أحد الأسباب الرئيسة لقيام الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) يكمن في تحرير الإنسان، وكما هو ثابت في علم الاجتماع فإن الإنسان يشكّل وحدة أساسية في بنية المجتمع، فأيّ ضعف يتسرب إليه يؤثر سلباً على الآخرين، ويتضاعف الضعف إذا انعدمت في المجتمع عوامل النهوض، وفي مقدمتها القيادات الحكيمة.
وقد سعى معاوية إلى اغتيال القيادات الحكيمة بخطط لئيمة، وحيث أفرغ المجتمع الإسلامي من قياداته المتألقة كالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)[1]، والإمام الحسن (عليه السلام)، ومالك الأشتر، وحجر بن عدي، وعمار بن ياسر، وخزيمة ذي الشهادتين، وكثير من الصحابة[2].
فبات المجتمع الإسلامي قفراً من القيادات وقد أحدث فراغاً كبيراً وفي ضوء هذه الخطة الخبيثة استولى معاوية على سدّة الحكم، واستطاع أن يحكم البلد الإسلامي، ويا للمهزلة.
وبإزاحة القيادات العملاقة استطاع معاوية أن يكبّل الإنسان المسلم بقيود مهينة، ثم يجهز على شخصيته كي يعيش ذليلاً لا يشعر بمعانيه الإنسانية.
يقول الكاتب الأستاذ القرشي:«ولم تملك الأمة في عهد معاوية ويزيد إرادتها واختيارها فقد كانت جثة هامدة لا وعي فيها ولا اختيار، قد كبلت بقيود ثقيلة سدت في وجهها منافذ النور والوعي، وحيل بينها وبين إرادتها، لقد عمل الحكم الأموي على تخدير المسلمين وشلّ تفكيرهم، وكانت قلوبهم مع الإمام الحسين (عليه السلام)، إلا إنهم لا يتمكنون من متابعة قلوبهم وضمائرهم فقد استولت عليها حكومة الأمويين بالقهر»[3].
وقد أصبح المسلم في عهد معاوية ويزيد جثة هامدة لا حراك فيها وهذا أخطر ما يتعرض له الإنسان، فعندما تتلاشى الإرادة لا يملك الإنسان بوصلة التوجيه فلا يهمّه في أيّ فج يكون، ويظلّ الإنسان ينحدر كلما اضمحلت إرادته فيفقد القدرة على المجابهة.
لقد نهض الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) ليضخّ الكرامة في عروق الأمة كي تستعيد إرادتها؛ فكان لابدّ من حدث كبير يهزّها من الأعماق، ويوقظ فيها الروح الإنسانية، وكما هو واضح في واقع النهضات أنّ الواقع العملي هو الذي يبعث الروح ويبث الحياة في القيم ويوقظ الإحساس عند المجتمع، وبقدر ما يتعمق الواقع في حياة الثوّار تتجلى الآثار بقوة في حركة المجتمع.
إنّ الواقع العملي وحده يصنع العلاقة بين المجتمع والقيم بالذات إذا كان المجتمع يمرّ بانعطافة خطيرة، لذلك فإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) أكّده في حياته، فبرز بشكل واضح وبمعانٍ كبيرة.
وتجلّت القيم الإلهية في كربلاء بكل إشراقاتها حتى أضحت عنواناً عريضاً يعلو جبين الزمان؛ فالعمل الخالص يظل يرتفع عن كل أشكال النصب والعداء.
قال تعالى: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [4].
نعم فإن العمل الصالح يظلّ يرتفع في كل حين حتى يصبح حقيقة وواقعاً حياً، وحجّة على المتقاعسين ومن يتوانى عن نصرة الحق.
إنّ ثورة كربلاء بقيمها الفذة وواقعها الحي لم تبق حجة لأحد كي يتقاعس ويضنُّ بنفسه وماله، أو يتعلل، فكربلاء أوصدت الباب أمام كل الأعذار، لذلك فإنّ ثورة كربلاء تبقى الحجة الكاملة في كل زمان ومكان حتى قيام الإمام الحجة (صلوات الله عليه) ليقيم بناءه الشامخ على صرحها كي تتكامل الحجج وتأخذ صورتها الحقيقية.
إنّ ساحة كربلاء أضحت في يوم عاشوراء موئلاً لكلّ القيم الحقّة، فهي كانت على موعد مع قيم البطولة والشهامة والرجولة والعفة والاستقامة.
