تتجدد مواسم الطاعات وتتكرر النفحات الربانية مرة تلوَ الأخرى؛ فمن رمضان وعشره الأواخر، إلى شوال وصوم ستة، إلى عشر ذي الحجة. وهكذا يمنحنا الله فرصاً جديدة للتوبة والرجوع إليه من خلال تلك المواسم العظيمة التي هي أشبه بمحطات تنقية وتطهير لأعمالنا. كما أن هذه المواسم هي ميدان رحب للتنافس والاستكثار من الخير {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

فضل العشر من ذي الحجة
وها هي عشر ذي الحجة قد أظلتنا بنفحاتها وبركاتها وخيراتها، تلك العشر التي أقسم الله بها في محكم تنزيله، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم فقال سبحانه: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في العمل الصالح فيها فقال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ"، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْء". (أخرجه البخاري ومسلم).

ومن المعلوم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، ومع ذلك فإن العمل الصالح في عشر ذي الحجة يفضله، باستثناء من جاهد بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء (أي استشهد).

ولقد اجتمعت في هذه الأيام طاعات جليلة ومن بينها: الحج والصوم والصلاة والأضحية والتكبير والتلبية وغيرها. وهذه الطاعات ما اجتمعت في صحيفة عبد إلا كانت سبباً في الفوز برضوان الله ودخول الجنة.

وقد كان السلف يعظمون هذه الأيام ويجتهدون فيها، قال أبو عثمان النهدي -كما في لطائف المعارف-: "كان السلف يعظِّمون ثلاثَ عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم".

وفي هذه الأيام تعج أرض الحرم بالزائرين من كل حدب وصوب جاؤوا من كل فج عميق، تصدح ألسنتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

وإن من أحكام هذه العشر إذا دخلت:
- أن يمسك المضحي عن شعره وأظافره، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ". رواه مسلم. وفي رواية: "فَلا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا". والبشرة: ظاهر جلد الإنسان. والذي ينطبق عليه الحكم هو المضحي فقط دون أهله أو وكيله أومن يباشر الذبح.

- كما أنه يستحب الصوم في هذه العشر، وخاصة يوم التاسع وهو يوم عرفة فقد قال صلى الله عليه وسلم: "صيامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ". رواه مسلم.
- ومن الأعمال الصالحة في العشر: التهليل والتكبير والتسبيح، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من أيامٍ أعْظَمُ عندَ اللهِ ولَا أَحَبُّ إلى اللهِ العملُ فيهِنَّ مِنْ أَيَّامِ العشْرِ فأَكْثِرُوا فيهِنَّ مِنَ التسبيحِ والتهليلِ والتحميدِ والتكبيرِ". صحح إسناده الهيثمي.

فبادر أيها المسلم باغتنام هذه الأيام فلعلك لا تدرك موسماً آخر للطاعات .. واجتهد في صلاتك وصومك وصدقتك .. وأخلص عملك لله.

ولله در من قال:

إِذا هَبَّـتْ رِياحُـكَ فَاغْتَنِمْهـا *** فَعُقْبَـى كُـلِّ خافِقَـة ٍ سُكُــــوْنُ
ولا تغفل عن الإحسان فيها *** فلا تدري السكونُ متى يكونُ

عبد الحميد المحيمد