حين احتل البريطانيون العراق اتضح لهم انه لا يمكنهم تطبيق القانون العام في المناطق التي تقطنها العشائر التي كانت تؤلف آنذاك جميع المناطق المحتلة خارج المدن العراقية، ولهذا قام "السير هنري دوبس" بوضع نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية* الذي أصدره في شهر شباط من عام 1916 على النهج الذي كان نهجه نظام جرائم الحدود الهندي الذي كان "السير روبرت ساندمان" قد وضعه وطبقه في منطقة "بلوشستان".
يقوم نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية على الأصول العشائرية معترفاً بعاداتها وطباعها التي يطلق عليها "سواني العشائر" التي أساسها القواعد الموروثة القديمة التي لها عند رجال العشيرة مكانة القانون الوضعي، إذ تحكم تلك "السواني" حياتهم فيقبلونها بغير مجادلة في قيمتها لإدراكهم انها تكفل لهم العدل والإنصاف، وإتباعاً لهذا النهج نصت المادة (88) من القانون الأساسي العراقي الصادر عام 1925 على ان "الفصل في قضايا العشائر يكون بحسب عاداتهم المألوفة بينهم بموجب قانون خاص"، كما نصت المادة (41) من قانون العقوبات البغدادي على انه "إذا اقتنعت المحكمة أو الحاكم الذي ينظر الدعوى ان المتهم هو أحد أفراد قبيلة اعتادت ان تفصل خصوماتها طبقاً لعرف القبائل وكان من المصلحة العامة وما يتفق مع العدالة ان يفصل في الدعوى طبقاً لعرف القبائل واقتنعت المحكمة أو الحاكم بثبوت الجريمة على المتهم فللمحكمة أو الحاكم بعد إدانة المجرم والحكم عليه طبقاً للعقوبات المنصوص عليها في هذا القانون أو في أي قانون آخر تبديل كل أو بعض تلك الععقوبة، بالعقوبة التي يقضي بها عرف القبيلة وللمحكمة أو الحاكم قبل تبديل العقوبة التحري عن عرف القبيلة إذا رأت أو رأى ضرورة لذلك، كما يجوز لها أو له إذا وجد ذلك مناسباً- للتحري عن عرف القبيلة- إحالة القضية على خبير أو خبراء بعرف القبائل وتكون أحكام المحكمة أو الحاكم خاضعة لتأييد أو نقض سلطة الهيئة الاستئنافية وفقاً لقانون أصول المحكمات الجزائية البغدادي، ويكون لتلك الهيئة في هذه الحالة علاوة عمالها من الوظائف بمقتضى الباب الحادي والعشرين من القانون المذكور الحق في نقض الأحكام التي تحال عليها بمقتضى هذه المادة"*.
نصت المادة (7) من نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية على انه إذا ظهر ان أحد الخصمين في إحدى الدعاوى فرد من العشائر وترآى له ان حسم الدعوى وفق العادات البدوية أقرب الى رضا الطرفين ورفع النزاع رفعاً تاماً ما لو حسمتها المحاكم النظامية المدنية أو الجزائية فيتم الفصل في النزاع على الطريقة المبينة في هذا النظام". قبل ان تصدر سلطة الاحتلال البريطانية النظام المذكور كانت الدولة العثمانية (أبان احتلالها للعراق) قد أصدرت القانون الوقتي لدعاوى الدم رقم (72) الصادر في 24 من شهر صفر عام 1330 للهجرة والذي نشر في جريدة "تقويم الوقائع" بعددها ذي الرقم (1014) الصادر بتاريخ الخامس من شهر ربيع الأول عام 1330 للهجرة، صدر هذا القانون للقضاء على جرائم الأخذ بالثأر، إذ يتم عرض النزاعات على لجان تسمى "لجان مصالحة الدم" وعند إصرار أحد أطراف الخصومة على رفض قرار لجنة المصالحة ولم يكتف بالدية مصراً على الأخذ بالثأر فأنه يخضع في هذه الحالة للأحكام العامة الواردة في القانون الجنائي.
ان نظام دعاوى العشائر الجزائية والمدنية أياً كان النقد الذي وجه له باعتباره عقبة أمام توحيد القضاء وتوحيد الولاء للامة بدلاً من القبيلة ولانه يحول دون تطبيق النظم الديمقراطية أو لانه يقف باتجاه معاكس للتطور في مجال المدنية، الا اننا لا يمكن ان ننكر تعبير ذلك النظام عن اعتقاد أبناء العشائر انه يحقق لهم العدل والأنصاف ويحقق لهم الاستقرار النفسي والاجتماعي، كما انه يستهدف- وهذه مسألة مهمة- دائماً إزالة آثار الجريمة ونتائجها بعد وقوعها، إذ ان الإجراءات المتبعة بموجبه تخلق حالة اجتماعية جديدة تتمثل في حالة التصافي ونسيان الماضي اثر التوصل للحل المقبول من قبل أطراف النزاع المبني على التراضي والقبول الطوعي.
ونرى ذلك بوضوح في المقدمات التي تتبع للسير بإجراءات الفصل العشائري، إذ تبدأ تلك الإجراءات بما يسمى "الفرشة" وتقديم الهدايا وزيارة عشيرة أو أسرة المعتدى عليه وإظهار الخضوع لهم. ان هذه الإجراءات تؤدي الى صفاء القلوب وتنقيتها من مشاعر الحقد والغضب وتهدئة النفوس ونزع ما علق بها جراء الواقعة، وبالتالي فأن هذه الإجراءات تحول دون العودة الى الثأر.
