نساء فاضلات
حميدة المصفاة ... أم الإمام الكاظم (عليه السلام)
لا شك أن الله تعالى كما يختار لحججه أطهر الأصلاب ، فهو يصطفي لهم الأرحام المطهرة ، والحجور العفيفة المنحدرة من أصول زاكية ؛ إذ لا يخفى مدى تأثير الأم ، وانعكاس صفاتها وملكاتها النفسية والخلقية على ولدها ؛ وبذلك تتظافر عوامل الوراثة مع المواهب الذاتية التي منحها الله للمعصومين (عليهم السلام )؛ ليصبحوا في أعلى مراتب الكمال الإنساني .
التخطيط الإلهي في اختيار أمهات المعصومين:
الملاحظ في أغلب أمهات المعصومين (عليهم السلام ) أنهنَّ من الجواري ، وهذا لحكمة أرادها الله تعالى ، وأرادها الأئمة (عليهم السلام) ، وإنما وقع اختيار الأئمة ( عليهم السلام ) على هؤلاء الجواري من دون سائر النساء ؛ لعلمهم ( عليهم السلام ) بأنهنَّ قد جمعن شرائط الاقتران بالمعصوم ، وصلاحيتهنَّ لإنجاب الإمام المعصوم ، والذي يدل على الاختيار الخاص للأم التي ستلد الإمام قبل ولادته بعشرات السنين ما ورد عن جابر بن عبد اللّه قال : ( دخلت على مولاتي فاطمة الزهراء . . . ، فقلت لها : يا سيّدة النساء ! ما هذه الصحيفة التي أراها معك ؟
قالت : فيها أسماء الأئمّة من ولدي . . . أبو إبراهيم موسى بن جعفر الثقة أُمّه جارية اسمها حميدة المصفّاة ) .
ومما يؤيد هذا الوجه أن الإمام (عليه السلام ) قد يختار واحدة بعينها من دون سائر الجواري اللاتي عرضن للبيع ، وقد تكون غير صالحة بحسب المعايير المادية للبيع والشراء كأن تكون مريضة في ذلك الوقت - كما سنرى في الرواية اللاحقة - إلا أن الإمام ( عليه السلام ) لا يختار غيرها ، بل تذكر المصادر أن هذه الجارية - مثلاً - قد تمتنع عن الاستسلام لأي مشترٍ يتقدم لشرائها حتى يكون الذي يشتريها هو الإمام ( عليه السلام ) بالذات مع إنها في ظروف لا تملك من أمرها شيئاً الأمر الذي يؤكد على أن هناك تخطيطاً إلهياً متقناً لأن تكون هذه المرأة قرينة للإمام ، وقد أعدّها الله تعالى لتصبح أماً للمعصوم ( عليه السلام ) .
هذا بالإضافة إلى أن المرأة التي يقع اختيار الإمام ( عليه السلام ) عليها ليست من عامة الناس ؛ بل من أشرف النساء ، وذات مكانة في قومها غير إنها وقعت في الأسر وجرّها ذلك إلى سوق النخاسين .
إن اكرمكم عند الله أتقاكم:
لا شك أن كون أم الإمام (عليه السلام) من الجواري لا ينقص من مكانة الإمام ومنزلته في الأمة ؛ لأن المعيار الإسلامي في تقييم الأشخاص هو التقوى وقد أكّد القرآن الكريم في آياته ، والرسول العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سيرته على ذلك ، وكانت النظرة إلى جميع الناس على أساس من التساوي ونبذ الفوارق العرقية والنسبية ، ولذا رفع الإسلام من شأن (سلمان) الفارسي الأصل حتى صار يُنسب إلى أهل بيت العصمة فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( سلمان منّا أهل البيت ) بينما وضع (أبا لهب) العربي الأصل والقرشي النسب ، وهو عم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل ونزل الوحي بلعنه في سورة قرآنية كاملة .
