قال (توماس كارليل) في كتابه (الأبطال):
(الرجل العظيم في نظري مخلوق من فۆاد الدنيا وأحشاء الكون فهو جزء من الحقائق الجوهرية للأشياء).
فمحمد رسول الإسلام (عليه الصلاة والسلام) كان كذلك، وكان فوق ذلك، الرجل العظيم الذي علّمه الله العلم والحكمة، وما كلمته إلا صوت صادق صادر من السماوات العلى).
نقول: إن اعتراف كارليل هنا أيضاً منبعث عن دراسته العميقة لشخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كسائر اعترافاته القيمة التي عرفناه بها، إنه يريد بقوله (الرجل العظيم الذي علمه الله العلم والحكمة) معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصف حقيقة معارفه وعلومه: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) لا غير، لأن كارليل يعترف بان رسول الإسلام، (عليه الصلاة والسلام) كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، حكمة الله العليم الحكيم، التي تتعلق بصدق نبوته ورسالته.
يشير بقوله وما كلمته إلا صوت صادق صادر من السموات العلى) إلى قول الله سبحانه في وصف كلمات رسوله (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتابه (الأبطال، وديانة الأبطال):
(أي شئ أكبر دلالة على صدق من يدّعي لك أنه بنّاء ماهر من أن يبني بيديه داراً تقاوم العوادي أكثر من ألف ومائتي سنة، وهي تسع نحو مائتي مليون من الناس؟.
كذلك لا شئ أكبر دلالة على صدق نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يۆسس ديانة تجد فيها نحو مائتي مليون من الأنفس غذائها الروحاني، وتقاوم عوامل التحليل أكثر من اثني عشر قرناً).
نقول: إن اعتراف كارليل اعتراف يستحق التقدي، ولكنه قليل في حق نبي الإسلام (عليه الصلاة والسلام)، فإنه ليس بمۆسس دين يقوم على اساس من الوحي السماوي فحسب، ولكنه صاحب الدعوة العالمية الكبرى،
التي دوت في أرجاء العالم، وقلبته من حال إلى حال، وأتت بأعظم إصلاح عرفه التاريخ البشري وقاومت عوامل التحليل والانحراف والتبديل أكثر من اثني عشر قرناً (إلى عهد كارليل) وجاوزته إلى أربعة عشر قرناً، وستقاوم كذلك وتقاوم الإلحاد واللادينية لتبقى كما هي، وتجد فيها الأمة المحمدية غذاءها الروحاني، (لا أكثر من اثني عشر قرنا فحسب) بل أربعة عشر قرناً كاملا، ثم أكثر فأكثر، ذلك لتعيش حياة شريفة، رافعة الرأس في ظلالها المباركة، إلى أن تقوم القيامة، فتجزي كل نفس بما عملت وهم لا يظلمون.
وقال كارليل في كتابه المذكور أيضاً:
( فمحمد هو الذي قال إنه رسول من عند الله، وبرهن على صدق قوله بدين نشره في الناس، أخذه مئات من الملايين ومضى عليهم في ذلك قروناً طويلة، وهم يحبون دينهم هذا، ويتحمسون له أكبر تحمس.
فماذا يراد من الأدلة على نبوته بعد ذلك؟).
وقال الفيلسوف كارليل في كتاب (الرسالة المحمدية):
(لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يدعيه المدعون من أن دين الإسلام كذب وأن محمداً خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثنا عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء، أكذوبة وخدعة؟
أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الراي أبداً، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا ا لرواج ويصادفان منهم (أي الملايين) هذا التصديق والقبول، فما الناس إلا حمق مجانين، وما الحياة إلا سخف، وعبث وضلال، كان الأولى بها ألا تخلق!
هل رأيتم قط معشر الناس، أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً وينشره؟ عجب والله. إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب..
وعلى ذلك فلسنا نعد محمداً قط رجلاً كاذباً متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته أو يطمح إلى درجة ملك أو غير ذلك من الحقائر والصغائر، وما الرسالة التي أداها إلا كانت حقاً صريحاً، وما كانت كلمته إلا صوتاً صادقاً صادراً من العالم المجهول (يعني الغيب) كلا! ما محمد بالكاذب ولا بالملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فذا هو شهاب قد أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله.
ومضى كارليل يقول: (ثم علينا أن لا ننسى شيئاً آخر، وهو أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتلق دروساً عن أستاذ أبداً، وكانت صناعة الخط حديثة العهد، إذ ذلك، في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمداً لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلمه هو عيشة الصحراء وأحوالها، وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهد بعينيه، ويتلقى بفۆاده من هذا الكون عديم النهاية، وعجيب والله أميةمحمد! نعم إنه لم يعرف من العالم ولا من علومه إلا ما تيسر له أن يبصره بنفسه أو يصل إلى سمعه في ظلمات صحراء العرب، وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت، يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فماشئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة، لا يتناول عرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته وكشف ظلمته، وأبان حجته واستنار دفينته، هكذا يكون الكلام وإلا فلا!
وقد رأينا محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد طوى حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهمة كريماً براً رۆفاً تقياً فاضلاً حراً أبياً).
ثم قال كارليل
(أيزعم الكاذبون أن الطمع وحب الدنيا هو الذي أقام محمداً وآثاره؟ وهذا الزعم حماقة، وأيم الله وسخافة وهوس! أي فائدة لمثل هذا الرجل في جميع بلاد العرب، وفي تاج قيصر وصولجان كسرى، وجميع ما في الأرض من تيجان وصوالج؟
واين تعبير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر؟ أفي مشيخة مكة وقضيب مفضفض الطرف أو في ملك كسرى؟
كلا! إذن فلنضرب صحفاً عن مذهب الجائرين القائل:
(إن محمداً كاذب) ونعد موافقتهم عاراً وسبة وسخافة وحمقا، فلنربأ بنفوسنا عنه ولنترفع!
ولقد قيل كثيراً في شأن نشر محمد دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلا على كذبه، فشد ما أخطأوا وجاروا!
إنهم يقولون: ما كان الدين ينتشر لولا السيف، ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة هذا الدين وأنه حق).
ثم قال: (أولم يروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحياناً؟ وحسبكم ما فعل (شارلمان) بقبائل السكسون: )
وفي الختام قال كارليل:
(لقد كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أمور حياته وأحواله، وكان طعامه عادة الخبز والماء وربما كان يصلح ويرفو ثوبه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟
فحبذا محمد من نبي خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد في الليل، قائم النهار، ساهر الليل، دائب في نشر دين الله، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان، وهو بحق النبي ذو الخلق العظيم).
نقول: انتهى هنا ما رويناه من اعتراف الفيلسوف الإنجليزي الكبير (كارليل). ولا شك في أنه اعتراف عن دراسة وإنصاف لخدمة الحقيقة والتاريخ، كما أنه جرأة ملموسة على وجه الناس من أبناء بلاده ورجال دينه المسيحي، الذين حادوا عن طريق الإنصاف، واجترءوا على نبي الإسلام، محمد (عليه الصلاة والسلام)، واتهموه بالكذب، وهم كاذبون (كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذباً) كما كذبهم كارليل بقوله: (أيزعم الكاذبون.. إلخ. وقد حكم عليهم بأنهم أخطأوا وجاروا من قبيل (وشهد شاهد من أهلها).
اعداد : سيد مرتضى محمدي
القسم العربي : تبيان