بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
لا ريب في أنّ فترة الحج تنتهي مناسكها بعودة الحجيج إلى من حيث أتوا وهم في قمة الفخر والزهو بما تزودوا وشاهدوا وبما اكتسبوا من قيم وفضائل ومعانٍ قد تدفع الكثير منهم مع حرارة الدوافع واستمرارية الذوبان في مكنون الرسالة باتجاه تهيئة الحال و(المال) إلى رحلة إيمانية أخرى، باعتبار أنّها فريضة إلهية واجبة. وطالما هي كذلك ينبغي أوّلاً معرفة ما تعنيه بالنسبة للفرد المسلم وممارسة وحصر كلّ ما يساعد على تأديتها بشكل سليم، وكخطوة أساسية يجب الالتفات أو الإهتمام بالنفس باعتبارها مصدر البلاء والتوفيق وكهوى وسلوك لأنّها تشكل المعيار الذي ينحصر فيه قبول هذا المسعى أو عدم قبوله.
لذلك وكخطوة سليمة باتجاه تفعيل النيّة يستوجب إعداد وتهذيب النفس وتربيتها بالشكل الذي يؤهلها بالسير نحو هذا المسعى والفوز بالرضوان كنتيجة لاحقة ولا ريب فيه انّ النفس التي تصل إلى مرحلة السمو والعرفان تحس بأنّها موفقة ومجابة الدعاء وهذا ما نسميه بالرضوان أو الاطمئنان.
فالحج الذي وردت أكثر من 34 آية به وسورة بأسمه لأهمية موضعه ومكانته في الإسلام أوّل ما يعنيه هو التوجه لله وسلوك إلى لقائه في بيته وكعبته وشرائعه ورسله وأوليائه. والتوجه له وزيارته في مهابط وحيه ماذا يعني بل والمطلوب لكي يكون مقبولاً وبأي صورة يكون هذا الزائر وهو يقف أمامه مكتفياً بقطعتين من الغطاء الأبيض كيوم رحلته الأبدية مردداً (لبيك اللّهمّ لبيك) وأخيراً كيف تكون هذه التلبية ومن أي مصدر وشعور تنطلق.
ومع ذلك فأنّ التدين لا تخضع حالة الالتزام بمناهجه أو تأديتها إلى وقت ومكان معينين ولا هي قابلة للاقتطاع أو التقديم والتأخير لأنّها إيمان كامل بالدين ذاته بأصوله وفروعه التي بحصرها ربما تميزنا عن غيرنا. ومع مراعاة هذا الاعتبار وتأكيداً لهذا المفهوم، فانّ الإنسان الذي يروم الذهاب إلى الحج يدرك تماماً انّ الطريق المؤدي إليه لا يمكن اجتيازه ما لم يؤدي قبله بقية الرسوم (الفرائض).
لأنّ الذي يعمل بجانب ويعطل الجانب الآخر منها حسب الذوق أو الرغبات فإنّ مساعيه لا تقبل لأنّه يعتبر متمرداً وجاحداً بحقوق الله عليه وتكون طاعته ناقصة ومن يكون هكذا كأنّ الشيطان يكون له قرين حتى وإن كان لا يرغب بمودته وفي النهاية فانّ الرحمن لا يقبل من عبد له مع الشيطان (حكاية) وستكون رحلته مجرد سفرة أثرية سياحية ترويحية شأنها شأن بقية السفرات إلى عكركوف ومسلة حمورابي! وهنا تكمن أهمية الحج في الإسلام باعتباره آخر الفرائض المطلوبة التي لا يجوز القفز على ما يسبقها من أجل تأديتها.
وعند الشروع بتأديتها تكون النفس مهيأة تماماً لها كمعتقدات وهوى وسلوك ثمّ الالتزام الدقيق بأوامر الله ونواهيه ومنه يكون الحكم والقرار والانتماء ومنه أيضاً تفرح وتبكي وتدخل معترك الحياة. وتواجه الاختبار: وأي خلل بهذا التوازن يعني هنالك شيطان وينبغي رجمه لكي لا تتسع دائرة قوته في النفس المحبة له إلا...؟
وفي مكة يستمر تهذيب النفس وبصورة أكثر وقعاً وحماسة من أي وقت ومكان مضى لأنّ حرارة الإيمان بها تشتد ويزداد تعلقها بالله وهي تعلن في بيته العتيق التوبة والبراءة من المشركين والطهارة من كلِّ غلٍ أو حقدٍ أو درن من أدران الدنيا بل وتعلن الانتماء النهائي إليه (لبيك) لا لسواه طاغوت كأن أم فكر لهذا وذاك.
وكلما توغلت هذه النفس في معترك المراسم هناك يتوهج فيها حب الله ورسله وهي حريصة كلّ الحرص على ممارسة الشعائر ومعرفة الهدف منها فالساحة هنا للتجسيد لأنّ كلَّ ما يفرض السلطة والقرار على القلب والسمع والأبصار حاضر فيها مع الدلالات هي ترى وتفهم ما ينطوي عليه مثلاً توحيد البأس وخلع كلّ ما يميّز بينهم ويفرق عن الأهواء النفسية أو المظاهر الخارجية التي تتميّز بها الحياة الآن والغطاء الأبيض وحده يكفي للدلالة على قصور هذه الحكاية بالنسبة للإنسان لأنّه لا يأخذ منها سواه ويوم رحيله. وهو ذاته يلبس في الحج بمثابة (براوة وبروفة) تدقيق بالقياسات وهو تذكير ما بعده تذكير للإنسان إن شمخ يوماً أو غطس بأنّ الحياة لا تساوي غير هذا الغطاء. لذلك فرض على الحاج لبسه طيلة بقاءه في الحج مهما يكن هنا الحاج سواء كان ملكاً، أميراً أو قائداً للضرورة؟.
ومثلما في اللباس كمظهر خارجي كذلك يتطلب حضور القلب هنا وبكامل مفاصله وعدته لأنّ الحج كما عرفنا لا ينحصر في الطواف والسعي والرمي (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا...) (البقرة/ 200)، فالقلب هنا ينبغي أن يكون كلّه لله (أشد) ولا يصح حضوره عندما يكون جزءاً منه بعيداً عن مكة ولربما في مشروع اقتصادي أو سياسي أو في حالة اجتماعية وإذا كان جزء منه غائب تكون مساحة الذكر محصورة جدّاً. وهذا ما لا يصح قبوله. فكيف يتم استحضار ما يذكر الإنسان بالأنبياء والرسل وكيف كانت سيرتهم وجهودهم وسننهم وأمامه ما يدل عليهم من آثار ومقامات وأضرحة كما وكيف يتذكر الجو الوثني المظلم الذي كان سائداً آنذاك ودور إبراهيم (ع) في تبليغ ديانته الحنيفية وإرشاد الناس وظلامته مع قومه بل كيف يستحضر الفترة التي نشأ فيها الإسلام في هذه الربوع كيف بدأت الدعوة وكيف انطلقت وما هو دور الرسول (ص) فيها وكيف عانى واضطهد من أجلها وقبلها كيف نشأ وترعرع وعاش ثمّ نزول الوحي عليه ودوره في المعارك والغزوات وإقامة الولة الإسلامية.
وفي الحقيقة انّ فترة الحج تعتبر مدرسة في الهواء الطلق يتعلم ويكتسب الحاج فيها كلّ ما يريد من علوم دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتاريخية وجغرافية وسياحية.. إلخ وبالطبع مجاناً والمطلوب منه فقط حضور القلب وتوفر الاستعداد مع شيء من التضحية.