لكن سلوك بعض الخلفاء المخالف للإسلام أحيا النعرات الجاهلية ، وأعاد الطبقية إلى المجتمع الإسلامي ، وأسَّس لمنهج مخالف لما أراده الله ورسوله ، وحتى صار العربي يأنف من الاقتران بغير العربية ؛ لذا يروي لنا التاريخ أن (عبد الملك بن مروان) الأموي لام الإمام السجاد -عليه السلام - بشدة عندما أبلغه جواسيسه نبأ زواج الإمام من جارية له ، لكن الإمام -عليه السلام- ردَّ عليه بجواب أفحم حجته .
لقد أراد الأئمة -عليهم السلام- إظهار فساد هذه السياسة بإجراء عملي ، وبدأوا بأنفسهم ، وتزوجوا الجواري , وأولدوهنَّ خير البنين والبنات .
أم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام):
من أمهات الأئمة اللواتي كنَّ أمهات ولد زوجة الإمام الصادق ، وأم الإمام الكاظم (عليهما السلام) ، وهي السيدة حميدة المصفاة ابنة صاعد البربري ، وقيل : اسمها نباتة ، وتلقّب لؤلؤة ، ويقال : إنّها أَنْدلسية ، وفي مصادر أخرى أنها مغربيّة ، وكانت من التقيات الثقات ومن أشراف الأعاجم .
وصفها الإمام الصادق -عليه السلام- بقوله : ( حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها ، حتى أُدِيت إليَّ كرامة من الله لي ، والحجة من بعدي ) .
وهذا القول في وصفها يدل على ما ذكرناه سابقاً من وجود تخطيط إلهي متقن في شأن هؤلاء النسوة ليكنَّ - دون غيرهن- أمهات للمعصومين .
ومن فضل السيدة حميدة ومكانتها العلمية ما يظهر من بعض الروايات أن الإمام الصادق -عليه السلام- كان يأمر النساء في أخذ الأحكام إليها ، وكان -عليه السلام- يرسلها مع (أم فروة) تقضيان حقوق أهل المدينة .
وهي التي وهبت لابنها الإمام الكاظم -عليه السلام- الجارية المسماة (تكتم) والتي كانت من أفضل النساء في عقلها ودينها ، وأوصته بها قائلة : (يا بني إن تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها ولست أشك أن الله سيطهر نسلها إن كان لها نسل وقد وهبتها لك فاستوص بها ) .
لقد ذكرنا سابقاً أن اختيار أية امرأة لتكون أماً للمعصوم لا يأتي اعتباطاً فاختيار السيدة (حميدة) هذه الجارية لتكون زوجة للإمام الكاظم -عليه السلام- ، وتوقعها أن يكون من نسلها ذرية طاهرة يدل على علم خُصّت به ، أو ذكاء توسّمت من خلاله بشخصية الجارية (تكتم) ، ومستقبلها المشرق في عالم الإمامة .
مع الإمام الباقر (عليه السلام):
دخل أحد الأصحاب على الإمام الباقر -عليه السلام- وكان ابنه الإمام الصادق ( عليه السلام ) قائماً عنده ،فسأله لأيّ شيء لا تزوّج أبا عبد اللّه فقد أدرك التزويج ؟ قال ( عليه السلام )- وكان بين يديه صرّة مختومة - : سيجيء نخّاس من أهل بربر فينزل دار ميمون ، فنشتري له بهذه الصرّة جارية .
