عائلة/ إسحاق نسيم 1946
مذكرات طفلة يهودية في عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم
الكاتب مازن لطيف
يعد عهد الزعيم عبد الكريم قاسم عصراً ذهبياً ثانياً بالنسبة ليهود العراق فقط كان عهد الملك فيصل الأول هو العصر الذهبي الأول لهم ..
الملك فيصل الأول مع عدد من شخصيات يهود العراق
في ذكريات لسيدة فاضلة لا تريد ذكر اسمها"ر.خ" تروي انها ولدت في العراق عام 1951 وكان عمرها سبع سنين عند قيام ثورة14 تموز عام 1958 ولازلت حتى اليوم تتذكر كيف كان والدها يحملها صباح يوم ذلك حيث نزلا من السطح عند سماع الاطلاقات النارية من بعيد.
وسرعان ما فهمت تلك الطفلة ذات السنين السبعة ما يجري حولها. لقد اصبح العراق جمهورية وسقطت الملكية، وأنباء الثورة كانت تبث في الراديو.
ومما تتذكره من اول ايام الثورة نشوب الحريق الهائل في مخازن النفط في ظهرية يوم الخميس عندما كانت تتناول وجبة الغداء المؤلفة من البيض المسلوق واللوبيا. فقد كان من احد عادات اليهود أكل وجبة لا تحتوي على اللحم في ايام الخميس. وأصابها الذعر ككل الناس في منطقة "بستان الخس" التي كانت تسكنها، اللذين تركوا ديارهم راكضين للابتعاد قدر الامكان. وأخذت والدتها ما كان لدينا من نقود في الدار وقفلت الباب وخرجوا للشارع.
وقد تأثرت جدا لمنظر جدتها المعاقة تلفها العباية السوداء وهي تحاول ان تسرع خطواتها قدر امكانها. وبعد السير مسافة ما في الشارع ولحسن الحظ ركبوا التكسي وذهبوا لأقربائهم الساكنين في منطقة المسبح. وسرعان ما هدأت الامور وعادوا لبيتهم .
كان اهل تلك الطفلة عائلة ذات مستوى ثقافي راق وكانوا يفسرون لها ولاخوتها ما يدور في البلاد بجانب تفسير مصطلحات واسماء التي لم تسمعها من قبل مثل الاستعمار والاقطاع والرجعية. وسرعان ما فهمت هي وغيرها من الاطفال بان هذا العهد الجديد مبارك وفيه الخير لكافة ابناء الشعب العراقي بما فيهم اليهود. وعمت الفرحة بجمهورية العراق وبزعيمها المبجل عبد الكريم قاسم. وصارت تتسابق مع الأطفال من يرسم شعار الجمهورية بصورة دقيقة ويعرف كل ما يحتويه ويمثله الشعار.
العام الاول للثورة:
كبرت الطفلة عام وأصبح عمرها ثمانية اعوام ولازلت حتى اليوم تشعر بالسعادة التي غمرتها في حياتها، كيهود خاصة في ذلك العصر فقد اصبحت تعي بانها وطائفتها اصبحوا احرار ولاتوجد تفرقة بينهم وبين باقي ابناء الشعب. (نعم لقد أعاد الزعيم لليهود العراقيين حقوقهم كمواطنين بعد ان كانت مسلوبة منهم في العهد البائد وهي اعادة حق التعلم في الجامعة واعادة جواز السفر لخارج العراق).
فصار اليهود يسافرون للاصطياف في لبنان بعد ان كان ذلك محظورا عليهم ودخلوا جامعة بغداد وتعلموا الطب وكافة الدراسات العليا بدون أي قيد او شرط.
تروي "ر.خ" ان مدرستها " فرنك عيني" كانت تقيم في عهد الثورة كل سنة حفلة لتوزيع الجوائز على الطلاب الممتازين في صفوفهم لتشجيعهم وحثهم على طلب العلم. كانت هذه الحفلة تدعى "حفلة جوائز نقار" وكانت تقام في حديقة المدرسة الكبيرة. هذه الحفلة السنوية كانت برعاية الحاخام ساسون خضوري ومدير المدرسة الاستاذ عبد الله عوبديا. وكان الطلاب الحائزون على الجائزة في تلك السنة يقدمون للمسرح بملابسهم البيضاء وعلى صدورهم الأوسمة ، وسام الاولية والامثلية ووسام صاحب احسن خط واحسن انشاء.. الخ.
