شكوك حول مصدر إشاعة وفاة مبارك
لم تستطع وسائل الإعلام المصرية والعربية أن تذهب بعيدا بكاميراتها عن مئات الآلاف الذين تجمّعوا بميدان التحرير، اعتراضا على الإعلان الدستوري المكمل، حتى القنوات الموالية للنظام السابق، التي يتحكم فيها رجال أعمال مبارك، والتلفزيون الرسمي المصري لم تستطع تجاهل أصوات المحتجين في معظم المحافظات المصرية. شهدت مصر مليونية لم تشهدها منذ عدة أشهر، واجتمعت القوى الثورية من جديد حول هدف واحد هو إسقاط الإعلان الدستوري، ووقف الإخوان بجوار السلفيين وشباب الثورة واليسار والليبيراليين يهتفون ''يد واحدة''.
سوزان مبارك في مستشفى المعادي
تحوّلت القنوات التلفزيونية المصرية إلى منتديات تستضيف المحللين والسياسيين يتحدثون فيها عن مستقبل مصر في ظل رئيس بلا صلاحيات، وفجأة توقف كل هذا وتحولت الكاميرات إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي، فقد تم تسريب أخبار من وزارة الداخلية المصرية إلى الصحف تؤكد على أن الرئيس المخلوع أصيب بجلطة في المخ، وفشل ثمانية أطباء من مستشفى سجن طرة في إنعاشه.. الأخبار بدأت في التداول في الحادية عشرة مساء أول أمس، وتم نقله على جناح السرعة إلى مستشفى القوات المسلحة بمنطقة المعادي، جنوب العاصمة المصرية القاهرة. والصدف كثيرة في هذا الخبر لدرجة تجعلك تشعر بالشك، فالصدفة الأولى أن كاميرا إحدى القنوات الخاصة كانت تقف أمام مستشفى المعادي والتقطت صورا من زاوية بعيدة لدخول سيارة الإسعاف المستشفى، ولم توضح الصور وجه مبارك لأنها التقطت من بعيد، شكك الكثيرون في الخبر وقتها، قائلين إنه من المستحيل طبيا نقل مريض في سن مبارك بسيارة إسعاف وهو مصاب بجلطة في المخ، وهذا يعني طبيا انتشار الجلطة في مناطق أخرى، وربما تؤدي إلى وفاته، ففي مثل هذه الحالات يفضل الأطباء عدم نقل المريض وإسعافه بحقنة مذيبة للجلطة خلال ساعتين من الإصابة بها، ويتم وضعه في أجهزة التنفس الاصطناعي، وكل هذه الإمكانيات متوفرة في مستشفى سجن طرة، لكن هذه الأصوات لم تجد من يستمع لها في هذه اللحظات، فالكل كان يلهث وراء الخبر، وتركت الكاميرات ميدان التحرير لتذهب إلى مستشفى المعادي، وبعد دقائق خرج الإعلامي عمرو أديب في برنامجه وعلى مسؤوليته الشخصية، ليؤكد نبأ وفاة مبارك، ومن بعده أصدرت وكالات أنباء الشرق الأوسط خبرا يفيد بأنه مات إكلينيكيا، لتبدأ وكالات الأنباء في العالم تهتم، وأبرزت ''السي أن أن'' خبر وكالات أنباء الشرق الأوسط.
إلا أن إحدى كبرى مراسلات الـ''سي أن أن''، كتبت على حسابها الخاص على موقع التواصل الاجتماعي ''تويتر'' أن مبارك لم يمت إكلينيكيا، وأنه في حالة نفسية سيئة، من هنا بدأ الشك في مدى دقة هذا الخبر، فقد كتبت صحيفة ''نيويورك تايمز'' في صدر موقعها على الأنترنت (مبارك.. يقال إنه مات إكلينيكيا).
في الداخل، ذهبت مجموعة ''إحنا آسفين يا ريّس'' التي تدين بالولاء للمخلوع إلى المستشفى، وتجمّع العشرات منهم أمام الأبواب، ودخلوا في مشادات كلامية مع الشرطة، مطالبين بإغلاق الطريق المؤدي إلى المستشفى كاملا، لأنهم يخشون من هجوم شباب الثورة عليهم، لكن الشرطة رفضت، وتحوّل المستشفى في الثانية صباحا إلى ثكنة عسكرية، احتشد حولها العشرات من جنود الشرطة العسكرية والجيش والمدرعات، إلا أن هذه الحشود اختفت فجأة مثلما ظهرت فجأة صباح أمس، بعد ثماني ساعات فقط، وحسب التسريبات، فإن سوزان مبارك توجهت إلى المستشفى رفقة حماة ابنها جمال، ودخلتا عبر الباب الخلفي في حراسة مشددة، خوفا من أن يلحظهما أحد، ومثلما صعد الخبر بقوة الصاروخ وغزا الفضائيات هبط بنفس القوة، بعدما أنكر اللواء ممدوح شاهين، عضو المجلس العسكري في تصريح لـ''سي أن أن'' وفاة مبارك إكلينيكيا، وقال المسؤولون بوكالة أنباء الشرق الأوسط، جاء الخبر من أحد المراسلين ولم يتم تأكيده بشكل كبير، هذه النقطة تحديدا تعود بنا إلى ميدان التحرير.
''التحرير'' يصف خبر الوفاة بـ''الإشاعة''
استقبل مئات الآلاف خبر موت مبارك إكلينيكيا، بهتاف ''إشاعة'' وظلوا يهتفون نفس الهتاف الذي رج الميدان، وكتب بعض شباب الثورة لافتات قالوا فيها ''من يقول لك إن مبارك مات إكلينيكيا رد عليه وقل، أرفض الإعلان الدستوري المكمل''، ولافتة أخرى كتب عليها ''من يقول لك إنني أشعر بالتعاطف مع مبارك، فقل له وأنا أيضا أشعر بالتعاطف مع آلاف المصريين الذين ماتوا على أبواب المستشفيات دون أن يدخلوها، لأن ليس لديهم المال الكافي لتغطية تكاليف العلاج''.
الميدان لم يصدق خبر الوفاة واعتبره ورقة جديدة لصرف انتباه الرأي العام عن مطالب المعتصمين، خاصة أنه تم ترويج أكثر من عشرين إشاعة أول أمس، أطلقتها جهات بعينها بهدف إبعاد الأضواء عن ميدان التحرير، ومن أهم هذه الإشاعات القبض على خيرت الشاطر، نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين والرجل الأقوى بها، والدكتور محمد البلتاجي، القيادي بالجماعة وأقرب أعضائها إلى شباب الثورة، والتحقيق مع العاملين بالمطابع ''الأمرية'' بتهمة تزوير مليون بطاقة انتخابية لمحمد مرسي، وهروب شفيق من مصر بعد هزيمته في الرئاسيات، ولقاء سري بين رئيس مجلس الشعب المحل، سعد الكتاتني، وسامي عنان، نائب رئيس المجلس العسكري لعقد صفقة، وتم نفي هذه الإشاعات.. كثرة الإشاعات جعلت البعض يقول إن الصحفيين ماتوا إكلينيكيا من كثرة اللهث وراء هذه الأخبار الخاطئة، من هنا تبدأ خفة دم المصريين.
عندما يتحوّل خبر الموت إلى نكتة
لو أن هناك أرقاما قياسية عالمية حول العدد الأكبر من النكت التي صدرت في يوم واحد عبر التاريخ، لحققها خبر وفاة مبارك دون منازع، فلم تتوقف النكت والعبارات الساخرة لحظة واحدة، ومنها ''عاجل: مبارك يعقد مؤتمرا صحفيا بعد دقائق يعلن فيه خبر وفاته''، و''مرسي الرئيس الإكلينيكي لمصر''، و''السرير في تصريحات لوكالات الأنباء العالمية ينفي مسؤوليته عن وفاة مبارك''، و''الجميع يشعر بالسعادة في مصر، أنصار مرسي يحتفلون بفوزه وأنصار شفيق يحتفلون بفوزه، وكارهو مبارك يحتفلون بموته، ومحبو مبارك يحتفلون ببقائه على قيد الحياة''، ''الإخوان يحتفلون بفوز مرسي والفلول يحتفلون بفوز شفيق.. مبروك مصر ولدت توأما''.