ينظر كثير من الباحثين والمهتمين بالنزاعات بإيجابية إلى التجربة الأيرلندية في حل الصراعات والنزاعات الطائفية والعرقية، خصوصا بعد اتفاق الجمعة العظيمة الذي رعته بريطانيا الداعمة للبروتستانت والولايات المتحدة الأمريكية في العام 1997، ليتم الإعلان رسمياً عن نهاية الحرب الأهلية التي حصدت آلاف الضحايا بين الفريقين المتصارعين: البروتستانت والكاثوليك، وبعد أن أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي إلقاءه السلاح والركون إلى المفاوضات التي وصلت إلى التسوية السياسية والطائفية ليؤسس إلى ما يسميه الأيرلنديون الشماليون «السلام السلبي»، ومن أحد أهم ملامحه الشاخصة اليوم جدار السلام.
في التاريخ، فقد احتلت بريطانيا جزيرة أيرلندا عام 1800. ويحدثنا أحد أساتذة الجامعات في أيرلندا الشمالية، فيؤكد أن احتلال الجزيرة من قبل بريطانيا قد جاء في ضوء الصراع بين الإمبراطوريات الأوروبية على النفوذ في أوروبا والعالم، وقد كانت إسبانيا تفكر ملياً في احتلال الجزيرة لتقترب من البر البريطاني، إلا أن المملكة التي لا تغيب عنها الشمس سبقت الإسبان في احتلال أيرلندا. مع هذا الاحتلال عملت بريطانيا على تغيير التركيبة الديمغرافية، فبدأت في جلب مزيد من البروتستانت البريطانيين وركزت في شمال جزيرة أيرلندا، لتبدأ الأزمة في التكون ويبلغ أشده عندما أعلن الأيرلنديون دولتهم المستقلة في 1916، إلا أن الجيش البريطاني أخمد التمرد، وتأسس الجيش الجمهوري الأيرلندي مع نهاية الحرب العالمية الأولى ووضع هدفه الرئيس الانفصال عن بريطانيا، الأمر الذي قاد البرلمان البريطاني إلى تشريع برلمانين وحكومتين محليتين واحدة في الجنوب والأخرى في شمال الجزيرة. لكن استمرار المقاومة الأيرلندية فرض على بريطانيا عام 1921 منح 26 محافظة استقلالها ضمن منظومة الكومونولث، حيث استمر هذا الوضع حتى العام 1949 بموافقة بريطانيا على تأسيس جمهورية أيرلندا المستقلة. بيد أن المقاطعات الست الشمالية، وبحكم الأغلبية البروتستانتية التي صنعتها بريطانيا بتجنيس البريطانيين فيها، فقد صوتت لصالح البقاء كجزء من التاج البريطاني، وظلت تنتخب 12 ممثلا لها في البرلمان البريطاني حتى العام 1972.
يبلغ عدد سكان أيرلندا الشمالية أكثر من 1.6 مليون نسمة، يشكل البروتسانت 54 في المائة من السكان و43 في المائة من الكاثوليك. وأصل الأزمة هو استفحال التمييز في التعليم والتطبيب والعمل ضد الأقلية الكاثوليكية، حيث تعتبر الأزمة في أيرلندا الشمالية أزمة مركبة بين السياسي والطائفي.
برلمان أيرلندا الشمالية صيغ بشكل يخدم البروتستانت ويحجم من دور الكاثوليك، حيث يتشكل من 42 عضواً، منهم 36 عضوا من البروتستانت الموالين لبريطانيا، وستة من الكاثوليك. وهذا الأمر يعكس حجم التمييز الذي يبدو أشهر علاماته شارع فولس (Falls) وشارع شنكل (Shankil)، يعتبر الأول ممثلا للكاثوليك والآخر للبروتستانت، بسبب الغالبية الساحقة التي تسكنه.
وقد ولد التمييز الطائفي حالات عنف تحولت إلى ظاهرة خصوصا في العام 1968، عندما أخذت رابطة الحقوق المدنية على عاتقها مواجهة هذا التمييز، لتبدأ المظاهرات في بعض المدن ثم تصل في نهاية المطاف إلى العاصمة بلفاست في العام 1968، وقد سقط كثير من الضحايا ومئات الجرحى وآلاف المشردين من بيوتهم، الأمر الذي أجبر حكومة أيرلندا الشمالية الموالية لبريطانيا إلى طلب العون من لندن والتدخل في الإقليم تحت يافطة حفظ الأمن. وفي العام 1972، وبعد أن استشرى العنف فرضت بريطانيا سلطتها على المقاطعات الشمالية الست وواجهت مظاهرة الأحد الدامي بالرصاص الحي قتل فيها 13 شخصاً وأصيب العشرات مما أدى إلى ردود فعل كبيرة على المستوى المحلي والدولي. وفي العام 1983 بدأت رئيسة وزراء بيرطانيا مارجريت تاتشر بتغيير سياستها الحديدية تجاه أيرلندا، وتم التوقيع مع حكومة دبلن على اتفاقية تتحدث عن أيرلندا الشمالية ومستقبلها واستعداد بريطانيا تقديم الدعم التشريعي اللازم لها. ويبدو أن هذه التفاهمات هي التي أسست إلى اتفاق الجمعة العظيمة في 1997، التي وضعت الأسس واللبنات الأولى للسلام البارد أو السلبي.
خلال زيارة في نهاية أغسطس الماضي واستغرقت أسبوعا بمعية مجموعة من البحرينيين، قدمت لنا المؤسسة التي دعتنا ندوات ومحاضرات وحلقات نقاش عن أيرلندا الشمالية، وحرصت على أن يكون المتحاربون من الطرفين حاضرين في أغلب هذه الفعاليات، حيث التجارب المؤلمة بدمويتها والحجم الهائل من الدمار الذي لحق بأيرلندا جراء الحرب الأهلية. حرب أوصلت صناع القرار هناك إلى خلاصة مفادها أن العنف لن يأتي بنتيجة، ولابد من قطع الشريان الذي يغذيه والمتمثل في التمييز بأشكاله المتنوعة. وقد بدأت أيرلندا الشمالية تسير على طريق المصالحة وشكلت مؤسسات ولجاناً من أجل الحد من التمييز في التعليم والعمل. ورغم سيرها البطيء نحو الاندماج الكلي، حيث لا تزال 85 في المائة من مدارس أيرلندا الشمالية منفصلة وغير مختلطة بين البروتستانت والكاثوليك، إلا أن الإرادة السياسية التي قررت وقف حمام الدم، تمكنت من فضح التمييز من خلال مؤسسات مدعومة من الحكومة.