كانوا يسيرون بمسيرة ليصلوا المسرح وسط التصفيق. كانت هذه الحفلة تقام في بداية شهر حزيران. وتذكر الطفلة انه في عام 1959 كانت حفلة وحيدة من نوعها، حيث انها كانت برعاية سيادة وزير المعارف آنذاك. ولازلت تتذكر كيف ان الشبان اليهود تعمهم الفرحة وقاموا بتزيين الحديقة بالاعلام والورود والاضواء الملونة. وكان الخوف من ان تهب ريح شديدة في تلك الامسية ، وما تزال تتذكر الجملة التي قالها احد هؤلاء الشبان بصوت عالي:
"يا رب لا تكن رجعيا ولا تدع للريح الهبوب ويضيع كل تعبنا"
الاستعداد للاحتفالات بمرور عام على الثورة :
تروي السيدة الفاضلة"ر.خ"في مذكراتها ان العطلة الصيفية لمدرستها "فرنك عيني" تفتح ابوابها لا للدراسة وانما للاستعدادات اللازمة للاشتراك بالمهرجان الشعبي يوم 15 تموز 1959. واجتمع عدد كبير من الطلاب الصغار والكبار في قاعة المدرسة وتعلموا كيف تصنع الازهار من الورق الملون. لقد قمنا بعمل الآلاف من هذه الورود لكي يزين بها الشاحنة المفتوحة التي اشتركت باسم الطائفة اليهودية في العراق في الموكب. وخيطت لهم الملابس الزاهية. لها ولزميلاتها كل حسب موقعه في الموكب، وعلموهم اداء الرقصات. بكل هذه التحضيرات اشترك الطلاب والمعلمون وكانوا فرحين جدا.
الرئيس /عبدالرحمن عارف والحاخام ساسون خضوري
في الساعة الثامنة من صبيحة يوم 14 تموز 1959جرى حدث وحيد من نوعه لأعلان أفتتاح الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة:
فقد دقت صافرات الانذار ونواقيس الكنائس وأصحاب التاكسيات دقوا ابواق السيارات، وكل فئة وطائفة اعلنت قبل الموعد كيفية مشاركتها بهذا الحدث بما يميزها عن غيرها. وما كان من جانب رئيس الطائفة الحاخام ساسون خضوري ألا وأمر بفتح ابواب الكنيس والقيام بصلاة خاصة ترتل بالمناسبات السعيدة لمدح الرب، وفي الساعة الثامنة بالضبط سمع صفير "الشوفارات" الخاصة بهم كيهود.
الشوفار ( Shofar) هو قرن الكبش والصفير فيه له صوت مدوي لكي يسمع في جميع الأنحاء، عليهم أن يصفرو فيه بالصلاة بمناسبة رأس السنة العبرية وبمناسبة عيد الغفران.
وتعتقد الطفلة ان هذا اليوم هو الحدث فريد من نوعه في جميع انحاء العالم ، وان يدل على شيء ، يدل على مدى اندماج الطائفة اليهودية مع الشعب العراقي، بحيث اقامت وزن للأحتفال بالثورة بوزن الاعياد المقدسة، وعلى مدى فرحتها بهذه المناسبة السعيدة.
ذهبت الى المدرسة مساء يوم يوم 14 تموز 1959ومن المدرسة نقلوها الى جانب الكرخ حيث اجتمعت جميع المواكب المشتركة بالمهرجان. لقد كان ليل ابيض، جلست على قارعة الطريق ومرت من امامها مجموعات مختلفة من كافة ابناء الشعب، ممن يدق الطبول وممن يركب الحصن ويحمل البيارق والاعلام، وممن يغني ويصفق وممن يهلهل. ولم يغفو لها ولغيرها جفن. وفي صباح يوم 15 تموز 1959بدأت المسيرة. كان موقعها مع اربعة من البنات بنفس عمرها ببداية الموكب بفساتينهم البيضاء والحمراء يرقصون، تتوسطهم طالبة خلابة الجمال اكبر منهم عمرا. وخلفهم فتيات يرقصن مع زهور كبيرة تم صنعها في المدرسة، وخلفهم الشبان حاملي الأعلام ، وبعدها الشاحنة المزوقة وعليها ديكورات وبنات بعمرها يرتدين فساتين بيضاء ناصعة يمثلن حمامات السلام. عبروا جسر الجمهورية ووصلوا الى ساحة التحرير لكي يحيون الزعيم الاوحد. وواصلوا المسيرة في شارع الرشيد، وسط تصفيق الجماهير المحتشدة على جانبي الطريق.
المؤامرة الشنيعة لاغتيال الزعيم :
تذكر انه عام 1959 تعلمت مصطلح جديد "مؤامرة" التي ابتغت اغتيال الزعيم ولكن بقدرة قادر نجي من وابل الرصاص الذي امطر عليه. ونام جريحا في مستشفى دار السلام للعلاج وعرضت سيارته المنقبة بالرصاص في باحة المستشفى.