من المؤكد ان غايات هذا النظام هي ذات الغايات التي يستهدفها نظام الجزاء في الإسلام، الا وهي شفاء غليل نفس المجني عليه وأهله شفاءً يمسح آثار الجريمة. ان فرض القانون قد يحدث أثراً ولكن من فرض عليه القانون من دون اقتناع منه يستمر بالشعور ان ما فرض عليه كان بتأثير خارجي مخالف لسنته وعاداته، ولهذا نجد ان مثل هذا الشخص يستمر مناهضاً لذلك القانون ويستمر بمقاومته، بل ويحتال عليه للتخلص منه ومن آثاره. لقد دلت تجربتي الشخصية ان الكثير ممن تحكم عليهم المحاكم جزائياً أم مدنياً يتركون قاعة المحكمة وهم غير راضون عن أحكامها أو يدعون أنهم قد ظلموا ويسردون مختلف الأسباب والذرائع التي يحاولون بها دعم مزاعمهم هذه ويظلوا هم وأهاليهم ومعارفهم يرددون ذلك في أي مكان وأي زمان، الا ان هؤلاء لا يترددون ان يقبلوا "طواعية" ما يقرره "العارفة" أو "الفريضة" لأن قراره استند للسنن التي اعتاد عليها هؤلاء، وتبقى هذه السنن أكثر رسوخاً في نفوس الناس ويخضعون لها طواعية لانهم يجدونها أصلح لحالهم وادعى لتحقيق حياة أفضل لأنها تؤمن لهم الأمن والسلام والتضامن والتكافل الاجتماعي والاقتصادي. ان نظام "السواني" يحول دون ارتكاب جرائم جديدة من خلال تشديده العقاب ومضاعفته لعدة مرات، إذا كان العدوان منكراً إضافة للخزي الاجتماعي الذي يلحق الجاني وذريته، لهذا فأن الإنسان يضع هذه النتائج في باله، اذا ما راودته نفسه لارتكاب جريمة ما خاصة اذا كانت جريمة منكرة تحط من قدر فاعلها ومنزلته الاجتماعية فيكون في كل ذلك الوازع والرادع الذي يحول دون ولوج درب الجريمة.
قد لا نختلف في ان الغرض الأول والمهم الذي يستهدفه القانون من توقيع العقوبة على الجاني هو لمنع تكرار الجريمة وليس للانتقام من الجاني فمتى كان رضوخ الأفراد للقانون رضوخاً طوعياً، فأن القانون يكون قد أدى دوره لمنع تكرار الجريمة وتتحقق هذه الغاية، حين يكون للقانون جذوراً عميقة ضاربة في عمق الحياة الاجتماعية، اذ لا يمكن للقوة وحدها ان تحمي المجتمع فسلطان الدولة المعبر عن تلك القوة، لا نأمن انهياره، ان لم يستند لعوامل اخرى غير تلك القوة، ومن تلك العوامل التي تحول دون ذلك الانهيار القبول الطوعي للقانون، والذي يتحقق اذا كان القانون يستهدف التعبير عما يريده الناس، ويدركه وجدانهم وترتاح له ضمائرهم ويعتبرونه المعبر عن الحق والعدل. لقد أدرك بعض الكتاب أهمية القبول الطوعي للقانون في حياة المجتمع وضمان أمنه وسلامته فأبرزوا في مؤلفاتهم التراث الفكري الذي تستند له الأصول والقواعد والعادات العشائرية وأهميتها في إنهاء النزاعات ومن تلك المؤلفات كتاب (القضاء العشائري) للمرحوم فريق المزهر آل فرعون الذي صدرت الطبعة الأولى لكتابه في بغداد عام 1360 للهجرة المقابل لعام 1941 للميلاد، تفضل (رحمه الله) بجمع شتات عادات وأحكام العشائر العربية التي تسهم مع القوانين العامة في حفظ كيان المجتمع وسلامة أفراده كما أسهم الدكتور مصطفى محمد حسنين في دراسة أعراف العشائر العراقية وتقاليد العقاب لديها بكتابه نظام المسؤولية عند العشائر العراقية العربية المعاصرة المطبوع في القاهرة عام 1967، وهو رسالته لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة القاهرة وكنت قد نشرت موضوعاً عن القضاء الشعبي في المملكة المغربية في احد إعداد مجلة العدالة المحتجبة التي كانت تصدرها وزارة العدل العراقية، اذ وضعت المملكة المغربية أسساً للقضاء الشعبي المستند للعرف والعادة والتقاليد من خلال نظام قضائي أطلقت عليه قضاء الجماعات والمحاكم الاجتماعية.
وهذه المملكة العربية السعودية قننت قضاء المظالم الذي يستند الى مبادئ الشريعة الإسلامية والتقاليد والأعراف لحل النزاعات بين القوم بل لم تخلو أنظمة قضائية متقدمة وديمقراطية النهج في سلوك هذه المسلك فالولايات المتحدة الأمريكية نظمت محاكم خاصة للمناطق التي تقطنها قبائل (الهنود الحمر) حيث تفصل هذه المحاكم في القضايا المعروضة عليها على وفق العادات والتقاليد القبلية لتلك القبائل. ليست هذه دعوة لإعادة نظام دعاوى العشائر المدنية والجزائية الملغى وانما هي دعوة للبحث في إيجاد بدائل تنطلق من الواقع الاجتماعي للناس تلق القبول الطوعي والرضا بما يصدر بحقهم وتحقق السلم الاجتماعي فهذه دعوة للمعنيين بهذا الموضوع لاغنائه ببحوثهم ودراساتهم وسيجدون لدى هيئة تحرير المحكمة الصدر الرحب لنشرها حتى ان خالفت هذه الافتتاحية.