الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ففي هذا الزمن تباعد الجيران بعضهم عن بعض فأصبحت تمر الشهور بل السنوات ولا يعرف الواحد منا جاره وأحواله بينما في بعض الأحياء كثرت شكاوى بعض الجيران ممن جاورهم لأمور متعددة كاطلاع على العورات أو روائح مؤذية أو مشاكل الأولاد أو رمي القمامة أمام منزل الجار أو إغلاق مدخل سيارته أو غير ذلك من صور الإيذاء لذا فقد جمعت في هذه الرسالة ما تيسير لي من أدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء في بيان حقوق الجار وحرمة إيذائه سائلا المولى جل جلاله أن ينفعنا بها فأقول مستعينا به :
أولا : قال الله تعالى : ( وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (النساء 36) قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وكل مَن ذكر في هذه الآية فحقه واجب وإن كان كافرا .ا.هـ([1]) وروى جابر بن عَبْدِ الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الجِيرانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا، وجار له حقَّان، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ، لَهُ حق الجَوار. وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ ) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد وله مراتب بعضها أعلى من بعض فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيعطى كل حقه بحسب حاله وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي ا.هـ
ثانيا : في الصحيح عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ). ولمسلم بلفظ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ) . قال القاضي عياض رحمه الله : معنى الحديث إن من التزم شرائع الإسلام لزمه إكرام جاره وضيفه وبرهما وكل ذلك تعريف بحق الجار وحث على حفظه .
ومن لوازم الإكرام والإحسان ترك أذية الجار فعن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ ) فهنا رغب النبي صلى الله عليه وسلم في ترك أذية الجار وعدها من أمارات صدق الإيمان .
ومن أعظم صور الإيذاء إيذاء الجار في أهله أو ماله عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : سأل رسولُ الله صلى الله عليه و سلم أصحابه عن الزنى ؟ قالوا : حرام حرمه الله ورسوله . فقال ( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره ) وسألهم عن السرقة ؟ قالوا : حرام حرمها الله عز و جل ورسوله فقال ( لأن يسرق من عشرة أهل أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره ) .
وكانت العرب تفتخر بحماية الجار وأمنه لهم قال الأوزاعي رحمه الله تعالى : قد قال شاعر من العرب يذكر فخر قومه ويذكر أمن جارهم فيهم ويمثل ذلك بحمام مكة في الأمن فقال :
يَرَى الْجَارُ فِيهِمْ أَمْناً مِنْ عَدُوِّهِ --- كَمَا أَمِنَتْ عِنْدَ الْحَطِيمِ حَمَامُهَاومن لوازم ذلك غض البصر وعدم الاطلاع على عورات الجيران من نوافذ وغيرها
إذا شئتَ أنْ ترْقَى جدارَكَ مَرّةً --- لأمرٍ فآذِنْ جارَ بيتِكَ من قبلُ
وقال حاتم الطائي :
نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ --- وَإِلَيْـهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِدْرُ
مَا ضَرَّ جَـارًا لِي أُجَاوِرُهُ --- أَنْ لَا يَكُـونَ لِبَابِهِ سِتْرُ
أَعْمَى إذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ --- حَتَّى تُوَارِي جَارَتِي الْجُدْرُ
بل من الإحسان إلى الجار ترك أذية دوابه ولو تعدت فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : إنه كانت ليلتى من النبي صلى الله عليه وسلم فطحنت شيئا من شعير فجعلت له قرصا فدخل فرد الباب ودخل إلى المسجد وكان إذا أراد أن ينام أغلق الباب وأوكأ القربة وأكفأ القدح وأطفأ المصباح فانتظرته أن ينصرف فأطعمه القرص ... فأقبلت شاة لجارنا داجنة فدخلت ثم عمدت إلى القرص فأخذته ثم أدبرت به قالت وقلقت عنه واستيقظ النبي صلى الله عليه و سلم فبادرتها إلى الباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( خذي ما أدركت من قرصك ولا تؤذى جارك في شاته ) .
5/ مؤذ الجار ناقص الإيمان عن أبي شريح رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ) . قيل ومن يا رسول الله ؟ قال ( الذي لا يأمن جاره بوائقه ) .
6/ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ) قال البغوي رحمه الله : قوله " بوائقه " يريد غوائله وشره ، يقال : أصابتهم بائقةٌ ، أي : داهيةٌ. قال القرطبي رحمه الله تعالى : قال القرطبي فمن كان مع هذا التأكيد الشديد مضرا لجاره كاشفا لعوراته حريصا على إنزال البوائق به كان ذلك منه دليلا على فساد اعتقاد ونفاق فيكون كافرا ولا شك أنه لا يدخل الجنة وأما على امتهانه بما عظم الله من حرمة الجار ومن تأكيد عهد الجوار فيكون فاسقا فسقا عظيما ومرتكب كبيرة يخاف عليه من الإصرار عليها أن يختم له بالكفر فإن المعاصي بريد الكفر فيكون من الصنف الأول فإن سلم من ذلك ومات بلا توبة فأمره إلى الله وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في رعايته وحفظ حقه .