واخذها امها مع اخيها الصغير الى هناك في احدى الامسيات ووقفت مع الحشد الكبير الذي اجتمع في مدخل المستشفى يتطلع نحو الشرفة عسى ان يخرج الزعيم الجريح ويلوح بيده السليمة لتحية الجمهور. ولكنه لم يفعل ذلك في تلك الامسية، فرجعت على اعقابنا قبل غروب الشمس.
وهنا تتذكر وتقول اننا سرنا على الجانب الايمن من الطريق التي ادت الى منطقة العلوية قرب مستشفى كمال السامرائي لكي نركب باص الامانة الذي يوصلنا للبيت.
وفي الجانب الايسر للطريق كان جنديين يقودون امرأة فاقدة البصر. وكانت هذه اول مرة ترى فيها امرأة عمياء. كانت تقول بصوت عالي "أريد ان ارى الزعيم، أريد ان ارى الزعيم" ومما اتضح أن الجنود وعدوها باخذها اليه ولكنهم قادوها الى الخارج لكي يبعثوها بالباص الى بيتها. وما ان سمعت صوت باصات الامانة باقترابها من الشارع العام حتى اصابها الهيجان وصارت تصرخ وتريد ان تخلص نفسها من ايدي الجنود وتقول لهم لماذا كذبوا عليها لانها عمياء! وصارت تبكي بحرقة قلب " قلت لكم باني اريد ان ارى الزعيم". ...
بداية النهاية والنهاية المؤلمة :
كان في دارهم الصغيرة صورة كبيرة للزعيم بملابسه العسكرية ولازالت تتذكر كيف كان يقول لها والدها:
"انظروا يا أولاد، أن حياتنا كيهود هنا في العراق معلقة بهذا الحبل ( الحبل المعلق بين كتف الزعيم الى تحت ابطه) فان قطع هذا الحبل (يقصد بذلك ان لاسامح الله يسقط) فسوف تنتهي حياتنا معه".
لم تعرف آنذاك لماذا قال ذلك ولكن غرس فينا كأطفال الخوف من ان يقع أي شر للزعيم.
تواصل "ر.خ" قائلة:
ولشديد الأسف حدث هذا الحدث الأليم في السنة الاخيرة لحكمه:
أراد تشييد أعلى برج في العالم أعلى من برج ايفل في منطقة حيث كانت مقبرة اليهود العتيقة التي يعود عمرها الى نحو 400 سنة، والتي دفن فيها كبار الحاخامات ورجال الدين في كل هذه الفترة الطويلة. فطلب من رئيس الطائفة الحاخام ساسون باخلاء المقبرة. أن هذا العمل محظور في الديانة اليهودية وعقاب كل من يحرك عظام الموتى ويقلق راحتهم الابدية يكون عقابه وخيم وهذا شيء معروف.
فذهب وفد من اليهود الى الزعيم واوضحوا له اهمية وخطورة الموضوع، ولم يفد ذلك. قال لهم انه سيوفر لهم كل ما يتطلبون من عمال ومكائن لكي يتم الاخلاء خلال ثلاثة اشهر. وأصاب اليهود حزن شديد، فصاموا وصلوا لكي يبعدون هذه الكارثة التي قد تؤدي بحياة من أحبوه حبا شديدا. وبعثوا اليه امه بالرضاعة التي سقته من حليبها، لكي تقول له: "أسمع يا أبني أن والد اخوك بالرضاعة مدفون هناك وهذا العمل محظور تماما ونتيجته وخيمة جدا" ولم يفد ذلك ايضا.
وبدأ اليهود بالعمل المشؤوم الذي انزل عليهم بأمر القائد، وهو نقل موتاهم الى المقبرة الجديدة بطريق المعسكر. وشعروا بألم وحزن.
وتختم ر.خ ذكرياتها عن تموز قائلة:
وهكذا كان المصير المحتم لحزننا جميعا على من دللنا واحبنا كيهود واحببناه كقائد محنك وصلينا من اجله. وهكذا انتهى العصر الذهبي ليهود العراق، وتحققت نبؤة والدي بان حياتنا كيهود على ارض العراق قطعت مع انقطاع حبل ملابسه العسكرية. فبدأت أوضاعنا بالتدهور ووصلت اوجها بعد حرب الستة ايام عام 1967. وهكذا أجبر من تبقى من اليهود أن يهاجر العراق في اول فرصة تتاح لهم