لماذا أكتب بعد كل هذا الغياب؟ هل لأنني أشعر بأن الله يحبني جدا, و أن أهلي ما يزالوا على قيد الحياة؟. هل أكتب الآن, في هذه اللحظات المختلطة بالسعادة و الحزن, فقط لأنني بحاجة إلى الكتابة, كأسي الوحيد من نهر الحياة المتدفقة..
سوف أبدأ الآن بسرد قصة أهم يوم في حياتي, إنه ليس يوم زواجي أو يوم موت أحدهم.
حدث كل شيء بسرعة. في مدرسة صلاح الدين, في الصف الرابع ج.. و بعد محاولات يائسة في النوم, تلقيت اتصالا من رقم مجهول, فتاة تعتذر لي عن الاتصال في هذا الوقت المتأخر من الليل, و تخبرني بارتباك “استعد, يجب أن تكون في مركز الأمم المتحدة صباحا عند الساعة الثامنة”. مكالمة هاتفية غيرت كل شيء, الحكومة السويدية سوف تنقل رعاياها من بغداد, و أنا ماذا أفعل؟ كيف أترك أهلي في الحرب, و أسافر إلى بلد الأمن و السلام في وقت غير لائق بتاتا.. لم أنم تلك الليلة, الأفكار تزاحمت في رأسي, و المشاعر تحولت إلى أشباح ترعبني.. كنت خائف جدا من الحرب, من الصواريخ التي لازلت أذكر كيف سقطت خلف خطواتي و أنا أركض أركض أركض نحو اللاشيء, فقط أركض بجنون, و الركض لن يحمي روحا من قذيفة حربية قد تنفجر في قدمك أو في جسدك.. و لو كان للشوارع أن تصرخ, لصرخت و بكت و شقت نفسها لتبتلع الناس الهاربيين من القصف و تحميهم من الموت أو من الجراح أو حتى من تقطع الأجساد و من الشلل.
قررت أن أذهب إلى مركز الأمم المتحدة, و هذا أيضا يتطلب مخاطرة بالروح, لأن القصف في كل مكان, و لا يوجد ثمة كائن حي في الشوارع.. كانت أمي و أبي و أختي معي في الصف حين كنت أرتدي ملابسي المتسخة و أستعد للسفر, كنت أرتجف, كنت أحاول أن أبدو طبيعية أمامهم. عانقت أختي و بقيت متشبث بها و أبكي, و لكنني تركتها هناك هي الأخرى مع دموعها, و رافقني أبي و أمي إلى بوابة المدرسة, جلسنا ننتظر سيارة الأجرة التي ستنقلي إلى مركز الأمم المتحدة, و حين سمعت صوت السيارة في الخارج, بدأت أبكي دون توقف, عانقت أبي بشدة و دموعي تسيل على كتفه و أسمعه يقول لي بصوت حزين “ليش تبجي, انت أحسن منا, طالع من الحرب, الله يوفقك وليدي..”, ثم عانقت أمي و لم أستطع فك ذراعي من عناقها, كنا نبكي نحن الاثنتان. ثم مشيت إلى السيارة دون أن التفت ورائي, لم أكن أمتلك تلك القوة كي أنظر إليهم مجددا فأقع باكيا.
وصلت المركز بسلام, و هناك وجدت نفسي محاطا بأشخاص يرتدون ملابس بيتية, كلهم بدا عليهم التعب و الحزن, كانت عيونهم منتفخة من البكاء و من قلة النوم.. جلس إلى جانبي طفل على وجهه جروح بسيطة, و لكنها ستظل عميقة إلى الأبد, كانت أمه و اخوته الآخرين في الباص, قالت أمه للجميع “انتبهوا, اذا سألكم الجنود عن الخدوش في وجوهكم, قولوا أنكم تشاجرتم مع بعضكم, لا تقولوا أنها من القذيفة التي سقطت في غرفتكم..”. يا إلهي, الأم توصي أولادها وصايا ضعيفة, مهزوزة, إنهم منهكون و قلقون على أرواحهم..
سار الباص بنا إلى معبر إيرز و كانت خلفنا و أمامنا سيارات الأمم المتحدة, و أعلام و إشارات ضوئية ترفرف فوق السيارات في إشارة للطائرات الحربية فوقنا إلى أننا لاجئيين و متجهيين إلى المطار. رأيت من خلال النافذة التي أسند رأسي إليها ناس من حينا يركضون باتجاه المدارس, حفاة و على ظهورهم فراش و أغطية عشوائية.. و في الطريق إلى معبر إيرز شاهدت حجم الدمار الهائل الذي أصيبت به المدينة, البيوت المهدمة, الدماء التي لم تجف على الحجارة و زجاج النوافذ المهشمة.. كانت مدينة منقلبة رأسا على عقب, مدينة فقدت كل ما يمكن وصفه بالحياة.
( يُتبع..)