أما المحسن للجار فكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( أَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ) .
7/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : ( هِيَ فِي النَّارِ ) قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : ( هِيَ فِي الْجَنَّةِ) .
8/ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فشكا إليه جارا له فقال النبي صلى الله عليه و سلم - ثلاث مرات - : ( اصبر ) ثم قال له في الرابعة أو الثالثة : ( اطرح متاعك في الطريق ) ففعل قال : فجعل الناس يمرون به ويقولون : ما لك ؟ فيقول : آذاه جاره فجعلوا يقولون : لعنه الله فجاءه جاره فقال : رد متاعك لا والله لا أوذيك أبدا .
وقد جاء من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه بلفظ : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم يشكو جاره فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ( اطرح متاعك في الطريق ) قال : فجعل الناس يمرون به فيلعنونه فجاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ما لقيت من الناس قال : ( وما لقيته منهم ) ؟ قال : يلعنوني قال فقد لعنك الله قبل الناس ) قال : يا رسول الله فإني لا أعود قال : فجاء الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ( قد أمنت ).
يَلُومُونَنِي إذْ بِعْت بِالرُّخْصِ مَنْزِلًا --- وَلَمْ يَعْرِفُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغِّصُ
فَقُلْت لَهُـمْ كُفّـوا الْمَلَامَ فَإِنَّهَا --- بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
8/ أول الخصوم يوم القيامة الجيران عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ ) قال المناوي رحمه الله تعالى : أي أول خصمين يقضى بينهما يوم القيامة جاران آذى أحدهما صاحبه اهتماماً بشأن حق الجوار الذي حث الشرع على رعايته .
9/ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :قال رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ) لعظم حقه، وواجب بره قال ابن بطال رحمه الله تعالى : فى هذا الحديث الأمر بحفظ الجار والإحسان إليه والوصاة برعي ذمته والقيام بحقوقه . وقال بدر الدين العيني رحمه الله تعالى : قوله سيورثه أي سيجعله قريبا وارثا وقيل معناه أي يأمرني عن الله بتوريث الجار من جاره وهذا خرج مخرج المبالغة في شدة حفظ حق الجار . عن مجاهد قال : كنت عند عبد الله بن عمرو وغلامه يسلخ شاة فقال : يا غلام إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي . فقال رجل من القوم : اليهودي أصلحك الله ؟ قال إني سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يوصى بالجار حتى خشينا أو رؤينا أنه سيورثه .
10/ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ ) " لأن الجار لما كان مأمورا بالإحسان إلى جاره كان المتمسك به مستوجبا للثواب فمن كان أكثرهم حظا من ذلك كان أعظمهم ثوابا عليه فكان عند الله خيرهم في الضيافة " لذا فكل مَن كان أكثر خيرا لصاحبه وجاره فهو أفضل عند الله والعكس بالعكس .
11/ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم ( إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا ) لأنه المراد بـ (الجار ذي القربى ) على أحد الأقوال، وقد قُدِّم في الذكر على الجار الجنب اهتماماً به واعتناء بشأنه، ففيه إيماء إلى تقديمه عند المضايقة . وقال المهلب : وإنما أمر بالهدية إلى من قرب بابه لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه وأنه أسرع إجابة لجاره عندما ينوبه من حاجة إليه في أوقات الغفلة والغرة فلذلك بدأ به على من بعد باب داره وإن كانت داره أقرب .
12/ عن أبى ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً ، فَأكثِرْ مَاءهَا ، وَتَعَاهَدْ جيرَانَكَ ) قال القرطبي رحمه الله تعالى معلقا : " فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق ؛ لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة ؛ فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره ، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة ، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة ، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة. وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم ، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية ؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها ، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه ؛ وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينويه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة ؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب " ا.هـ
13/ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ) ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه ) .
