بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(البقرة: 207).
أصناف النّاس
في حديثٍ له، يفصّل الإمام عليّ(ع) أصناف النّاس في العبادة، فيقول(ع):
"إنَّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادةُ العبيد، وإنَّ قوماً عبدوا اللهَ شُكراً فتلك عبادةُ الأحرار، وهي أفضل العبادة".
بعدها يرفع الإمام عليّ(ع) يديه متوجّهاً إلى الله سبحانه ليعلن خياره: "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
من خلال هذا الحديث، يريد الإمام(ع) أن يبيِّن أصناف النّاس في التّعامل مع الله وعبادته؛ فهناك من النّاس من يعبدون الله رغبةً بالحصول على ما عند الله من نعيم الدّنيا وثواب الآخرة، وهؤلاء يعتبرهم الإمام(ع) تجاراً يريدون أن يربحوا الخير في الدّنيا، ويريدون لهم موقعاً في الآخرة حيث جنّة الله.
وهناك صنف آخر، وهم الّذين يعبدون الله ويطيعونه ويلتزمون أوامره خوفاً من عقابه وعذابه؛ هم يخشون وعيد الله لهم بالبلاء في الدّنيا وعذاب الآخرة، ولذلك يعيشون رقابة الله لهم، ويعبدونه ما دام هاجس الخوف ماثلاً أمامهم.
أمّا الصّنف الثالث، فهم الّذين يندفعون إلى عبادة ربهم لحبّهم له، لشكرهم لعطائه، ولإحساسهم بفضله، ليبادلوا إحسانه بإحسان، وتكريمه بتكريم، وفضله بفضل.
وهذه العبادة هي الّتي سماها الإمام عليّ(ع) عبادة الأحرار، وهي الّتي كانت خياره.
وهذا لا يعني اعتباره العلاقة بالله المبنيّة على الرّهبة والرّغبة خطأ، فالله هو من أعلن قبوله بهذه العلاقة على هذين الأساسين: ترغيب النّاس بتأدية العبادات والقيام بالأعمال الصَّالحة للحصول على الثَّواب وبلوغ الجنَّة، وتخويفهم من العقاب والنَّار إن هم خالفوا أوامره ونواهيه..
لكنَّ الإمام عليّاً(ع) أراد الرّقيّ بهذه العلاقة، لتكون علاقة أساسها الحبّ لله، بحيث يُطاع الله حتّى لو لم يكن هناك ثواب، ولا يُعصى حتّى لو لم يكن هناك عقاب. وهذا هو العشق لله، هو الذّوبان حباً وطاعة، هو الحياة بحبّ الله دون سواه، هو الغنى بعينه، هو الاستغناء عن كلّ ما عدا هذا الحبّ...مدرسة الحبّ للهلقد نهل عليّ(ع) ذلك من مدرسة رسول الله(ص)، عندما قيل له: "لم تُتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: ألا أكون عبداً شكوراً".
هي إذاً مدرسة الحبّ لله، هذا الحبّ الّذي يقف خلف كلّ تلك الحركة الجهاديّة والرّساليّة والقياديّة، هو الحبّ الّذي يُغني الحياة ولا يعطّلها كما قد يفهم البعض خطأً، حيث يظنّ البعض أنّ الحبّ لله يعني أن تذهب بعيداً وتتفرّغ لعبادته من دون أيّ انشغالات، إنّ حبّ عليّ لله هو الخزّان الّذي عاش(ع) عليه في كلّ مفاصل حياته.
ولقد كان حبّ عليّ لله حاضراً في ما أورده الله في القرآن الكريم عنه وعن الزّهراء(ع): {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً }(الإنسان: 8-9).
وحبّ عليّ لله هو الحاضر في قرار رسول الله(ص) يوم خيبر، بعد أن عجز كلّ الرّجال الّذين أرسلهم عن فتح الباب، فقال: "لأعطينَّ الرّاية غداً رجُلاً يحبّ الله ورسوله، ويُحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه".
