كيف يبدأ النص ..
بين الفكرة و فوضى الجمل الشعرية / الدلالة المركزية و فكرة بؤرة النص
كثيراً ما سمعنا من رواد النقد إبان الحركة النقدية السابقة للحداثة ـ عصر الحداثة هو زمن شيوع البنيوية ـ عن مفهوم ( الوحدة الموضوعية للنص ) حتى إذا ما دخلنا إلى عصر الحداثة بدا أن الحديث عن تلك الوحدة الموضوعية ضرباً من الكلام عن ماضٍ انتهت صلاحيته ، و الحق أننا ما زلنا نشهد نصوصاً تتوافر فيها الوحدة الموضوعية ، لكن الفرق يتضح حين نعلم أن النص ـ قبل الحداثة ـ كان يعاب حين لا تتوافر فيه الوحدة الموضوعية ، إذ يكفي أن يقول ناقد عن نص أنه لا وحدة موضوعية فيه حتى ينتهي أمره ، أما في عصر الحداثة و ما بعدها فقد اختلفت المعايير النصية و ضوابط أدبيتها ، صرنا أكثر فهماً للنص و ضرورياته الحداثية التي لا مجال للتعرض إليها هنا .
الوحدة الموضوعية التي نتكلم عنها لها عدة تعريفات يكفينا هنا أن نفهم عنها كونها : الفكرة أو البؤرة الرئيسة للنص و التي لا بد أن ترتبط بها كل أجزاء النص ، ففي الشعر مثلاً لا بد أن تخدم الأبيات الشعرية الدلالة الرئيسة في القصيدة و لا بد أن ترتبط معها ( دلالياً أو معنوياً حتى ) بما يجعل من الأبيات كلها في منزلة ثانوية قياساً بالفكرة أو البؤرة المسيطرة على النص و بمقام خدمة المعنى الذي تريده تلك الفكرة أو البؤرة الرئيسة للنص ، مثلاً : قصيدة تتحدث عن الغربة .. تنشغل فعالية القراءة بتأويل كل أبيات القصيدة خدمة لهذه الفكرة ـ أي الغربة ـ و تجهد نفسها ـ أي القراءة ـ في سبيل ربط دلالات الأبيات مع بعضها و تأكيد فكرة الغربة كوحدة موضوعية للنص .
لاحقاً طرأ تطور على مفهوم الوحدة الموضوعية و صار بعض النقاد يعدّها : تلك الصلات و الروابط المتصلة مع بعضها و التي تؤكد أن النص واحد لا يتجزأ في دلالاته و يتحد في دلالة معينة تؤكد تلاحم أجزائه .... و كيفما اتفق الأمر لم يتطور الأمر بحسب ظني .
المهم من ذلك كله أن الكاتب حينذاك ـ متأثراً بالنقد و سلطته التي تؤكد ضرورة توافر الوحدة الموضوعية ـ كان يكتب على نمط لا يخرج عن هذا المعيار الذي يمثل مقصلة تقطع عنق النص إن حاول الخروج عليه .
هل حقاً هناك فكرة في النص ؟ هل تحضر هذه الفكرة في ذهن الكاتب قبل أن يكتب ليكتب على منوالها نصاً ؟ هل فكّر سراج محمد قبل أن يكتب : ما دلّ معنى كما معناك يا عبث ؟؟ أم أن نزقية الشعر و تحرره أرفع من أن تذعن لفكرة لتبني على منوالها ؟ بهذا السياق أيضاً هل الفكرة تأتي بالشعر أم العكس ؟ إنها لأسئلة شائكة .. نعم أقرُّ بأنها شائكة .. فالحق أنني لو كنتُ من أنصار أن الفكرة تأتي بالشعر لقلتُ : أن الشاعر تقدح في ذهنه فكرة ما فتصير بيت شعر ، ألم يفكر عبد الوهاب البياتي بهذه الفكرة حتى خرج قوله : من يوقف النزيف في ذاكرة المحكوم بالإعدام قبل الشنق ؟!! لا بد أن سيناريو هذا المشهد حين يقف المحكوم بالإعدام قبل شنقه و يسترجع شريط حياته كلها منذ طفولته حتى ساعة تنفيذ الحكم هذه كان حاضراً في ذهن البياتي قبل أن يصير شعراً ، و لو كنتُ من أنصار أن الشعر ـ بتمرده ، بكينونته التي قيل عنها أنها وحي لا يمكن تفسير حدوثه بــ كيف و لماذا و متى و أين ـ يأتي بالفكرة لاستشهدت بروائع المتنبي التي صارت أمثالاً تضرب ، لاستشهدت بقول عبد الأمير جرص :
أعداد لا تحصى من القتلى احتشدوا في الثكنة
وعندما سألهم آمر الفوج: ماذا تريدون
أجابوا: نريد أن نموت
و قوله رحمه الله :
كلامك حلو
سوّسَ حياتي..
أي فكرة تأتي بمثل هذا ؟!! حاشاه من شعرٍ أن ينقاد لفكرة .. هذا شعر أتى بالفكرة .
و لكي لا يتشوش فكر أحدهم أقول موضحاً : أننا يمكننا أن نفهم كيف تُنتج الفكرة شعراً ، لكن كيف ينتج الشعر فكرة ؟ إنه و بكل بساطة ما ندعوه بــ ضربات الشعر ، و كأن الشاعر عازف بيده آلة وترية ، يصدف أنه دون قصد و هو يدوزن آلته أن يضرب على وتر فيستحسن النبر الناتج فيتبعه بضربة و أخرى حتى يسكر طرباً فيستقيم له أن يأتي بالبيت .. و ما دمنا نتكلم عن الشعر و الشاعر بمعناهما الحقيقيين فإنه لا بد أن تصدر الفكرة .
و تبقى جدلية ( الفكرة من الشعر و الشعر من الفكرة ) قائمة ... و هذا ما لا يهمنا بالدرجة الأساس هنا ، المهم أن نتعرف على أن الفكرة تنتج النص و النص ينتج الفكرة على حدّ سواء .
هنا تكلمنا عن ( الفكرة و فوضى الجمل الشعرية ) تلك الفوضى التي تكلمنا عنها بما يقابل الفكرة تنتج الشعر و أرجعناها إلى تمرد الشعر .
هل هناك دلالة مركزية في النص ؟ بمعنى هل من الواجب أن تحضر الدلالة المركزية في فكر الكاتب قبل أن يكتب ؟ في الروايات أكاد أجزم أن البعض الكثير منها يبدأ بفكرة مركزية ستشكل لاحقاً الدلالة المركزية للرواية .. إذ إن طبيعة هذا الجنس الأدبي ـ الرواية ـ تقتضي توافر فكرة رئيسة أو لنقل فكرة دلالة رئيسة للرواية ، بل أفكار ثانوية أخرى و دلالات تقتضيها هذه الأفكار يفكر الروائي بطريقة ما لإنجازها داخل الرواية حين يكتب ، بمعنى آخر يمكننا أن نجد في مفكرة الروائي أو دفتر ملاحظاته على أفكار متعددة و إسقاطات حتى من الحياة اليومية ربما و بحسب الرواية التي يريد كتابتها .
أما البؤرة ( نعني بها كل ما يمكن أن يأخذ دوراً رئيساً في الدلالة الكلية للنص ، و قد سبق و شرحنا معنى الدلالة الكلية للنص في درس سابق ) و هنا من الضروري الإشارة إلى أن من يحدد البؤرة ـ في ضوء موضوع درسنا هنا ـ هي القراءة لا الكتابة ... لكن هناك معطيات نصيّة حتماً تتوافر في النص هي من ترسم الخارطة و تعطي الأهمية لتلك الدلالة لتكون البؤرة دون غيرها ... على أنه من الممكن أن تتوافر أكثر من بؤرة في النص .... ما يهمنا هنا أن نؤكد على أنه يُستبعد اهتمام الكاتب قبل كتابة النص أن يكون منشغلاً بتقصي البؤرة و تحديدها مسبقاً في النص الذي سيكتبه كما هو الحال مع الدلالة المركزية في الرواية .
مما تقدم يمكننا القول و باختصار :
- يمكن أن يبدأ النص بفكرة تحضر في ذهن الكاتب قبل الكتابة ، و يقوم بأداء الفكرة بجمل أدبية تكوّن نصاً .
- يمكن أن يبدأ النص بضربة ، و بشكل أسهل نقول : يمكن أن يبدأ النص بجملة شعرية أدبية تحضر في ذهن الكاتب بشكل مفاجئ غير مخطط له ، ثم يسترسل الكاتب بالكتابة فتقوده تلك الجملة الشعرية الأدبية إلى كتابة نص كامل .
- يمكن أن تحضر دلالة مركزية في ذهن الكاتب ، و ينجز كتابة نصه و هو يستحضر تلك الدلالة و يؤلف أجزاء النص خدمة لتلك الدلالة .
- ليس من الضروري أو الواجب أن يستحضر الكاتب في ذهنه بؤرة النص و يرهق نفسه في محاولة إظهارها في نصه ... الأمور تجري باسترسال حين الكتابة .
الواجب /
- حدد فكرة معينة و حاول أن تجسدها في نص لا يتجاوز الــ 6 أسطر .
- اكتب ـ على ورقة خارجية ـ جملة تخطر في ذهنك .. على أن تكون جملة أدبية ... ثم حاول أن تسترسل معها و تكتب ما لا يتجاوز الــ 6 أسطر .
- تصور أنك روائي ... استحضر في ذهنك حدثاً أو شخصية لتكون روايتك التي تعتزم كتابتها عنها ... أكتب لنا تعريفاً أدبياً بهذا الحدث أو الشخصية التي اخترت و بما لا يتجاوز الــ 4 أسطر .
- اختر نصاً يعجبك .. و بعد قراءته بتأمل أشر لنا ـ برأيك ـ أين ترى بؤرة النص ؟
المحبة للجميع .. و من الله السلام ... حاولت جاهداً تبسيط مضمون الدرس .. أعتذر للنقد عن حيفٍ قد يكون لحق بصاحبات الجلالة مفاهيمه ، كما أعتذر عن تبسيط أكثر ربما طمع به حسن ظن البعض بصاحب الدرس .