وَكَيْفَ يُسِيغُ الْمَرْءُ زَادًا وَجَارُهُ --- خَفِيفُ الْمِعَي بَادِي الْخَصَاصَةِ وَالْجَهْدِ
14/قال مُطَرِّفٌ رحمه الله تعالى : كَانَ يُبَلِّغُنِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، حَدِيثًا كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَهُ فَلَقِيتُهُ ، فَقُلْتُ : كُنْتُ أَشْتَهِي لِقَاءَكَ ، قَالَ : لِلَّهِ أَبُوكَ ، فَلَقَدْ لَقِيتَ فَهَاتِ ، فَقُلْتُ : كَانَ يَبْلُغْنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم : كَانَ يُحَدِّثُكُمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، يُحِبُّ ثَلاثَةً وَيَبْغَضُ ثَلاثَةً ، قَالَ : أَجَلْ ، فَلا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي ، أَجَلْ فَلا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي ، أَجَلْ فَلا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى خَلِيلِي ، قَالَ : قُلْتُ : فَمَنْ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ ؟ قَالَ : ( رَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ مُحْتَسِبًا مُجَاهِدًا ، فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَقَاتَلَ ) ، قَالَ : وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ ، ثُمَّ تَأَوَّلَ هَذِهِ الآيَةَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ، قَالَ : قُلْتُ : وَمَنْ ؟ قَالَ : ( وَرَجُلٌ لَهُ جَارُ سُوءٍ يُؤْذِيهِ ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ وَيَحْتَسِبُ حَتَّى يَكْفِيَهُ اللَّهُ أَوْ يَمُوتَ )، قَالَ : وَقُلْتُ : وَمَنْ ؟ قَالَ : ( وَرَجُلٌ كَافِرٌ فِي قَوْمٍ فَأَدْلَجُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي آخِرِ اللَّيْلِ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْكَلالُ وَالنُّعَاسُ ، فَنَزَلُوا فَضَرَبُوا بِرُءُوسِهِمْ ، فَتَوَضَّأَ وَقَامَ ، فَتَطَهَّرَ فَصَلَّى رَهْبَةً لِلَّهِ وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ )، قَالَ : قُلْتُ : فَمَنِ الثَّلاثَةُ الَّذِينَ يَبْغَضُهُمُ اللَّهُ ؟ قَالَ : ( الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ ) ، وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ يَعْنِي فِي كِتَابِ اللهِ ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ) قُلْتُ : وَمَنْ ؟ قَالَ : ( الْبَخِيلُ الْمَنَّانُ ) ، قُلْتُ : وَمَنْ ؟ قَالَ : ( التَّاجِرُ الْحَلافُ أَوِ الْبَيَّاعُ الْحَلافُ ) .
15/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَارِ السَّوْءِ فِي دَارِ الْمُقَامِ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ عَنْكَ ) عن الحسن رحمه الله تعالى أن لقمان قال لابنه : يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء .
16/ عن نافع بن عبد الحارث- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ( من سعادة المرء الجار الصّالح والمركب الهنيّ والمسكن الواسع ).
وأختم بأن العلماء قد اختلفوا في حد الجار الذي تترتب عليه هذه الأحكام قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : " واختلف في حد الجوار فجاء عن علي رضي الله عنه : مَن سمع النداء فهو جار . وقيل : مَن صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار .وعن عائشة : حد الجوار أربعون دارا من كل جانب . وعن الأوزاعي مثله وأخرج البخاري في الأدب المفرد مثله عن الحسن وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك مرفوعا ( ألا إن أربعين دارا جار ) وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب : أربعون دارا عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه . وهذا يحتمل كالأولى ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كل جانب عشرة " ا.هـ
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى : " والذي يتحصل عند النظر أن الجار له مراتب الأول الملاصقة والثاني المخالطة بأن يجمعهما مسجد أو مجلس أو بيوت ويتأكد الحق مع المسلم ويبقى أصله مع الكافر والمسلم وقد يكون مع العاصي بالتستر عليه "ا.هـ
وقال الأسيوطي رحمه الله تعالى : " ولو أوصى لجيرانه. فقال أبو حنيفة: هم الملاصقون . وقال الشافعي: حد الجوار أربعون دارا من كل جانب, وعن أحمد روايتان، أربعون ، وثلاثون , ولا حد لذلك عند مالك " ا.هـ
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى : " ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الجار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا ) وهذا نص لا يجوز العدول عنه إن صح وإن لم يثبت الخبر فالجار هو المقارب ويرجع في ذلك إلى العرف "ا.هـ
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى : " وقد وردت بعض الآثار بما يدل على أن الجار أربعون دارا من كل جانب ولا شك أن الملاصق للبيت جار وأما ما وراء ذلك فإن صحت الأخبار بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحق ما جاءت به وإلا فإنه يرجع في ذلك إلى العرف فما عده الناس جوارا فهو جوار "ا.هـ
وقال محدث العصر ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى : " وكل ما جاء تحديده عنه صلى الله عليه وسلم بأربعين ضعيف لا يصح ، فالظاهر أن الصواب تحديده بالعرف ، والله أعلم "ا.هـ والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين