بأقدامنا الحافية ...على حصى الطرقات التي أشبعتها أزاميل المحن حفراً ونبشاً ونقبا ، أتيناك كي نستر بعض خيباتنا ، ونفضح لديك بعض أحزاننا .
أنا – يا سيدي يا ابن جعفر – جئت كي ألقي على مسامعك قصيدة الحزن الأزلي الذي يكتنف وجه الفضاء ، وأسمعك أبيات فشلي الذي صنعته عمائم وحمائم الردة ، وأسح على شباكك دموع حسرتي التي صنعتها سنين (الخيبة الصغرى) و (الخيبة الكبرى) ، وأرتمي في حضنك باكياً – كالطفل – من وجع الفطام من السعادة ، حيث دفعني الآباء والأمهات إلى الابتعاد عن ثدي الفرح ، وحلمة السعادة ، وباعوني في سوق نخاسة (المذهب) ، واشتروا بي ثمناً قليلا.
كنت – يا ابن الطيبين – أعالج خوفي في زمن المحنة ، وأدوس فوق أغنيات الخوف ، وتراتيل الاغتراب ، وأحبو إليك حاملاً قيثارة عشقي ، ولهفة وجدي ، وشهوة الخلاص من سياط الألم المتدفق من زق الذلة ، كنت آتيك (خائفاً أترقب) كموسى ، أيمم وجهي نحوك كل عام ، وأردد بباب بيتي الذي انتهكته همجية السلطة ( عسى أن يهديني ربي سواء السبيل) .
كان الخوف يؤذيني أكثر من التعب ، والهلع ينتابني أكثر من العطش ، والترقب يمتصني أكثر من انتظار الموت ، وكنت أنزف من همومي الثكلى أضعاف ما أنضخه من العرق ، وكنت أردد بيني وبين نفسي ترانيم من العتاب ووجع الغياب ، أسائلك – كنت – يا وجع الحقيقة قائلاً :- سجنوك وسجنوني ، وطاردوك وطاردوني ، وقتلوك ويقتلوني ، فخل ستقر بالخلاص فيك عيوني ؟
وعلى مرمى حجارة من يدي ، كنت أرى قبابك الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين ، فأجهش بالبكاء كأنني أرى بيت الله العتيق لأول مرة ، وأردد في محراب نفسي بكلمات تخرج من صدري مع الزفير / ها هنا بدء الخليقة ...ها هنا مسك الختام / فأجهش بالبكاء كطفل يصحو من غفوة مكتظة بوجع الكوابيس ...ولم يجد أمه .
كنت أريدك لي ..ولغيري ، وأنتظر منك أن تفتق شباكك المتلامع البارد كي تثير زوابع الثورة على أعداء وجود الإنسان ومنتهكي كرامته ، وكنت أترقب أن يتصاعد دخان غضبك من القباب ليبشر بصبح جديد من الخلاص ، كنت أقف على سطح داري كلما أزفت آزفة مغيب الشمس وأرقب الأفق .. أسأل اليأس :- هل من جديد ؟؟
وفي يوم من أيام الله الثلاثة ، نوديت لصلاة (الجمعة) من خلف أسوار الخوف ، فركضت أحمل أشلائي وأشلاء أخوتي ، ومررت عبر بوابة الصمت ، رأيت الوجوه مكتنزة بنشوة العيد ، ومخبوءة خلف صبح الكرنفال ...تداعب شهوتها للخلاص لحية بيضاء ترتسم كأنها الثلج على قمم الوجود ، وتهش عليها عصا نبيـّة اللمسة كأنها عصى موسى ، وشعرت أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن البحر ينتظر موسى وقومه .
لكن قومي يا سيدي ، قومي الذين تعرفهم ، أبناء جلدتي ، آثروا أن يتلمظوا بألسنتهم على بيت الخلاص ، ويتهمونه بأنه بيت دعارة فرعون ، ووضعوا أمامنا المتاريس ، ونشروا على طرقاتنا الأسلاك الشائكة ، وحين كان مؤذننا يقول (حي على الصلاة) كانوا يصيحون (حي على الخنوع) ، وحين كان مؤذننا يقول (حي على الفلاح) كانوا يصيحون من وراء ببيانهم المغلقة (حي على السكوت) ، وفي اللحظة التي كان مؤذننا يردد فيه (حي على خير العمل) كان أبناء جلدتنا يتغشون ثيابهم ويرددون بصوت رفيع (حي على طول الأمل) ، بيد أن الرجل الثلجي الملتحي الملتحف بكفنه ، كان يبدد أصواتهم مناديا بصوت يصك سمع الملكوت :- (حي على الخلاص) .
لم أكن أعرف سر خنوع هؤلاء ، لم أكن أعي سر التشظي الذي يكتنز في نفوسهم ، كنت أحسب أن (التقية) دينهم ودين آبائهم ، وكنت أحسب أنهم يسعون للخلاص من طريق آخر ربما فاتني التعرف إليه ، ولكن ...يا لهول ما خفي عني ، لقد تغابيت لدرجة أنني لم أفتش بينهم عن الحقيقة ، ولم ألحظ تحركات صبيانهم ، ولم أنقب بين جدرانهم عن ثقوب جرذانهم ، وخانني الفهم حتى ساقني إلى فهم خاطئ ، حسبت أن خوفهم لم يكن عليهم بل علينا ، وحرصهم لم يكن بهم بل بنا ، وتربصهم لم يكن بنا بل لنا.
حتى ذهب سيد الثلج الأبيض شهيداً ، واصطبغت لحيته بلون الدم ، واعتراها نجيع الدم فأيبسها ، حتى لم تعد النسائم لتقدر على مداعبتها حين تمر ، وشمت بنا الشامتون ، وضحك من نزقنا الخائنون ، وقالوا لنا بالحرف الواحد (لو كنتم معنا) ما أدرككم الموت .
وهوى – يا بن جعفر – تمثال فرعون ، بقينا نردد مع شبل رجل الثلج في آذاننا للصلاة (حي على الخلاص) .....وجاء أخوة يوسف ، فدخلوا عليه وهم له (مستنكرون) ، ومشت بساطيل (جنود الرب) فوق أرضك القدسية ، واستقبلهم جبناء الأمس بأحضان تشتهي الخمر والعسل ومخوخ الطير وموائد السلطان ، وبقينا نعالج جراح الأمس ، ونضمد جراح اليوم ، نختار بين (أن نصول بيد جذاء أو نصبر على طخية عمياء ، فعلمنا – ابتداءً – بأن الصبر على هاتا أحجى) .
وحين انكسرت جرار الصبر ، نهضنا ممسكين بحبل الخلاص ، نريد أن ننقض سلطة الاستعباد ، ونحرر العباد والبلاد ، فانتدب لنا أعداء الأمس أخوة الأمس ، فبعثوا بجرذانهم بين بيوتنا ، وحفروا تحت جدراننا ، وأعانهم علينا (خونة) منـّا ، فتهاوت بيوتنا ، وهربت عذراواتنا من هلع كرنفالات الاغتصاب ، وفر أطفالنا من شرر الحرائق ، واتخذ فتيتنا من الليل لباساً كي يعيدوا الكرّة بعد الكرّة ، وقبعت عجائزنا العاجزات عن الهروب تحت بنادق من يدعون أنهم يعشقون عصمتك ، ويحبون إمامتك ، ويتبعون ثورتك ، فأهدوا لكل عجوز من عجائزنا لذعة (أخمص) لا يمت بصلة إلى الله ، ولا يستحي من الله ، ولا يخاف الله طرفة عين .
المتمسحون بعبائتك – يا ابن رسول الله – كانوا أشد علينا من أنياب ذئاب أعدائك ، ونحن كنا لهم عوناً بذلك ، ولئن عرفت بعد أن تداركني العمر والصبر بأن الذين حاربوا رجل الثلج ، ووقفوا بإزائه ليمنعوه من الري ، لم يكونوا خائفين علينا ، بل كانوا يخافون منا ، ولم يكونوا حريصين علينا ولكم كانوا يحرصون على دنيا سوف لن يحضوا بها لو بقينا ، ولم يكونوا ينقون الموت من أجل بناء بيوت الله ، بل كانوا يخشون استئثار غيرهم بالحياة حين يموتون .
نعترف إليك – يا موسى بن جعفر – إننا هذا العام ، بدأنا حين سرنا إليك نشعر بالتعب ، ربما لأن الأمل لم يشغلنا عن التعب ، وبدأنا نشعر بالعطش ، ربما لأن الرغبة بالخلاص لم تكن معنا لتشعرنا بالري ، وبدأنا نشعر بالأمان ، ربما لأن الرغبة في الخلاص لم تكن مكنزة بمخيلتنا .
وعلى الطريق إليك .. ، نظرت حولي للزائرين ، سمعتهم يتحدثون الماء والكهرباء وزيادة متوقعة في الرواتب ، وتسهيلات جديدة في التعيين ، وسمعتهم مختنقين وهم يتحدثون عن الانتخابات المقبلة ، ويتحدثون عن المرشحين ، ووجدتني أنصت إليهم بخشوع ، وأشاركهم التنظير والتفضيل .
وفجأة ، لاحت قبابك أمام أعيني فأحببت أن أبدرك سيدي بالسلام وأعود للحديث معهم ، فتلعثمت الكلمات بين شفاهي ، ولم أجد غير أحرف لا تمت إليك بصلة ، ولا تبتدي من حيث انتهت ثورتك العارمة ، ولم أجد حرارتها بصدري ، ولم تخدش حنجرتي ...قلت بصوت خافت :- السلام عليك يا ابن رسول الله ...وانتظرت الجواب ، وحين لم يأتني منك الجواب ... استحييت .
راسم المرواني