وحبّ عليّ لله كان حاضراً في معركة الخندق، عندما راح المسلمون ينادون عليّاً أن يقتل عمرو بن ودّ العامري قبل أن ينقضّ عليه، فيما تنحّى الإمام جانباً قبل قتله، ولما سئل: لِمَ فعلت ذلك؟ قال(ع): "عندما جلست على صدره، تفل في وجهي، فخفت إن قتلته على مثل هذه الحال، أن أقتله ثأراً لنفسي، فتنحّيت حتّى برد غضبي، ليكون قتلي له حبّاً لله خالصاً".السّبيل لعبادة الأحرارأيّها الأحبّة:كم نحن بحاجة إلى أن نسمو بعلاقتنا بالله كما سما أمير المؤمنين بها. ولكن قد يقول قائل: أين نحن من أمير المؤمنين؟ وهل من سبيل لعبادة الأحرار هذه؟
نعم، الأمر متوفّر، ولكنّه يحتاج إلى بذل مجهود متواصل وكبير، وأوّل المجهود هو أن نستحضر هذا الحبّ في قلوبنا، ننضجه في نفوسنا، حتّى لا يُطمس وتطغى عليه مشاعر أخرى، علينا دائماً أن نتفقّده بالرّعاية، ونتحسّسه، ونحاسب أنفسنا حوله.
وبعد ذلك نعلن هذا الحبّ، ونعبّر لله عنه، نعبّر له بطريقتين:
بالعبادة والذّكر والدّعاء ولقاءنا به عبر الصّلاة؛ أن نأتي إلى الصّلاة للقاء من نحبّ، وأن نعطي هذا اللّقاء وقته، وأن نتحضّر له ونستعدّ، لا أن يكون همنا إسقاط الفريضة، حتّى وإن كان هذا أمراً مقبولاً، والله من حبّه لنا يقبله، ولكن يجب أن لا نرضى بهذا إن كنّا نريد عبادة الأحرار.
أمير المؤمنين الّذي نتولاه، كانت أوقات لقياه بالله في صلاته من أروع اللّحظات، فهو من ذكرت سيرته أنّه حرص على وقت الصّلاة وصلاة اللّيل حتّى في أشدّ اللّيالي حراجةً؛ ليلة الهرير في معركة صفّين. فحين افتقده أصحابه رأوه يصلّي، وعندما قيل له: أهذا وقت صلاة؟ قال: "وعلام نقاتلهم؟"، وولده الحسين أيضاً صلّى هو وأصحابه وأهل بيته في أشدّ الأوقات حراجةً، يوم عاشوراء.
هكذا علّمونا، أنّ اللّقاء مع الله لا يؤجّل مهما كانت الظّروف، بل على العكس، كلّما اشتدّت الظّروف، يلوذ الإنسان بمن يحبّ أكثر... ولكنّنا، للأسف، نلاحظ أنّ أول شي يُضحَّى به هو الصّلاة، وأحياناً لأمور غير مهمّة أبداً... فليكن لقاؤنا مع الله هو محور تحرّكنا في حياتنا...
والطّريق الثّاني لنعبّر عن حبّنا لله، هو أن نجيّر هذا الحبّ. كيف؟ أن نحب في الله، أن نعطي في سبيل الله، أن أعفو عن خطأ فلان معي حبّاً لله... وهكذا يكون حبّ الله هو الخزّان والوقود الّذي يؤمّن لي الدافعيّة لنشر الحبّ لمن حولي، وبذلك تسمو الحياة كلّها وتصبح أكثر إشراقاً لي ولمن حولي.
كم نحن بحاجة إلى أن يتجلّى حبّ الله فينا وبيننا، نحتاج إلى من يقول إنّ حبّ الله يجمعنا، أن يقول كلّنا خلق الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله.