العشّار, النهر الذي سيفقد مجراه
فقدَ هذا النهر الكبير اسمه الحقيقي منذ زمن بعيد, وتعرض مجراه للتقلصات والتراجعات, التي فرضتها عليه الظواهر الجيمورفولوجية الغامضة, وخضع حوضه للتغيرات التكتونية البطيئة من دون أن ينتبه إليه احد. فانكمش مجراه, وتَقَزّمَ طوله تدريجيا من ثمانية فراسخ (28 كيلومتر) في زمن الخلافة الراشدية, إلى اقل من ربع فرسخ (كيلومتر واحد تقريبا) في المرحلة الراهنة.
كان فيما مضى حلقة الوصل بين دجلة العوراء (شط العرب), وكرى سعدة (المجرى الأدنى للفرات), فتشوهت ملامحه الرئيسية بعوامل النحت والتعرية, وتقلبات الفيضان والجفاف والتصحر والاضمحلال, حتى بات على وشك أن يقطع علاقته بالبصرة.
كان معروفا بأعماقه الكبيرة, وبقدرته على استيعاب السفن المحلية والمراكب الخشبية, التي يزيد غاطسها على سبعة أمتار, والمحملة بالبضائع, فتردت أعماقه الآن إلى اقل من نصف متر, وانقطعت علاقته بالتجارة وخطوط الشحن, وغادرته حتى الزوارق الصغيرة إلى غير رجعة.
كانت تتفرع منه شبكة معقدة من الجداول والسواقي والترع, التي تعج بحركة الابلام والقوارب الصغيرة الملونة, اما اليوم فقد جفت تفرعاته كلها, وارتبط مصيره بشبكة الصرف الصحي, وصار مستودعا للمياه الآسنة, وبركة تعج بالأوساخ والقاذورات والنفايات والعبوات البلاستيكية والصناديق الكارتونية. تجاهل البصريون اسمه الحقيقي من دون قصد, ولم يتطرقوا إليه في كتاباتهم وقصائدهم, حتى إذا سألتهم عن اسمه ؟. قالوا بكل ثقة: انه العشار. وإذا استفسرت منهم عن أصل التسمية ؟. قالوا جازمين: أنها تعود إلى أواخر الدولة العثمانية (قبل 250 عام تقريبا), وأنها تعزى إلى تجمع العشّارين, لاستيفاء ضريبة العشر (10%) من التجار عند مدخل النهر. ولا يسمحون للسفن بدخول النهر, إلا بعد تفتيشها, وتعشيرها.
لكنك لن تجد من يدلك على اسم النهر عند اندلاع ثورة الزنج, ولا عن اسمه في الأيام التي دارت فيها معركة (ذات السلاسل), ولا عن اسمه قبل تمصير البصرة, ولا يزال معظم الناس, ومنهم من العاملين في مجالات العلوم التاريخية والتراثية لا يدركون أن (العشار) اسم لأقدم مساجد مدينة (الأُبلّة), ولا علاقة له بجمارك الدولة العثمانية وضرائبها. أما الاسم الحقيقي للنهر فهو (نهر الأُبلّة), والدليل على صحة هذه المعلومات, التي نستعرضها هنا لأول مرة, نجده في كتاب سنن أبي داود, وهو دليل قاطع لا يمكن دحضه أبدا, لأنه يزيح الغبار عن هذا اللبس في التسمية.
قال أبو داود السجستاني في (باب في ذكر البصرة), قال: حدثنا محمد بن المثنى عن إبراهيم بن صالح. قال : إنطلقنا حاجين, فإذا رجل, فقال لنا : إلى جنبكم قرية يقال لها الاُبُلّة. قلنا : نعم. . قال : من يضمن لي منكم أن يصلي لي في مسجد العشّار ركعتين, أو ربما أربعا, ويقول هذه لأبي هريرة ؟. فقد سمعت رسول الله (ص), يقول : (( إن الله يبعث من مسجد العشّار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم )), وقال العلامة المحدث الشيخ أبو الطيب, صاحب (عون المعبود): مسجد العشار مشهور, يتبرك بالصلاة فيه (عون المعبود ج 11 ص 422), ويتكرر الحديث نفسه في (معجم البلدان), و(الملاحم والفتن), وتحدثت مصادر أخرى عن هذا المسجد, الذي يحمل منذ بضعة قرون اسم (مسجد المقام). وهو من المساجد البصرية, التي حافظت على شكلها, وموقعها حتى يومنا هذا. وهذا يعني أن العشّار يمثل جزءا بسيطا من مدينة الاُبُلّة. .
وذكر (ناصر خسرو العلوي) : ان المسافة بين نهر الاُبُلّة ونهر المعقل, هي فرسخ واحد. ولو حسبنا المسافة بين نهر العشّار ومدينة المعقل الآن. لوجدنا أنها تقترب من سبع كيلومترات, وتساوي فرسخ واحد. وهذا يعني أن نهر العشّار هو خليفة نهر الاُبُلّة.
ثم أن بقايا أطلال القصور القديمة المقامة حصريا على طول إمتداد النهر, والتي لا تزال شاخصة حتى الآن. إضافة إلى وجود محلة السيف (بكسر السين), والتي يرمز اسمها إلى مستودعات تخزين البضائع المستوردة والمصدرة. هي دليل آخر على وجود ملامح ورواسب تاريخية لنهر الاُبُلّة في حوض هذا النهر العجوز. .
في حين تقدم لنا محلة المشراق, الواقعة على ضفة النهر, دليلا ملموسا على : أن ما يسمى حاليا بنهر العشّار. هو نهر الاُبُلّة نفسه. إذ إن معظم المصادر التاريخية تؤكد على. أن سهل بن عبد الله التستري دفن في محلة المشراق على ضفاف نهر الاُبُلّة. وقالت العرب : ما بين نهر الاُبُلّة ونهر المعقل حُلّة. وهي إشارة إلى تقارب وتوازي نهر الاُبُلّة ونهر المعقل, الذي حفره معقل بن يسار المازني. حيث كان النهران يجريان صوب القبلة لمسافة أربعة فراسخ, ثم يلتقيان ويكوّنان قناة واحدة تسير مسافة فرسخ واحد ناحية الجنوب, وهذه الحقيقة تؤكدها تحركات سرايا صاحب الزنج. وتجحفله في المعقل, في المنطقة الواقعة شمال مدينة الاُبُلّة إستعداد للهجوم على المدينة المحصنة بالأسوار العالية, وباشر بالهجوم من محورين, فشنَّ غاراته من ناحية شط عثمان بالرجالة, وبما خف له من سفن من ناحية شط العرب. وأخذت سراياه تضرب إلى ناحية نهر المعقل. وهذه دلالة أكيدة على أن نهر المعقل من الأنهار القريبة لنهر الاُبُلّة. وبما أن نهر العشّار هو أقرب الأنهار الكبيرة إلى المعقل. فإن الإستنتاج المنطقي يشجعنا على الإقناع بأن نهر العشّار هو نهر الاُبُلّة. وليس غيره. .
بيد أن هذا النهر الجميل الضارب في أعماق التاريخ تحول اليوم للأسف الشديد من جاذب سياحي إلى مكبٍ للنفايات, وانقطعت صلته نهائيا بشط العرب بعد غلقه عمليا بالسدود والنواظم, وربما ستنقطع صلته بالمياه, ويفقد مجراه, ويختفي نهائيا من خارطة البصرة
منقوووووول