غلغامش مع الشاعر الرصافي
الموت لصيق بالحياة والأموات ليسوا أمواتا في فيلم المخرج العراقي قاسم حول بل أرواح حية تعيش معنا وربما تلهمنا أيضا.
العرب - أمير العمري:كان من الأحداث السينمائية البارزة في احتفالية مؤسسة عبدالحميد شومان بالأردن، بمناسبة مرور 25 عاما على بداية نشاطها السينمائي، العرض العالمي الأول لفيلم “بغداد خارج بغداد” للمخرج العراقي الكبير قاسم حول. هذا الفيلم يلخص رؤية الفنان الكبير ويعكس خلاصة تجربته وفلسفته ورحلته الشاقة في الحياة. إنه عمل لا يشبه غيره، بل ويمكن اعتباره، بعمقه وبنائه الشعري وجمالياته، معادلا لفيلم “المومياء” المصري في السينما المصرية، فلا شك أنه عمل يتجاوز معظم مما ظهر من أفلام في السينما العراقية خلال السنوات الأخيرة، بل ويتجاوز كل ما سبق أن قدمه صانعه قاسم حول نفسه من قبل.
وفيه يرتدّ قاسم حول إلى الماضي، إلى تاريخ العراق، وتاريخ الشعر العربي في العراق، ليس ولعا بالتاريخ في حدّ ذاته، بل للتعبير عن تجربته الإنسانية الخاصة، تجربة العيش المحاط بالموت، وعن تأملاته في العلاقة بين الماضي والحاضر، ومغزى الغربة في الوطن وخارجه، وعذاب المنفى الذي يلقي بظلاله على تجربته. وهو خلال ذلك، يستدعي الكثير من مخزون تجربته الشخصية، يريد أن يستلهم من الماضي بقدر ما يرثي لما آل إليه الحاضر. والفيلم بهذا المعنى، أحد أكثر أفلام التعبير الذاتي جمالا في السينما العربية.
من قلب الأسطورة
يبحث فيلم “بغداد خارج بغداد” عن سحر بغداد ولكن خارج تلك المدينة التي شهدت عصورا ذهبية وشهدت ظهور الكثير من المواهب التي رسخت في الذاكرة الثقافية العربية. وهو يستلهم أسطورة “غلغامش”، نصف الإنسان ونصف الإله، الذي يتعذب بعد أن يشهد تجربة الموت بعد وفاة صديقه الحميم “أنكيدو” الذي يرفض أن يدفنه، تشبثا بفكرة الأبدية، فيترك جثته على الفراش تتعفن، ثم يذهب حزينا، ليبحث عن سرّ الخلود. وفي حانة ألهة الخمر السومرية “سيدوري”، يعرب لها عن خشيته من الموت، فتقول إن الموت قدر على الإنسان، وتنصحه بنبذ الحزن والاستمتاع بالحياة.
غلغامش هذا سيصبح هو “المراكبي” أو رجل القارب البيضاوي الذي يبحر في النهر بشخصيات الفيلم المختلفة، منتقلا عبر الأزمنة الحديثة والمختلفة في القرن العشرين، ليظل حتى النهاية يبحث دون جدوى عن سرّ الخلود، ويتلقى الحكمة من “سيدوري”. وغلغامش أيضا هو الذي يربط بين مفاصل الفيلم وفصوله وشخصياته المختلفة، والفيلم نفسه مصمم في بناء شعري، يدور حول ثنائية الحياة والموت، ولا يخضع لقصة واحدة ذات عقدة، ولا لحبكة تتصارع فيها الشخصيات، بل هو مجموعة من القصص التي تتداخل وتتقاطع دون أن تفقد وحدة الموضوع. إنه عرض رصين محمّل بالأفكار والمشاعر لمسار شخصيات بارزة في التاريخ الثقافي العراقي في ما بعد الحرب العالمية الأولى. هذا العرض يشمل المأساة والملهاة، الرقص والغناء، الموسيقى والشعر، تيمته الأساسية الموت: موت الإنسان وموت التاريخ!