حتى قال العقّاد في كتابه (سيد الشهداء الحسين بن علي): «إنّ كل القيم الحقة كانت تتسابق في ساحة كربلاء، فالبطولة كانت في سباق مع الشهامة والرجولة مع الإيثار والجود مع العفة»[5].
وحتى يعمّق الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) الواقع الحسيني؛ فقد أعطى كل ما يملك من قيم وأخلاق وصفات عالية، فبلغت القمة، وستبقى قيم الإمام الحسين (عليه السلام) تتربّع القمة وتعتلي عرش الفضائل؛ لأن كربلاء هي المحك لقيم الحق والباطل.
لقد أصبحت مخزناً عظيماً يضخّ العزم والقوة في عروق الأمة، بالذات في الأزمات، وهذا شيء فريدٌ.
وتظلّ نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) تضخّ قيم البطولة ؛ لذلك نقول: إنّ كل من يريد العزّة والشموخ عليه أن يشدّ الرحال إلى كربلاء الإمام الحسين (عليه السلام) وينهل من نميرها الرقراق ونبعها الثر، ونصيحتي لمن يشكو علة الضعف والإرادة ووهن الشخصية الذهاب إلى كربلاء الحسين (عليه السلام)، وقد رأيت بأم عيني الحسينيين في مواقف البطولة أشد عزيمة، وأمضى جناناً، إنّ الحسينيين لم ولن يعرفوا معنىً للجبن والوهن.
وتعمّقت قناعتي عندما رأيت الملايين تتجه صوب كربلاء بكل عزم وصلابة، وقد سحقت جميع العقبات، هذا وقد أظهرت الجموع حقيقة مهمة تكمن في نفاذ البصيرة وعمق الإيمان، ألم يقلْ الإمام الصادق (عليه السلام): «كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الإيمان،جاهدَ مع أبي عبد الله وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً»[6].
يقول الشيخ محمد الغزالي: «ليس قيمة الإنسان فيما يصل إليه من حقائق وما يهتدي إليه من أفكار سامية، ولكن في أن تكون الأفكار السامية هي نفسه، وهي عمله، وهي حياته الخارجية كما أنها حياته الداخلية، فالفكر بلا عمل مناقشات بيزنطية، أو بحوث جامعية، أو ألعاب بهلوانية، إنما قوة الفكرة وأحقّيتها بتحويلها إلى عمل ووضعها مع التجربة.
وإذا اعتقدها الإنسان، فمعناه أن يعمل بها، وإذا دعا إليها، فمعناه أنه جرَّبها في نفسه وبنفسه فوجدَها صالحة، وما عدا ذلك فشقشقة ألفاظ، وملء مجالس، وإظهار تظرّف، ومباهاة بالقوة العقلية، أو القدرة الجدلية، ومقدمة بلا نتيجة.
إنّ عيب المبادئ السامية كـ(حقوق الإنسان)، و(عصبة الأمم)، و(ميثاق الأطلسي)، و(حماية الأقليات)، و(حقوق الأمم الصغيرة)، و(العدالة الاجتماعية)، ونحو ذلك، إنها أفكار لم ترتبط بالعمل ولم تعبر حقيقة نفس قائلها، وإن عبرت فلم تعبر عن نفس من يملكون تنفيذها، وستظل عديمة القيمة ما لم ترتبط بالعمل»[7].
الكاتب / الشّيخ حسن الشّمّريّ
ــــــــــــــــــــ
[1] سيرة الأئمة الاثني عشر: السيد هاشم معروف الحسني، ج1.
[2] الإصابة في تمييز الصحابة النصائح الكافية.
[3] حياة الإمام الحسين (عليه السلام): الشيخ باقر شريف القرشي، ج2/ص278.
[4] فاطر: ١٠.
[5] سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام): عباس محمود العقاد.
[6] شرح الأخبار: القاضي نعمان المغربي، ج3/ص184. عمدة الطالب: ابن عنبة، ص356. سر السلسلة العلوية: أبي نصر البخاري، ص89. مستدركات علم رجال الحديث: الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ج4/ص350. أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين، ج7/ص430. مقتل الحسين: أبو مخنف الأزدي، ص173. الأنوار العلوية: الشيخ جعفر النقدي، ص441.
[7] ركائز الإيمان بين العقل والقلب: الشيخ محمد الغزالي، ص112، دار الاعتصام.