هوية الإسلام الصحيح
وأما هوية الإسلام الصحيح، فإنَّ المذاهب الإسلامية وإن كانت تُصرِّح بأنها تعتمد على القرآن والسنة الشريفة والعقل والإجماع، إضافة للقياس والعمل بالرأي عند مدرسة الصحابة، إلا أنَّ الواقع العملي لا يبدو كذلك؛ وهذا ما حدا بالسيد الأُستاذ الحيدري إلى تحليل هذه الظاهرة الخطيرة، وقد انتهى به البحث إلى إفراز مدرستين، الأُولى مدرسة الحديث، وهي المدرسة الحاكمة في جميع الأوساط الدينية؛ ومدرسة القرآن، وهي المدرسة المنكوبة المثكولة المهجورة، التي غبنا أو غُيِّبنا عنها، فطُرِحَ القرآن وحضر الحديث، وصار القرآن مرجعاً صورياً وصار الحديث مرجعاً حقيقياً متفرِّداً.
والمشكلة ليست في التفرّد وحسب، وإنما هنالك مشكلة أخطر وأعظم، وهي أنَّ هذا المُتفرِّد قد أُبتلي بالدسّ والتزوير والتشويه والتحريف؛ فبإجماع الأُمة الإسلامية أنَّ الروايات مبتلاة بالإسرائيليات والدسّ والتزوير، ومن الواضح أنَّ تاريخ هذا التزوير يمتدّ إلى صدر الإسلام، وأنَّ أول من شكا من ظاهرة التزوير والدس ووَضْع الحديث هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما هو المتواتر بين علماء المسلمين جميعاً.
وقد حاول الأعلام حلّ هذه المشكلة وتجاوز الإخفاقات الروائية، وهي صادقة ومحاولات جادة، ولكنها لا تفي بالغرض بل إنَّ الكثير منها قد أضرَّت أكثر ممَّا نفعت، من قبيل اعتماد التوثيقات العامة والخاصة للرجال، فصارت الرواية تُقبل لوثاقة رواتها وتُرد لضعف رواتها، وهذا هو منهج السيد الخوئي الذي رفض حتى ما هو مشهور بين الأصحاب من كون عمل الأصحاب جابراً وإعراضهم كاسراً، فقال: لا عملهم جابر للرواية الضعيفة ولا إعراضهم كاسر للرواية الصحيحة؛ كما أنّه رفض التوثيقات الأعلائية الواردة في بعض الأصحاب الذين تعتبر مراسيل مسانيد، من قبيل محمد بن أبي عمير؛ فكان منهجه الحاكم هو التوثيق الوارد في رواة الرواية.
وفي ظلّ هذا المنهج السندي سقطت مئات ـ إن لم تكن آلافاً ـ من الروايات العظيمة المضامين بسبب ضعف سندها؛ كما أنه قد اعتُبرت منها مئات الروايات الباطلة المضمون، وصُحِّح العمل بها بسبب صحَّة سندها لا غير.
من هنا يرى السيد الأُستاذ الحيدري أنَّ المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري القائم على أساس الروايات بالدرجة الأساس قد اعتمد على كم غير قليل من الروايات المدسوسة والمزوّرة، ولابد من تصحيح ذلك الأمر من خلال مراجعة ذلك التراث الروائي ووضع ضابطة جديدة لا تجعلنا نخسر المضامين العظيمة من جهة، ولا تجعلنا نقبل بالمضامين الباطلة من الجهة أُخرى، وليس أمامنا إلا القرآن الكريم، فهو النص الوحيد الذي لم يقع فيه التحريف بإجماع الأُمة الإسلامية، وبالتالي لابد من تنقية التراث الروائي قرآنياً.
جدير بالذكر أنَّ روايات العرض كثيرة، منها: عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): (اعرضوها على كتاب الله فما وافى كتاب الله عزّ وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه)(3).
إذن المرجعية الأُولى في التصحيح هو القرآن نفسه، كما أنَّ المرجعية الأولى في التأسيس هو القرآن نفسه، والرجوع للقرآن وعرض الحديث عليه هو ما عناه السيد الحيدري بالخروج من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن؛ فليس مراده ترك الروايات أو الطعن بها جزافاً، وإنما مراده وضع ضابطة قطعية لقبول التراث الروائي، وهذه الضابطة هي القرآن بمعية العقل البرهاني أيضاً.
وجدير بالذكر أيضاً أنَّ هنالك فوارق كثيرة بين إسلام الحديث وإسلام القرآن لابدَّ من الوقوف عليها؛ لبيان خطورة إسلام الحديث وجلالة إسلام القرآن؛ كما أنَّ هنالك ملامح وتطبيقات وثمرات علمية وعملية عظيمة بين هذين الإسلامين، اللذين يرى في أحدهما ـ وهو إسلام القرآن ـ هو الإسلام الصحيح، وفي الآخر ـ وهو إسلام الحديث ـ هو الإسلام غير الصحيح؛ وهذا نأمل الوقوف عليه توصيفاً في مناسبة أُخرى.
وأخيراً لا يُقال أنَّ إسلام القرآن هو مجرد دعوة عمرية مُبطَّنة؛ لأنها عين دعوى: (حسبنا كتاب الله)؛ فإنَّ إسلام القرآن وفق ما يراه السيد الأُستاذ الحيدري لا يلغي الحديث ليُقال فيه ذلك، وإنما هو دعوة للعودة للقرآن علماً وعملاً من جهة، وجعله الضابطة الأساسية في تصحيح الروايات من جهة أُخرى؛ فالقرآن هو المعيار الديني الأول، وهو المعيار التصحيحي الأول(4) للحديث.
انطباعاتي الخاصة حول المشروع الإصلاحي ورائده:
اتضح أنَّ تلك السطور قد تكفّلت بتقديم تصوير إجمالي موجز جداً عن المشروع الديني الإصلاحي، والذي يُمكن اختصاره بكلمة واحدة، وهي: (الرجوع من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن)؛ وهو مشروع لم يكن وليد وقته، وإنما له سوابق وإرهاصات كثيرة، فقد سبق أن تعرَّض السيد الأُستاذ (دام ظله) إلى هذا الموضوع في مناسبات مختلفة، وضمن عناوين مختلفة، حيث نجد جذور البحث في كتابه (منطق فهم القرآن)، وفي (المنهج التفسيري للعلامة كمال الحيدري)، وأيضاً في كتابه التفسيري (اللباب في تفسير الكتاب)، وفي بعض دروس البحث الخارج فقهاً وأُصولاً.
إلا أنَّ السيد الأُستاذ (دام ظله) ونظراً لأهمية البحث وضرورته فقد أفرد له حلقات خاصة في برنامجه المليوني الناجح (مطارحات في العقيدة)، وذلك في شهر رمضان من عام 1434هـ، فكانت عدد حلقاته قد بلغت العشرين، تدرَّج فيها بشكل تحقيقي منقطع النظير، مستعرضاً الخلفيات التاريخية والسياسية والأيديولوجية لانتشار إسلام الحديث وإقصاء إسلام القرآن، موضِّحاً خطورة الموقف وآثاره السلبية العظيمة، دون أن يترك الموقف في حيز النقد، وإنما أردف نقده البناء بتقديم النظرية الإسلامية للإسلام الصحيح، من خلال بيان أهم الملامح الأساسية لمشروعه الإصلاحي.