عالم الشعراء
من مدينة أور حيث نترك غلغامش حتى حين آخر، إلى أمسيات ومجالس الشاعر الكبير جميل الزهاوي (1863- 1936) في أحد مقاهي بغداد، حيث كان يجلس صحبة الشــــاعر معــــروف الرصافي، وإبراهيم صالح شكر، والشاعر عبدالرحمن البناء، يتحدثون في الشعر والفن والسياسة ويلقون النكات. هنا نرى صورة الزهاوي كرجل شديد الزهو والاعتداد بنفسه، كيف لم يكن يسمح لأحد بالجلوس مكانه في المقهى، وكيف يمارس نوعا من الأبوية على الرصافي ويعتبره أحد تلاميذه في الشعر، ويقول إن أحمد شوقي ليس بأهمية “تلميذه” الرصافي!
مع الزهاوي وصحبه ننتقل إلى حانة من حانات ذلك العصر وصاحبها جعفر لقلق زاده (الذي يقوم بدوره قاسم حول نفسه في أداء مدهش) حيث ترقص راقصة تركية هي “مجيدة”، التي يتقاتل الرجال عليها، ويصفها جعفر مازحا، بأنها كانت أحد البنود الأساسية في معاهدة استقلال العراق بين بريطانيا وتركيا. ومنها إلى مشهد ساخر يكشف روح المرح التي يتمتع بها الفيلم، حيث يلقي الرصافي من شرفة منزله قصيدته في هجاء الحكومة القائمة تحت الانتداب البريطاني “علم ودستور ومجلس أمة/ كل عن المعنى الصحيح محرف/ أسماء ليس لنا سوى ألفاظها/ أما معانيها فليست تُعرف/ من يقرأ الدستور يعلم أنه/ وفقا لصك الانتداب مصنف”.. وينتقل قاسم بكاميراه من الشرفة في الأعلى إلى أسفل في حركة بطيئة لنشاهد جمعا من العراقيين يقوده جعفر، وهو يردّد هتافات تنادي بسقوط الاستعمار البريطاني في صورة كاريكاتيرية تعكس غياب الوعي السياسي وقتها.
يعبُر الفيلم فترات من حياة الشخصيات حتى نهاياتها، فنشهد موت الزهاوي وجنازته، ثم صعود نجم الرصافي (1875- 1945)، كما نشهد العرض السينمائي الأول في بغداد، بحضور الحاكم التركي رفقة الزهاوي وكيف يبدي تأففه وامتعاضه من الجلوس في الصفوف الخلفية، ويصرّ على الجلوس بالصف الأمامي إلى أن يكتشف أن الجلوس في المقاعد الأمامية مرهق للعين وللرقبة فيغيّر مكانه.
ننتقل أيضا إلى الاختراع الجديد أي آلة الحاكي أو “الغرامافون” ثم كيف يكتشف الجقمقجي الصوت الساحر للمغنية العراقية مسعودة العمارتلي التي كانت خادمة في أحد بيوت الأعيان بقرية من قرى الأهوار ويدعوها إلى بغداد فتذهب بعد أن ترتدي ملابس الرجال، وهناك ينتج لها بعض الإسطوانات لأغانيها وتصبح معروفة باسم مسعود العمارتلي، وتذيع شهرتها باعتبارها رجلا، إلى أن يكتشف أمرها على الأغلب، فتموت مسمومة في ما يشير إليه الفيلم بأنه نتيجة مؤامرة للخلاص منها.
يكمل الرصافي مسيرة الشعر العراقي، ويصور قاسم تأثره بمنظر امرأة فقيرة معدمة تحمل طفلا رضيعا شاهدها تستجدي المارة في شوارع بغداد، فكتب قصيدته التي يقول فيها (ونسمع مقطعا منها في الفيلم) “تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها/ أثوابها رثة والرجل حافية/ والدمع تذرفه في الخد عيناها/ بكت من الفقر فاحمرت مدامعها/ وأصفر كالورس من جوع محياها/ مات الذي كان يحميها ويسعدها/ فالدهر من بعده بالفقر أنساها”.
وفاة الرصافي
وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها بلاغة، نشاهد الرصافي متوجها إلى بيته ليلا، يعتمد على عصاه بعد أن تدهورت صحته، يتوقف ليجلس على مقعد خشبي، وهو يردد قصيدته “لهذا اليوم في التاريخ ذكر”: “كم أستغيث ولا مغيث/ وأدعو من أراه فلا يجيب/ أقمت ببلدة مُلئت حُقودا/ عليّ فكل ما فيها مُريب”.
