) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح، وتقول في نياحتها:
وا حسيناً وأينَ منّي حسينٌ ***أقـصدَتْه أسـنّةُ الأدعياءِ
غـادروهُ في كربلاءِ قتيلاً *** لا سقى اللهُ جانبي كربلاءِ
فأخذت السيّدة زينب عليها السّلام بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال.
وفي هذا الجو المتوتّر، والوضع المقرح للفؤاد، يقول الإمام زين العابدين عليه السّلام: فتحت عيني ليلة الحاديّة عشر من المحرّم، وإذا أنا أرى عمّتي زينب تصلّي نافلة الليل وهي جالسة، فقلتُ لها: يا عمّة، أتصلين وأنت جالسة؟.
قالت: نعم يابن أخي، والله إنّ رجلي لا تحملني.
ترحيل العائلة من كربلاء
لقد جاؤوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله، فلا غطاء ولا وطاء.
آل رسول الله أشرف اُسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض، وكأنّهنَّ سبايا الكفّار والمشركين.
لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة، وكأنّهم يحاولون الانتقام منهنَّ، ويطلبون بثارات بدر وحنين.
وهل أستطيع أن أكتب هنا شيئاً من مواقف بني اُميّة تجاه آل رسول الله؟
والله، إنّها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون.
لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء.
عن كتاب ( أسرار الشهادة ) للدربندي: ثمّ أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب، بلا وطاء ولا حجاب، فقدّمت النياق إلى حرم رسول اللهصلّى الله علهي وآله وقد أحاط القوم بهنَّ، وقيل لهنَّ: تعالينَّ واركبنَّ، فقد أمر ابن سعد بالرحيل.
فلمّا نظرت زينب عليها السّلام إلى ذلك نادت وقالت: سوّد الله وجهك يابن سعد في الدنيا والآخرة! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله؟! فقل لهم: يتباعدوا عنّا ؛ يركب بعضنا بعضاً.
فتنحوا عنهنَّ، فتقدّمت السيّدة زينب ومعها السيّدة اُمّ كلثوم، وجعلت تنادي كلّ واحدة من النساء باسمها وتركبها على المحمل حتّى لم يبق أحد سوى زينب عليها السّلام ؛ فنظرت يميناً وشمالاً، فلم ترَ أحداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض، فأتت إليه، وقالت: قم يابن أخي واركب الناقة.
قال: يا عمّتاه، اركبي أنت ودعيني أنا وهؤلاء القوم.
فالتفتت يميناً وشمالاً فلم ترَ إلاّ أجساداً على الرمال، ورؤوساً على الأسنّة بأيدي الرجال، فصرخت وقالت: وا غربتاه! وا أخاه! وا حسيناه! وا عبّاساه! وا رجالاه! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله!
فأقبلت فضة وأركبتها.