قال : فأتى لذلك ما أتى ، فدخلنا يوماً على أبي جعفر ( عليه السلام ) فقال : ألا أُخبركم عن النخّاس الذي ذكرته لكم ؟ قد قدم ، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرّة منه جارية ، قال : فأتينا النخّاس ، فقال : قد بعت ما كان عندي إلاّ جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأُخرى ، قلنا : فأخرجهما حتّى ننظر إليهما ، فأخرجهما . فقلنا : بِكَم تبيعنا هذه المتماثلة ؟ قال : بسبعين ديناراً ، قلنا : أحسن ، قال : لا أُنقص من سبعين ديناراً ؟ قلنا له : نشتريها منك بهذه الصرّة ما بلغت ، ولا ندري ما فيها . ففككنا الصرّة ، ووزنّا الدنانير فإذا هي سبعون ديناراً ، لا تزيد ولا تنقص ، فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر ( عليه السلام ) وجعفر قائم فأخبرْنا أبا جعفر بما كان ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال لها : ما اسمكِ ؟ قالت : حميدة .
فقال ( عليه السلام ) : حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة ، فقال ( عليه السلام ) : يا جعفر خذها إليك ، فولدت خير أهل الأرض : الإمام موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) .
هذه الرواية تدل على اهتمام الإمام المعصوم -عليه السلام- في اختيار الأم التي ستلد الحجة ، وتخطيطه وسعيه لإتمام الأمر بحسب ما أطلعه الله عليه من علم بخفايا الأمور .
السيدة حميدة وولادة الإمام الكاظم (عليه السلام):
روي عن أبي بصير قال : كنت مع أبي عبد الله -عليه السلام- في السنة التي ولد فيها ابنه موسى -عليه السلام- ، فلما نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد الله -عليه السلام- الغذاء ولأصحابه ، وكان -عليه السلام -إذا وضع الطعام لأصحابه أكثره وأطابه ، فبينا نحن نتغذى أتاه رسول حميدة : إن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا .
فقام أبو عبد الله -عليه السلام- فرحاً مسروراً فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنه ، فقلنا : أضحك الله سنك ، وأقرَّ عينك ما صنعت حميدة ؟ فقال : وهب الله لي غلاماً ، وهو خير من برأ الله ، ولقد خبّرتني بأمر كنت أعلم به منها ، قلت : جعلت فداك وما خبّرتك عنه حميدة ؟ قال : ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء ، فأخبرتها أن تلك إمارة رسول الله -صلى الله عليه وآله- ، وإمارة الإمام من بعده .
ولشدة سرور الإمام الصادق -عليه السلام- بولادة السيدة حميدة أنه أوْلَمَ بالمدينة - بعد عودته من الأبواء - لمدة ثلاثة أيام متواصلة كما جاء في الرواية عن منهال القصاب ، قال : خرجت من مكة أريد المدينة فمررت بالأبواء ، وقد ولد لأبي عبد الله موسى (عليهما السلام ) ، فسبقته إلى المدينة ، ودخل -عليه السلام- بعدي بيوم ، فأطعم الناس ثلاثاً ، فكنت آكل فيمن يأكل ، فما آكل شيئاً إلى الغد ، حتى أعود فآكل ، فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتى أرتفق ، ثم لا أطعم شيئاً إلى الغد .
أرتفق تعني : أتكأ على مرفق يده ، أو على المخدة وامتلأ ، مما يدل على فخامة الوليمة التي أقامها الإمام الصادق -عليه السلام- احتفاء بمولوده المبارك .
وهكذا عاشت السيدة حميدة في بيت الإمام الصادق -عليه السلام- ، تلك البيوت التي أذن الله لها أن ترفع ويُذكر فيها اسمه وحيث منبع الطهر والعفاف والقداسة ، فإذا انضم إلى ذلك الاستعداد التام كانت النتيجة هي بلوغ الغاية الممكنة في الاستقامة والكمال ، والسعي الدائم والدؤوب في خدمة الدين ، والدعوة إليه والتضحية في سبيله .
المصادر :
1- الأنوار البهية / الشيخ عباس القمي
2- مستدرك سفينة البحار / علي النمازي الشاهرودي
3- مستدركات علم الرجال / علي النمازي الشاهرودي
4- موسوعة المصطفى والعترة / الحاج حسين الشاكري
5- الفاطمة المعصومة / محمد علي المعلم