ينهض ويواصل السير، ثم يدلف من فتحة باب يؤدي إلى سلم منزله ليصعد بصعوبة وهو مستمرّ في ترديد أبيات القصيدة “أمُرّ فتنظر الأبصار شَزرا/ إليّ كأنما قد مرّ ذيب/ وكم من أوجُه تُبدي ابتساما/ وفي طَيّ ابتسامتها قُطوب”.
تتحرك الكاميرا إلى أعلى تدريجيا وببطء، لنراه وقد بلغ أعلى السلم، وتقترب الكاميرا منه تدريجيا وهو يتجه نحوها سائرا في الشرفة الخارجية العريضة للمنزل ثم يتوقف ليكمل قصيدته بصعوبة “سكنت الخان في بلد كأني/ أخو سفر تَقاذَفُه الدروب/ وعشت معيشة الغرباء فيه/ لأني اليوم في وطني غريب”.
وعندما يصل إلى نهاية هذا البيت يلتفت ويفتح باب المنزل ويدخل ويغلق الباب وراءه. وعلى الفراش في الداخل نراه ممددا بينما تتحرك الكاميرا إلى اليسار ببطء لنرى جسده بكامله ممددا، إلى أن تتوقف الكاميرا وراء منضدة عن الحركة لتختفي صورة الرصافي ثم ننتقل إلى مشهد جنازته.
تختلط القصص وتتداخل بشكل مقصود، فقاسم حول، حريص على الربط بين حلقات التاريخ الذي يخشى عليه من الضياع، ولذلك سوف نرى غلغامش مرة أخرى في تلك “الطوافة” الجميلة الصغيرة من العصور السحيقة وهي تلف وتدور فوق صفحة مياه النهر، ويبدي غلغامش لسيدوري حزنه الشديد على وفاة “صديقه الرصافي” -هذه المرة- وكيف أنه عندما رأى جسده يوارى التراب فقد الرغبة في الحياة، فتقول له سيدوري إن هذا هو حال الدنيا، وإنه يجب أن يعرف كيف يسعد وكيف يُسعد الآخرين من حوله.
الموت
الموت لصيق بالحياة، والأموات ليسوا أمواتا في فيلم قاسم حول بل أرواح حية تعيش معنا وربما تلهمنا أيضا، كما يقول الأستاذ إبراهيم لغلغامش في مشهد آخر عندما يصف الميت بأنه نائم، وعندما يقول له غلغامش.. ذلك الباحث الأبدي عن سرّ الحياة والخلود، إن النائم يستيقظ في الصباح بينما الميت لا ينهض، يجيبه بأن النائم يستيقظ ثم يموت، وأن هذه هي الحياة. ثم يصف له كيف يسمع أصوات النائمين على مدى البصر في الليل، وكيف أن رسالتهم للأحياء واضحة وملخصها أن عيشوا الحياة وافهموا معناها.
يتعمق مغزى العلاقة بين الشعر والموت في الفيلم، في الفصل الذي نرى فيه الشاعر بدر شاكر السياب (1926-1964) وهو ذاهب إلى الكويت رفقة سائق تاكسي لا يعرف حقيقته، بل يسأله ما إذا كان يعرف القراءة والكتابة، مبديا استنكاره الشديد لذهاب العراقيين للعمل خارج البلاد. وفي المشهد التالي مباشرة نرى السائق نفسه عائدا بسيارته صحبة شاعر كويتي بينما وضع فوق السيارة نعش جثمان السياب. يعترف السائق الآن بأنه لم يتعرف على السياب عندما قام بتوصيله من قبل إلى مقصده، ويبدي تحسره على مصيره، على ذلك الموت في المنفى، مؤكدا أن العراقي يجب أن يعيش في وطنه، ويموت في وطنه. تهطل الأمطار بغزارة في الصحراء، يهبط الرجلان.. يطلب السائق من الشاعر الكويتي، أن يغطي نعش السياب ليحميه من المطر، لكن الرجل يجيبه أن السياب كان يحب المطر، إشارة إلى قصيدته الشهيرة “أنشودة المطر” (1960).
في المشهد الأخير من الفيلم نشاهد رجالا أقرب إلى الأشباح يصعدون سلما أسطوريا شامخا منتصبا وسط الجبال، وكائنات أخرى تهبط.. ظلمة الليل لا تجعلنا نتبين تماما طبيعة هذه الأشباح. إنها منطقة المقابر وهناك رجلان يتهامسان داخل بقايا غرفة من العصور السحيقة: حارس المقابر ورجل يسأله عن طبيعة المكان والحارس يقول له إن المكان مسكون بالأرواح، وإنه يشاهد أناسا قادمين من عصور أخرى قديمة، ويسمع أصواتا تتهامس في الليل، ويرى شخوصا يدلفون إلى الغرف، وعندما يسأله لماذا لا يطلق النار عليهم فربما هم من اللصوص يجيبه في بلاغة وشموخ: لا يمكنني ذلك؛ لا أستطيع أن أقتل أسلافنا… لقد ذهب التاريخ وأخشى أن تختفي الجغرافيا أيضا.
إنها بلا شك صيحة قاسم حول في فيلمه، وتحذير ساخر مما يمكن أن يلحق ببلده بعد كل ما وقع هناك.
أسلوب شعري
يتناسب إيقاع الفيلم الرصين المحكم مع أسلوب التعبير الشعري الذي يطغى على الفيلم، وعندما نقول التعبير الشعري فليس المقصود استخدام القصائد الشعرية في الفيلم، بل التعبير بالبناء، بحركة الكاميرا، بتكوين اللقطات وضبط التكوينات في المشاهد الداخلية رغم الحركات المعقدة للكاميرا (مشهد الراقصة داخل الحانة مثلا)، بزوايا التصوير الغريبة التي تعكس رؤية أكثر مما يقصد منها تحقيق الانتقال غير المحسوس بين اللقطات، والمونتاج الذي لا يتبع الطريقة الانسيابية في القطع والانتقال من مشهد إلى مشهد، فنحن على سبيل المثال نرى سيارة التاكسي تنقل السياب إلى الكويت، وبعد ذلك مباشرة نراها في الاتجاه العكسي، دون تمهيد ودون لقطات دخيلة توحي بمرور الزمن، بين المشهدين، وهو أسلوب مقصود لخلق الإحساس بذلك الارتباط والتلاحم في الزمن.
نحن أمام أسلوب خاص في خلق الصورة الشاعرية يعتمد أيضا على التحكم في حركة الممثلين دون أن يضطرب الإيقاع داخل المشهد، بل بالمحافظة على الإيقاع العام للفيلم، كما يتحكم المخرج في نظراتهم وطريقة تبادل الخطاب بين بعضهم البعض، والاعتماد على حوار بليغ مكتوب ببراعة، يوجز ويعبر دون صياح أو شروح طويلة، يوازي في جماله الطابع الحالم للفيلم ولغة الشعر التي تلفه. هذا الأسلوب المتبع في الصورة والحركة والمونتاج، يبدو بالطبع مخالفا للواقع، للأسلوب الواقعي، فلسنا بصدد قصة سينمائية واقعية، بل صورة شعرية يختلط فيها الشعر بالصور، بالموسيقى المعبرة الحزينة التي تمزج بين نغمات العود والبوق، بالحكايات الأثيرة، بالشخصيات التي نجح السيناريو في أن يكسيها الحياة، جعلها قريبة منا وجعلنا قريبين منها ، فغلغامش مثلا، فلاح عراقي أو رجل بسيط، يبحث، وسيظل يبحث، عن حقيقة لغز الموت ومعنى الحياة.
يستخدم قاسم حول الكاميرا برصانة فلا يغالي في تحريها وإنما يستخدم حركتها لخلق تلك العلاقة العضوية بين الشخصيات والمكان، كما يستخدمها للتعبير عن فكرة المسار في الزمن، فالفيلم كله قائم على فكرة تعاقب الزمن، وتعاقب حلقات التاريخ، وترابطها وهو يربط بينها من خلال شخصية غلغامش المعذبة تماما مثل الشخصية العراقية نفسها، ويرصد قاسم رحلة الوعي بالصورة وبالصوت، في السينما والموسيقى والغناء، وقدرة المخيلة الشعرية على التعبير عن الحس المأساوي الكامن في الحياة، وعن ذلك الشعور بالغربة في الوطن التي كتبت على العراقيين. ولاشك أن قاسم يعبّر، عبر ذلك، عن حزنه الشخصي وعذاباته الكامنة، بعد كل تلك السنين التي اضطرّ فيها للعيش بالمنفى، وعاد لكي يشعر بمرارة الحسرة على كل ذلك الزمن الضائع.
كاردينيا